ماذا تبقى من الإسلام السياسي؟

الحكومات التي زعمت بأنها تحكم بالإسلام مارست كل أنواع الفساد والاختلاس وإهدار المال العام وانخرطت في كل ما من شأنه تخريب الاقتصاد وللتغطية على الصفقات المشبوهة والمحسوبيات والعمولات غير القانونية ولعدم محاسبتهم قضائيًا على الفساد والنهب.

بقلم: هشام النجار

يتوالى سقوط جماعات الإسلام السياسي بعد تجاربها البائسة في السلطة بالدول العربية، لينهار مشروعها الذي ثبت فشله، لكن لا يكفي ما حدث، ولابد أن تتابع الجماهير والنخب والمؤسسات معالجة أفكار تلك الجماعات ومناهجها.

ثارت الجماهير وأسقطت وفي طريقها لإسقاط حكم جماعات الإسلام السياسي بمعاونة جيوشها الوطنية في مصر والسودان وليبيا وأيضًا الجزائر، حيث لعب الإسلاميون خلال السنوات الماضية دورًا محوريًا في مشهد السلطة هناك، وها هو في بداية مراحل أفوله في تركيا, لأن هذه الجماعات لم تحدث نقلة اقتصادية ولم تترجم مشروعًا ذا مضمون اجتماعي من شأنه تحسين أوضاع الغالبية المعيشية وإزالة التفاوت الطبقي وتحقيق آمال الناس في التنمية والنهضة.

حالة التخدير الفكري وإظهار بعض شعارات ومظاهر التدين بلا مضامين ولا برامج متصلة بالمبادئ والقيم، لم تؤدِ إلى ما كان يأمله الجمهور العريض الذي تلقى سعي هذا التيار للسلطة منذ البداية بنية حسنة، فلم يفجر ثورات علمية تدفع بالدول العربية لحيازة أسباب التقدم ويجعلها تنافس في ميادين الحضارة والعلم والميدان التجاري والتقني والإستراتيجي والحضاري، وفي الوقت ذاته حققت تلك الجماعات لخصوم وأعداء العرب في الخارج مرادهم, فهذا الجمود والتراجع وتلك الدروشة والشعارات الفارغة هو ما أرادته أن يسود بين العرب والمسلمين لتنال منهم ومن بلادهم وثرواتهم ما تريد، وهذا هو سر انحياز بعض الدول الغربية لهذا التيار إلى الآن وسر محاولاتها إنقاذه من السقوط.

ارتاح أعداء العرب الحقيقيون لحضور وصعود تلك الجماعات فهي من تمنحهم العيش على أمل تحقيق حلمهم التاريخي بالاستيلاء على المزيد من الأراضي العربية وترسيخ أمر واقع مناهض للثوابت الوطنية والحقوق القومية، طالما أن هناك جماعات تجعل كل شيء مؤجلًا بحجة الانشغال بإقامة الخلافة الإسلامية المزعومة على أنقاض الجيوش والمؤسسات العربية.

علاوة على ما حققته للقوى الطامعة من فوضى وفراغ أمني ومؤسسي، وهي الهدية الثمينة لمن لا يريد التعامل مع واقع عربي موحد ومستقر ومتماسك، وهذا هو سر إظهار بعضهم الحنق على مصر وقائدها، وكذلك سر الهجوم على كل من ينحاز للرؤية المصرية ويسعى لتطبيقها، سواء في السودان أو ليبيا أو غيرهما باتجاه نزع عوامل الانقسام والفرقة والتفكك وتوحيد البلاد وجعلها على قلب رجل واحد وفرض هيبة الدولة، وإعلاء مسار استقلالها، وفرض الإرادة الشعبية الجامعة، وتحقيق الاستقرار والأمن.

لماذا قمع الرئيس السوداني المعزول احتجاجات العام 2013م وسعى لتكرار ذلك مع الانتفاضة الشعبية الأخيرة، ولماذا قمع أردوغان حركة التغيير التي قادتها الجماهير التركية منذ انتفاضة غيزي بارك في 2013م إلى اليوم، ولماذا يناور ويتلكأ في تسليم البلديات لقادة المعارضة، ولماذا وضح انحياز أطراف سياسية بليبيا لحكم وسيطرة العصابات المسلحة بطرابلس ومدن الغرب وترتفع أصوات إقليمية ودولية مدافعة عنها؟

لأن هذه الحكومات التي زعمت بأنها تحكم بالإسلام، والدين منها بريء مارست كل أنواع الفساد والاختلاس وإهدار المال العام، وانخرطت في كل ما من شأنه تخريب الاقتصاد ومص دم الفقراء، وللتغطية على الصفقات المشبوهة والمحسوبيات والعمولات غير القانونية ولعدم محاسبتهم قضائيًا على الفساد والنهب والإثراء غير المشروع يستميتون في التمسك بالسلطة، ولأن هناك طامعين ومستفيدين في الداخل والخارج لا يريدون لهذه الفوضى أن تنتهي ويخشون على مصالحهم من مجيء واقع جديد يفرض هيبة الدولة وسيادة القانون ويعيد الحقوق لأصحابها.

لهذا وغيره سقطت جماعات الإسلام السياسي في الحكم وسيكتمل سقوطها عاجلًا أو آجلًا، وقامت الشعوب والجيوش والأجهزة الأمنية الوطنية بدورها وقدمت التضحيات الهائلة ولا تزال في هذا السياق، لكن يتبقى لهذا التيار أفكاره وشحنه الأيديولوجي الذي يخدع الكثيرين، ولذا فنحن وإن انتهينا من معركة أو أوشكنا فإننا مقدمون على المعركة الكبرى بعد تحرير الأرض والدولة وهي تحرير العقول والأفكار المعرضة للتأثر مجددًا بدعايات تلك الجماعات الزائفة.

حضرت قوة الدولة والسلطة التي تلعب دورًا رئيسيًا في إنجاح مسار الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي والديني وتحقيق مدنية الدولة بما يعزز استقلالها وتقدمها، وتبقى مهمة النخب الفكرية والمثقفة لتحقيق مدنية المجتمع وتحريره من الأفكار الجامدة المسيئة للإسلام.

سيكتمل إنجاز تحرير الدول بتحرير المجتمعات، وهذا يقتضي نهوض نخبة المجتمع المفكرة والمثقفة بتشكيل حالة زخم يومي في الفضاءين الثقافي والفكري عبر نشاط منظم ينشر أفكار الرشد والوعي، ويعيد الاعتبار لمفكري النهضة ورموزها وفلاسفتها ويجعلهم الأقرب لوجدان الجماهير في القرى والنجوع والمحافظات النائية. ينبغي أن نعيد للمجتمع مدنيته كظهير لا غنى عنه لمدنية الدولة، وهذا يتحقق بالإقناع والحوار وبتكثيف طرح رؤى التنوير عبر التعليم والإعلام والمنافذ الإبداعية والفنية، وبتشكيل حالة فكرية قادرة على التأثير الجماهيري، تحرم تلك الجماعات من معاودة بذر الأرض بنبتتها الخبيثة.

نُشر في الأهرام