لوائح تشبه الناس ولا تشبه الوطن

أهل السياسة في لبنان هم طاقم أكثر مما هم طبقة سياسية. الطبقة هي مجموعة نخبوية متمايزة عن الطبقات الاجتماعية الأخرى، بينما الطاقم السياسي هو مجموعة متنوعة تعكس ألوان الناس والمناطق. أهل السياسة في لبنان ليسوا كلهم سياسيين: منهم ملحقون بأقطاب من دون شراكة في القرار (كورس)، ومنهم منفردون من دون موقف (آحاد)، ومنهم استحلوا السياسة لهثا وراء جاه إضافي (هواة). قليلون هم السياسيون اللبنانيون الذين يحملون قضية الإنسان والوطن ويخططون لمستقبل لبنان، وقليلون الذين تنطبق عليهم صفة "رجل سياسي" أو "امرأة سياسية". ليس كل من وطئ مياه البحر أصبح سباحا، وليس كل من اقتنى صنارة أصبح صيادا، وبالتالي، ليس كل من اشترى أصواتا أصبح صوت الشعب.

وخلافا لما يظن، الطاقم السياسي اللبناني المشكو منه يشبه الشعب حتى التماثل والاستنساخ وينتمي إلى كل طبقاته. بقدر ما تبدو اللوائح النيابية الحالية عجيبة وهجينة وحوشية التكوين، جميعها صورة طبق الأصل عن المجتمع اللبناني الجديد الفسيفسائي، المتنافر، المتفجر، والمشوه الهوية والشخصية. كل مرشح يشبه مواطنا وكل لائحة تشبه جماعة. تحالفات من دون مبادئ، وتصويت أيضا من دون مبادئ. وأسوأ من هذه اللوائح، الناس الذين ينتخبونها.

لم يسبق أن طابق السياسيون اللبنانيون واقع المجتمع اللبناني مثلما طابقه الطاقم الحالي. هو انتخبهم وسينتخبهم عن قناعة مغفلة، أو تسليم غريزي، أو تقليد موروث، أو التباس سياسي، أو مصلحة آنية، أو حاجة مالية، أو استخفاف بالفعل الانتخابي. الشعب اللبناني راضخ بمشيئته. اللبنانيون يطالبون بالحرية الفردية (الفوضى) ويتقبلون الرضوخ الوطني (التسليم بالأمر الواقع): تقبلوا الانتداب الفرنسي والاحتلالات الفلسطينية والسورية والإسرائيلية. أقلية لبنانية قاومت هؤلاء ودحرتهم، أما الباقون فمنهم من صبر، ومنهم من تطبع، ومنهم من تواطأ، ومنهم من تباهى ببطاقات "تسهيل المرور" و"الخط العسكري".

القاع الذي بلغناه لا يسمح لنا بإصدار أحكام مخففة على أنفسنا. عبثنا بوطننا كفاية، تنكرنا لشهدائنا كثيرا، ومسخنا تاريخنا وهويتنا طويلا، وما زلنا نكمل.

عادة، بعد الحروب والاحتلال والوصاية، تتقدم المجتمعات لأنها تحظى بكبار يحكمونها وينقلونها إلى رحاب المصالحة والازدهار والرقي (حال الدول الأوروبية بعد الحرب العالمية الثانية). أما في لبنان، فنكبنا بمسؤولين على نقيض الحكام الأوروبيين. تراجع المجتمع اللبناني. رحلت الشخصيات الكبيرة وبددت الأحزاب التاريخية. شوهت الديمقراطية وعلقت الاستحقاقات الدستورية. ارتبط الإنماء بفئة وبقعة وأهمل الشعب والمناطق. تدنى مستوى التعليم والثقافة. انتشر الفقر والبطالة والعوز. تغير سلم القيم وتسخف مفهوم الدولة. سادت ثقافة الرشوة والفساد، فقدت معايير الخيارات الصحيحة. انخفض سقف الطموحات الوطنية وأعيد تحديد مفاهيم العزة والكرامة. انتقلت الميليشيات إلى المؤسسات وأقصي النبلاء عنها. أبدل المشرعون بالأميين والنخب بالمهربين والشرفاء بالمرائين. فضل مداومو أجهزة الاستخبارات على رواد الجامعات والمكتبات.

كنا شعب "على قدر أهل العزم"، صرنا شعب "على قدر أهل الغنم". كنا شعب "تصغر في عين العظيم العظائم"، أصبحنا شعب "تعظم في عين الصغير صغاره". هكذا مرشحون من هكذا مجتمع، وهكذا نواب من هكذا ناخبين.

لا فائدة وطنية من هذه الانتخابات النيابية: لن تحيي النظام الديمقراطي، لن تغير الطاقم السياسي، ولن تنقذ لبنان. حركت الانتخابات الدورة المالية مناطقيا من دون أن تحرك الدورة السياسية وطنيا. جهد لا طائل منه أن يحصل تداول أسماء من دون تداول ذهنية. تصوروا أن تتغير الفصول من دون أن يتغير الطقس. عرفنا الشخصيات النيابية المميزة التي حذفها سلفا هذا القانون الاستنسابي، لكن لا نرى الجهابذة الذين سيخرجون من الملصقات الإعلانية. نتجه نحو مجلس عامي لا إلى مجلس نيابي.

الخطورة الكبرى، الضائعة في حمأة الحملات الانتخابية وزغرداتها، أن طبيعة التحالفات النيابية المقبلة والناتجة عن التسويات السياسية السابقة، ستسهل تمرير قوانين من شأنها أن تمس بسيادة الدولة، وأن تغير وجه لبنان وهوية الوطن وتزيد في الاختلال الديمغرافي. وما المادة 49 حول حق الإقامة، والأموال الدولية المشروطة بدمج النازحين واللاجئين، سوى مؤشر على هذا التغيير السلبي. تحت شعار استمالة الاستثمارات سيقضون على خصوصية لبنان التاريخية، بل على لبنان. لا تمنعوا التوطين، لقد حصل. قاوموه. وهنا تصلح ثلاثية "الشعب والجيش والمقاومة"... اللبنانية.

في التسعينات أوقعوا لبنان تحت مديونية باهظة متكلين على وعد بسلام شرق أوسطي آت، فأتت الحروب وطار السلام وتعاظمت الديون. اليوم، يستدينون على أمل سلام سوري مقبل، لكن الحرب في سوريا مستمرة فصولا جديدة والنازحين السوريين باقون والاستثمارات مقطرة. باستثناء رئيس الجمهورية، محاور الحكم اللبناني اليوم كما كانت الحال في التسعينات تفكر ماليا لا وطنيا.

ما لم تحدث تطورات رادعة، سيضطلع المجلس النيابي المقبل بدور شبيه بدور مجلس 1992 حين شرع كل القوانين والمعاهدات المضادة مصلحة لبنان وسط معارضة رمزية.

حيال هذا الواقع، حيث الكل متواطئ مع الكل، تبدو البلاد سائرة نحو امتحان قاس إذا تمادى البرلمان الجديد والحكومة المقبلة في تشريع ما لا يشرع. لكن مرجعيتين يمكنهما نزع الصواعق، وقد أثبتتا ذلك مرات: رئيس الجمهورية في رد كل ما هو مناقض مصلحة لبنان، والمجلس الدستوري في الطعن به. أما الشارع فيحتاج إلى شعب وقائد، إنما... الشعب مستهتر والقائد مفقود.