لن ننحني أمام الأباطرة الجدد

تغلغل المنظومة الرقمية في عصرنا الحديث أحدث في منظومة "العدالة" القائمة الكثير من التخبطات وخاصة في بداية الألفية الثالثة.
العدالة ظهرت في أبهى صورها عندما اجتمع الجمهوريون والديمقراطيون في الولايات المتحدة على قلب رجل واحد وأخضعوا أباطرة عالمنا الرقمي الجديد
نفوذ بعض المواقع في قطاع التكنولوجيا استوحش، لدرجة أنه صار يهدد كل من المنافسين والمستهلكين على حد سواء

العيش في قاع المجتمع وعلى هامش الحياة يجعل المرء فاقدا لأي إحساس، أو حتى رغبة، في التعبير عن ذاته بصدق، والدفاع عن آماله وطموحاته؛ لأنه وببساطة محروم من "العدالة" أو مجرد التفكير فيها؛ لطالما كان يعيش على وجه الأرض التي لا تعترف بوجود الضعفاء. ويصير أمله الوحيد هو تحققها بعد الموت عندما تتجسد في شكل عدالة السماء. 
و"العدالة"، كمفهوم، هي غاية كل فرد، ومن ثم صارت "العدالة" مصطلح سحري يدغدغ الآذان عند سماعه، ويبعث إحساسا غامرا بالنشوة والسعادة لارتباطه بسيادة القانون، سواء أكان سماويا أو أرضيا. وتسعى الدول الداعمة لمصالح أبناء شعبها والراغبة في التقدم والازدهار إلى تحقيق العدالة، ودعم كل الوسائل لتحقيقها على قدر الإمكان؛ حتى يشعر المواطن بالأمان والاستقرار. فعند الإيمان بوجود عدالة يمكن تحقيقها على وجه الأرض، يبذل المرء أقصى جهده لتحقيق التقدم الذي يضمن الخير ليس فقط لذاته، بل أيضاً لبلده وأبناء بلده، من أجل إعلاء كلمة الحق التي تجعل من موطنه نموذجاً يحتذي به.
وبسبب تيارات الظلم العاتية التي تتأصل في جميع أوجه الحياة، فقد الغالبية العظمى من البشر إيمانهم بوجود عدالة كاملة. وعلى صعيد آخر، صارت الكثير من الشعوب لا تؤمن بوجود أي عدالة على الإطلاق. وقد يكون السبب ليس فقط محاولة فصل عدالة الأرض عن عدالة السماء، لكن عدم دمج العدالة بسيادة القانون كما ينبغي. وحتى عندما يقترن القانون بالعدالة اقتراناً وثيقاً، قد تصير العدالة منقوصة، والسبب هو عدم محاولة ضخ دماء جديدة في منظومة العدالة القائمة لتضمن مواكبتها لسبل التطور التي تطرأ على المجتمعات. فبدون تطوير سبل تقصي العدالة، تغيب العدالة؛ لأن تطبيقها يصير قاصراً على المألوف من الحالات، في حين يغض الطرف عما لا يستطع مواكبته.

مهما كانت النتيجة، فلسوف يوقن الجميع أنه لا يزال على وجه الأرض عدالة أخرى - غير عدالة السماء – تحاول أن تساير مستحدثات العصر التي لم ترد في نصوص قوانينها

