ليس ترامب وحده من لا يشكر السماء على وجود الصحافة


نحتاج إلى الصحافة أكثر من أي وقت مضى مع استمرار إطلاق النار عن قرب على المخلصين لجوهرها من قبل الحكومات والميليشيات والمتطرفين.
الصحافة الوسيلة المثالية التي ينبغي التعويل عليها في ربط المجتمعات بديمقراطية حرة من الأفكار والمعلومات

من مدن أكثر بلد في العالم يقدس حرية الصحافة حيث يتعرض الصحافيون في الولايات المتحدة إلى الهجوم، حتى أسوأ بلد في العالم العربي يمارس القتل على الكلمة في العراق واليمن… نحتاج الصحافة اليوم أكثر من أي وقت مضى مع استمرار إطلاق النار من قريب على جسدها. هذا يعني أنه ليس الرئيس الأميركي دونالد ترامب وحده من لا يشكر السماء على وجود الصحافة. ثمة من يشعر بالتفوق الجماعي ويقطع صوت الصحافة بضمير متغطرس.

فترامب أراد ترسيخ شعور مغلوط في الذاكرة الجمعية بأن الصحافة مجرد مؤسسة نخبوية أخرى تعتقد فئات في المجتمع أنها لا تمثل مصالحها أو تشاركها قيمها.

وترد سوزان نوسيل رئيسة مجلس إدارة منظمة القلم الأميركية المهتمة بحرية الكتابة، بطريقة غير مباشرة على الذين لم يعودوا يؤمنون بالدور التاريخي الجليل للصحافة “من خلال تشويه سمعة الصحافيين في كثير من الأحيان، نقلل من احترامهم ونتجاهل ما يقومون به والدور الحاسم الذي يلعبونه في الديمقراطية”، مؤكدة أن مهاجمات ترامب المستمرة “كانت السبب في هذا الشعور الفاضح بأن الصحافيين هم ضدنا وليسوا معنا”.

كما ترد بشكل مباشر مراسلة تلفزيونية بعد أن حاصرها المحتجون الأميركيون لسبب غير معروف وحالوا دون أن تكمل تغطيتها الإخبارية المباشرة، بأنها “غير خائفة”. كانت تتحدث مع المحتجين المحيطين بها وليس مع الجمهور الذي يتابعها على الشاشة، أو ترد على أسئلة المذيع في مركز القناة.

في مشهد آخر من نفس الاحتجاجات الأميركية، يرفع مراسل صحافي بطاقته المعروفة لرجال الشرطة ليؤكد لهم طبيعة مهنته التي يحميها القانون وتتطلب منه نقل الأحداث، لكن رجال الشرطة يتصرفون بلا مبالاة ويستمرون في اعتقاله، بينما يقابلون سؤاله المكرر “لماذا يتم اعتقالي وأنا صحافي ولست متظاهرا” بالتجاهل المثير للغيظ، الأمر الذي دفع دبلوماسيا أميركيا إلى القول “استخدام أساليب استبدادية يشجع أعداءنا ويجعل حلفاءنا يشعرون بالاستياء… يجعلنا نبدو مثل المنافقين ويقوض مكانة أميركا وقوتها وينال من أمن جميع الأميركيين”. أو بتعبير الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش “عندما يتعرض الصحافيون للهجوم، فإن المجتمعات تتعرض للهجوم، ولا يمكن لأي ديمقراطية أن تعمل بدون حرية الصحافة، ولا يمكن أن يتحقق العدل في أي مجتمع بدون الصحافيين الذين يكشفون الحقيقة ويحققون في المخالفات التي تقع من السلطة”.

على مستوى آخر وقبل ذلك بأيام اقترب “أحدهم” من المصور اليمني المتعاون مع وكالة الصحافة الفرنسية نبيل القعيطي، أثناء خروجه من منزله بمدينة عدن وأطلق النار عليه، في رسالة مميتة لا تحمل غير تفسير واحد متعلق بجوهر الصحافة والدور الذي يجب ألا يتنازل عنه الصحافي، لكن لسوء الحظ صار هذا الدور يهدد حياته، مما دفع فيل تشتويند مدير الأخبار في وكالة الصحافة الفرنسية إلى التعبير عن صدمته من جريمة قتل صحافي شجاع يقوم بعمله على الرغم من كل التهديدات والترهيب.

وقال تشتويند “ساعد نبيل، من خلال عمله مع وكالة فرانس برس خلال السنوات الماضية، على إظهار حقيقة النزاع اليمني المروع. وكانت نوعية عمله مقدرة على نطاق واسع”. واليمن في المركز 167 من أصل 180، وفق التصنيف العالمي لحرية الصحافة الذي تصدره منظمة “مراسلون بلا حدود”.

والحال المرير هو استمرار سلسلة ترهيب الصحافيين من العراق إلى إيران وتركيا ومصر وسوريا وليبيا… من قبل الحكومات والميليشيات والمتطرفين من لوبيات الفساد والرافضين لفكرة تداول المعلومات بحرية.

وكل الذي يحدث في عملية قتل مستمرة لـ”الصحافة” يؤكد على أهميتها في العالم اليوم وحاجة الناس إليها أكثر من أي وقت مضى، وأنها الوسيلة الوحيدة التي ينبغي التعويل عليها في ربط المجتمعات بديمقراطية حرة من الأفكار والمعلومات.

ذلك يؤكد أيضا أن مواقع التواصل الاجتماعي والقصص السائدة على الإنترنت التي يبثها “المواطن الصحافي” ليست بديلا مقبولا عن التقارير الصحافية المحترفة وعالية الحساسية، وإلا ما كان يتم استهداف مصادرها في الدول الديمقراطية الحرة كالولايات المتحدة وحكومات الدول الفاشلة في العراق واليمن وليبيا وإيران.

ومع أن لا أحد يشكك بجرأة الصحافية البريطانية سوزان مور، وهي تكتب من دون تردد ضد الفساد والصلف السياسي، من دون أن تكون في خط المواجهة الأول على الأرض بين المحتجين والمراسلين الذين يتعرضون للرصاص المطاطي والغاز المسيل للدموع والإطلاق الحي من قبل الميليشيات و”الطرف الثالث” المرتبط بها، لكنها لا تتردد عن المضي قدما بإيمانها بالصحافة المثالية والقول “شكرا للسماء على وجود الصحافة” مطالبة بالوقوف بوجه الحكومات والزعماء الذين يشوهون سمعة الصحافة وشيطنتها، لأن هناك ما هو أسوأ مستقبلا إن لم يتم الوقوف بوجه هذه المحاولات، مثلما تبدو حاجة الصحافة نفسها إلى مراجعة أدائها بشكل دائم من أجل أن تبقى جديرة بهذا الشكر الذي يقدمه البشر للسماء.

وتعبّر مور الكاتبة في صحيفة الغارديان البريطانية عن شكرها وامتنانها لكل تلك “الأرواح الشجاعة التي تسير في مواقف مرعبة، سواء كانت مناطق النزاعات والاحتجاجات والمستشفيات التي تواجه الوباء”.

قد لا تعرف هذه الصحافية الشجاعة تفاصيل تآكل الصحافة في بلداننا العربية بسبب الحكومات، لكن شكرها يصل من دون شك لكل الصحافيين العرب المخلصين لجوهر إيمانهم بالصحافة.

فمن قال بعد الذي يجري من عمليات القتل للصحافيين بأن “الناس لم تعد تبالي بالأخبار ولا تهتم بنشراتها”.