لن يفتح الغنوشي تونس مثلما فُتحت مكة

تونس ليست فريسة سهلة. سيصطدم النهضويون بما لا يعرفونه من تونس، الدولة المدنية التي ستقاومهم بالرغم من كل ما فعلوه عبر السنوات العشر الماضية من أجل تهديمها.
النهضة نجحت في أن تتخذ من الدين عكازا تتكئ عليه لتمثيل دور الخائف
السلطة أولا ذلك هو الشعار الذي يتقدم كل شيء في حركة النهضة

"هذا الحشد العظيم يذكرني بفتح مكة على يد رسول الله". تلك جملة لا يمكن أن تُنسب لشخص يعيش في القرن الحادي والعشرين، فكيف إذا كان ذلك الشخص زعيما سياسيا يقود السلطة التشريعية في بلاده؟

نعم. لقد قالها راشد الغنوشي مخاطبا الجموع التي غزت بها حركة النهضة الإسلامية شوارع العاصمة التونسية لنصرة رئيس الحكومة في نزاعه مع رئيس الجمهورية على شأن لا علاقة للجمهور العام به. ذلك لأن الخلاف الذي نشب بين الرجلين كان من الممكن حسمه داخل دهاليز الدولة من غير الحاجة إلى أن ينشغل به الشعب المهموم بكوارث جلبتها سنوات حكم حركة النهضة العشر التي أشرف على إدارتها الغنوشي نفسه.

جملة سعى الغنوشي من خلالها إلى الإيحاء بتبنيه لمبدأ الدولة الدينية من خلال الإشارة إلى "فتح مكة". ذلك الحدث الذي استعاد الرسول الكريم من خلاله اعتباره الشخصي بعد أن كانت قريش قد طردته من مكة. لقد عاد إليها منتصرا. ولكن على مَن انتصر الغنوشي؟ أعلى الدولة التي يقودها عمليا منذ عشر سنوات؟

ولو نظرنا إلى الجانب الساخر من المسألة يمكننا أن نتساءل: هل جلب الرسول الكريم مقاتلي جيشه من الفاتحين بالسيارات من القرى ليقوموا باستفزاز سكان العاصمة في استعراض للقوة لا معنى له وسيلحق بالحياة السياسية آثارا سلبية؟

تبدو استهانة الغنوشي بالحدث العظيم الذي مثله فتح مكة واضحة.

ولكن المسألة الدينية بالنسبة لجماعات الإسلام السياسي ومنها حركة النهضة التي يتزعمها الغنوشي ليست هي الأساس الثابت ولا هي الجوهر الذي يُشكل ميزانا للمبادئ بل هي مجرد وسيلة تستعملها تلك الحركة لكسب تعاطف وتضامن أكبر عدد ممكن من الأتباع الذين يمكن تمرير الحيل السياسية الخطيرة عليهم من خلال أفكار دينية ساذجة.

ولنعترف إن تلك الجماعات نجحت في أن تتخذ من الدين عكازا تتكأ عليه لتمثيل دور الخائف من الآخرة وفي الوقت نفسه لتهديد معارضيها بالعقاب    

الدنيوي قبل الآخروي. تلك لعبة جرت من خلالها تلك الجماعات الشعوب إلى مستنقعها. وهو مستنقع خوف لا يمكن عبوره إلا بقوة دولة مدنية. تلك الدولة التي تسعى حركة النهضة إلى تغييبها ويرفع الغنوشي لواء فتح مكة في وجهها من أجل التغطية على ما لا يرغب أن يطلع عليه أحد.  

هل فرح النهضويون بفتح مكة الذي بشرهم الغنوشي به؟

أعتقد أن الأمور كلها تصب في عقدة فتح روما. لعبة تشبه إلى حد كبير ما يُشاع عن قرب ظهور المهدي. ولكن الاستعراض انتهى. لملم السيرك أغراضه واختفى اللاعبون اما الغزاة الصغار فقد تُركوا من غير قيادة. صار عليهم أن يعودوا إلى قراهم المنسية. لقد انتهى دورهم. خذوا دينكم معكم. ما تبقى سيستثمره الغنوشي وحركته في صراعهم من أجل تثبيت دولتهم التي تمحو دولة تونس شيئا فشيئا.

ومثلما تتخذ حركة النهضة من الدين وسيلة للهيمنة على الأصوات الانتخابية فإنها تنظر إلى الصراع القائم بين رئيس الحكومة ورئيس الوزراء مناسبة للتشهير بالدولة المدنية من أجل اضعافها ومن ثم الهيمنة عليها. السلطة أولا. ذلك هو الشعار الذي يتقدم كل شيء. أما وقد سيطرت الحركة على السلطة منذ عشر سنوات بسبب اعتمادها على الخداع الديني فإن ما كان يهددها وجود أحزاب وجماعات مدنية تذكر بتاريخ تونس في العصر الحديث.

اعتقد أن أكثر المراحل خطورة على تونس انما هي مرحلة "فتح مكة". وهي المرحلة التي أشار إليها الغنوشي بلسان فصيح. ستكون تلك المرحلة كما خططت لها حركة النهضة نهاية لكل ما انطوت عليه الثورة التونسية من آمال. فأما أن يحصد الشعب متأخرا ثمار ثورته وأما أن تذهب نضالات الشعب سدى ويأخذ النهضويون في تونس إلى كهوفهم. لم تعد هناك منطقة ضبابية.

الحرب صارت واضحة المعالم. ذلك ما ربحته حركة النهضة من صراع غبي بين رأسي السلطة التنفيذية. لقد حاول الغنوشي أن يقول "إذا كان لديكم السلطة التي تتقاتلان عليها فإنا لدي الشعب الذي يهفو إلى فتح مكة".

حاول الرجل بطريقة ثعلبية أن يُظهر انتصاره في لحظة خطأ تاريخي وقع فيها قيس سعيد حين اختار هشام المشيشي رئيسا للحكومة.

ولكن تونس ليست فريسة سهلة. سيصطدم النهضويون بما لا يعرفونه من تونس، الدولة المدنية التي ستقاومهم بالرغم من كل ما فعلوه عبر السنوات العشر الماضية من أجل تهديمها.

لن تُفتح تونس لأنها أصلا مؤمنة بحقيقة مبادئها المدنية ولم تكذب على أحد باسم الدين ولم تتخذ منه وسيلة لغايات سياسية بل ظلت تحترمه في إطار استقلالها وحرية مواطنيها.