ويذكر، أن تغلغل المنظومة الرقمية في عصرنا الحديث أحدث في منظومة "العدالة" القائمة الكثير من التخبطات وخاصة في بداية الألفية الثالثة، لوجود فوضى وعشوائية في الاستخدام، مع عدم مقدرة على استحداث قوانين تنظيمية تتناسب وهذا التطور الذي تزداد وتيرته في كل يوم عن الآخر. لكن، بعد إرساء القواعد التنظيمية العامة لشكل الحياة في المجتمع الجديد الذي يشكل الملامح المبدئية للعصر القادم، بدأ المشرعون الدوليون في استحداث قوانين تنظيمية للحياة الرقمية الناشئة، التي جعلت من العالم الافتراضي واقعا ثابتا يؤثر بالسلب أو الإيجاب على حياة البشر. ولم يقتصر تطبيق هذه القوانين على الأفراد فقط، بل على المؤسسات التي صدرت هذا العالم الافتراضي للبشر، وزينته لهم بهدف أن يصير الملاذ الأوحد لكل البشر في أي موقف.
وظهرت العدالة في أبهى صورها عندما اجتمع الجمهوريون والديمقراطيون في الولايات المتحدة على قلب رجل واحد وأخضعوا أباطرة عالمنا الرقمي الجديد المتمثلين في مالكي مواقع "الأمازون" Amazon، و"أبل" Apple، و"فيسبوك"Facebook ، و"جوجل" Google  لسيادة القانون، بعد أن وجهوا لهم ضربات سياسية ضارية في الأربعاء الموافق 29 يوليو/تموز 2020. فلقد تم توجيه اتهامات بدلائل قاطعة للمديرين التنفيذيين لهذه المواقع تؤكد استخدام نفوذهم في سحق المنافسين؛ وجمع بيانات العملاء لاستخدامها لاحقاً في غراض خاصة؛ والاستحواذ على أكبر عدد من المستهلكين؛ وتكديس أرباح متنامية تصل لعنان السماء. 
وفي جلسة الاستجواب التي استمرت على مدار ست ساعات متواصلة مع مشرعي اللجنة الفرعية العليا لمكافحة الاحتكار التابعة لمجلس النواب الأميركي، استهل النائب ديفيد سيسيلين  David Cicilline رئيس لجنة مكافحة الاحتكار حديثه بعبارة "لو كان هؤلاء المؤسسون لا ينحنون أمام ملك، فلا ينبغي علينا أيضاً الانحناء أمام أباطرة الاقتصاد عبر الإنترنت". ولقد جهزت اللجنة الفرعية العليا لمكافحة الاحتكار التابعة لمجلس النواب نفسها لهذا التحقيق الذي تم وصفه بـ "النادر" بأن دجّجت نفسها بملايين من الوثائق؛ ومئات الساعات من المقابلات مع موظفين حاليين وسابقين في هذه المواقع؛ وبعض الرسائل الخاصة التي تم تبادلها في السابق مع كبار المسئولين في "سيليكون فالي". 
وقد أكدت اللجنة أن نفوذ بعض المواقع في قطاع التكنولوجيا قد استوحش، لدرجة أنه صار يهدد كل من المنافسين والمستهلكين على حد سواء، وامتد خطره لأن يهدد العملية الديمقراطية نفسها في بعض الحالات.
ولقد فتح سيسيلين Cicilline تحقيقاً في الكونجرس بشأن "الأمازون" Amazon، و"آبل" Apple، و"فيسبوك"Facebook ، و"جوجل" Google في العام الماضي بهدف استقصاء ما إذا كانت تلك الشركات – والتي تعد الأكبر تأثيراً في قطاع التكنولوجيا على الصعيد العالمي -  قد حققت نجاحها ونفوذها من خلال ممارسات احتكارية دمرت صغار المنافسين. وقد كان من المخطط أن يتم التحقيق في هذا الشأن في مستهل العام الحالي، لكن حالت ظروف انتشار وباء كورونا، عقد جلسة الاستجواب. لكن بعد تخفيف الإجراءات الاحترازية، تم عقد تلك الجلسة الفريدة التي جعلت الرؤساء التنفيذيين للمواقع محل المساءلة يعتلون منصة الشهود ليحكوا قصة كفاح ونجاح جعلتهم يحققون الثراء بعد محاولات مضنية، مؤكدين أن زادهم في رحلة الكفاح كان البراعة والذكاء الأميركي، وتزايد ثقة المستهلك فيما يقدمون من خدمات. وعلى النقيض، كان لدى المشرعون في السيليكون فالي رأياً مخالفاً. ففي جلسة الاستماع الخاصة بهم، أكدوا مراراً وتكراراً أن أصحاب تلك المواقع قد استغلوا التقدم الهائل في مجال الإلكترونيات الاستهلاكية، ومجال الاتصالات، والتجارة، والحزم الهائلة من الخدمات المقدمة عبر الإنترنت، ثم قاموا بتقديمها للمستهلك بتكلفة باهظة. أضف إلى ذلك، استخدامها أيضاً في سحق الشركات التي تسعى أو حتى تحاول التنافس مع تلك المواقع. 

ولا يخفى على الجميع أن جيف بيزوس Jeff Bezos المدير التنفيذي لموقع "أمازون" Amazon كان يقوم بشراء أي موقع ينجح في تسويق منتجات عبر الإنترنت، ويحقق أرباحا، ولعل أكبر مثال على ذلك شراء أمازون موقع "سوق. كوم" بثمن بخس. أما من يرفض الخضوع، فكان يتم تدميره تماماً، مثلما حدث مع موقع كان يبيع حفاضات الأطفال. فأخذ بيزوس يحاربه بكل الوسائل؛ فعمد إلى تخفيضات هائلة تصل إلى 30% في أسعار الحفاضات، مع تقديم خصومات إضافية عند استخدام خاصية الاشتراك السنوي في خدمة التوصيل للمنازل على موقع أمازون. ومن ثم، لم يجد الموقع المنافس الذي أفلس تماماً بديلاً إلا أن ينسحب من السوق بعد تعرضه لمنافسة شرسة.
وبالنظر إلى تيم كوك Tim Cook المدير التنفيذي لشركة "أبل" Apple، فلقد منع بيع بعض التطبيقات المهمة على متجر أبل Apple Store، وبدأ في بيعها منفصلة على شبكة الإنترنت، والدفع لها بكارد الإئتمان. أضف إلى ذلك، استحدث تطبيقات مشابهة للتطبيقات المنافسة تتمييز بخصائص متقدمة نسبياً؛ لأنها قد تدمج تطبيقين أو أكثر في تطبيق واحد. وبذلك لا يجد المستهلك بديلاً إلا تحميل تطبيقات شركة "أبل" التي صارت شبه مفروضة.
أما مارك زوكربرج Mark Zuckerberg المدير التنفيذي لفيسبوك Facebook ، فلقد تعددت سقطاته وممارساته الاحتكارية. فلا ينسى أحد بيعه لبيانات مستخدمي الفيسبوك لشركة Analytica التي استغلتها في فضيحة الانتخابات الرئاسية الأميركية السابقة. وممارساته الاحتكارية الغاشمة التي ترغم أي صاحب تطبيق ناشئ أن يبيعه له. وفي حال الرفض، يبدأ في نسخ تطبيقاً شبيهاً له في الفيسبوك، ولعل خير مثال على ذلك ما فعله مع تطبيقات إنستجرام Instagram، وزووم  Zoom، وسناب تشات Snapchat.
وبالنسبة لـ سوندر بتشاي Sundar Pichai المدير التنفيذي لموقع جوجل Google، فلقد قام بالفعل بالقضاء على جميع محركات البحث الأخرى أجمعين تقريباً، وصار الملجأ والملاذ الأوحد لدى مرتادي الإنترنت. وبعد فرض هيمنته، بدأ في إعلاء كلمة - أو بخس - مواقع  البحث كيفما شاء؛ فالموقع الذي يدفع له أكثر، يضعه في مقدمة نتائج البحث، والعكس بالعكس.
وبعد جلسة الاستماع المطولة التي استمرت على مدار الست ساعات، وأكد المراسلون أن لجنة مكافحة الاحتكار وضعت فيها الرؤساء التنفيذيين لهذه المواقع على "الشواية"، من المتوقع أن يتم تطبيق قانون ممارسة الاحتكار على تلك الشركات، والذي يقضي بتفتيتها لشركات أصغر؛ لتسمح بوجود تنافس متكافئ بين جميع الشركات القائمة والناشئة. ولقد قامت الإدارة الأميركية بتطبيق هذا القانون فيما سبق على عدة شركات تعمل في مجال البترول والتبغ، وغيرها من الأنشطة التي توحشت واحتكرت السوق المحلي. وعلى الصعيد الآخر، هناك بعض الشركات التي كافحت لإثبات براءتها ومنعت تفتيتها.
ولسوف ينبلج المستقبل القريب عما تخبئه لجنة الحكم في جعبتها، لكن سوف تظل محاولة تطوير أسس التشريعات، والقوانين – حتى تساير مستحدثات العصر من أجل تحقيق "العدالة" - بارقة أمل في حياتنا التي سادها الظلام. في حين، لا يزال هناك خطر الالتفاف حول العدالة قائماً؛ لأنه قد تستطيع تلك الشركات أن تكفاح لإثبات براءتها؛ فالقانون يسمح لها بذلك. ومهما كانت النتيجة، فلسوف يوقن الجميع أنه لا يزال على وجه الأرض عدالة أخرى - غير عدالة السماء – تحاول أن تساير مستحدثات العصر التي لم ترد في نصوص قوانينها.