ماذا يحدث .. حين نفكر؟

مسارات غير منقطعة اتخذت من الإنسان خلية للتحليل والتمحيص، في محاولة لفهم هذه الذات الملغومة بالأسرار.
الفكر لا يتوقف عند كونه غريزة ينشدها العقل بل هو حياة كاملة
كل فكر لا يختبر الموت كفكرة محققة لا يمكن أن يكون فكرا

تلاحقت مسارات غير منقطعة اتخذت من الإنسان خلية للتحليل والتمحيص، في محاولة لفهم هذه الذات الملغومة بالأسرار. حاجة الإنسانية لفهم إنسانيتها كانت أكثر شراهة أمام عامل الماواراء، غريزة دفعت الإنسان أن يكون كائنا ميتافيزيقيا قبل أن أن يكون فنانا، أو صانعا أو أيًّا كان، مادام أن الفضول يحركه في كل لحظة، غير أن ميتافيزيقية الإنسان تتركز أكثر في مرحلة الطفولة، محطة: "لا أدري/ لا أعلم ...أريد أن أعرف". يبدو الطفل للوهلة الأولى تشرنقا صريحا لمجمل الإستفهامات الوجودية ذات الإتجاه الميتافزيقي دون أن يعي بقيمة الإشكالات الحتمية التي يطرحها عند كل سؤال.
شيئا فشيئا يكبر الطفل ليصير مراهقا، شابا، كهلا؛ فيمتزج السؤال بالذاكرة، وتلك نوتتة الفصل، التفكير في الماقبل والمابعد، مسألة جوهرية متجدرة لكن ماذا يعني ذلك بالتحديد: أن نفكر؟! تم ماذا بعد اللحظة التفكير؟ هل سنفرح أم سنحزن؟ هل كل ما نفكر فيه قابل للتحقق فعلا كما يبدو؟
في وقت اخترق فيه هيدغر الفكر بسؤال كلاسيكي مؤكدا: "ما هذا الذي نسميه فكرا؟"، أخذ سؤال حنة آرندت مسعى أقرب احتكاكا بالواقع: "ماذا يحدث عندما نفكر؟"، مردا لاعتبار الفكر نشاطا وحيدا لا يحتاج إلا لنفسه كي يتحقق عكس أي نشاط آخر يبلور معتركا داخليا في شكل مادة مصنعة قابلة للتداول، ينسج الأنا المفكر حوارات صامتة بناءً على فكرة خارجية تخضع للتفكيك بفعل خزان المعطيات العقلية السابقة الوجود في ذهنية كل شخص على حدة؛ بهذا الشكل يتحول الأنا من أنا مجرد في قوقعته المغلقة إلى امتداد للعالم بل والعالم امتداد إليه تحت مسمى سياسية الفكر تيمنا بقول سقراط:

الإبداع حالة ما بعد فكرية من الفوضى، العبث، تمنح شكلا لخليط غير متجانس من الأحاسيس والأفق الثقافية المؤنسنة لذاتها

"كل واحد هو لنفسه، الواحد هو نفسه"، جوهر الفكر لا يكمن في عزل المعرفة عن المعطيات المشكلة لها بل في توحيد شيئين/ ظلان/ إتجاهين في شيء واحد deux en un   ، فضلا على أن الإهتمام بالفلسفة لا يضمن بالضرورة الفكر بقدر ما يتكهن بوهم الفكر هذا ما يمكن أن ندرجه اليوم في تمظهر معصرن واضح: "مثقف الإشاعة"، قد يكون الفكر ندرة داخل جماعة / مجتمع ما، لكن سياسة الفكر آلية دمقراطية تتخلل بالجميع: المثقف، الأمي، العاقل، المجنون، الطفل، الفنان، الحرفي؛ في تقدير إتيان تيسان من الغلط تذويت الموجودات / نقل الأنا المفكر نحو الفكر والإنتماء بل والوجود، إذ يكمن السر في عزل تجربة التفكير من خلال ربطها بالواقع الفينومينولوجي وما عكسه في نشاط الفكر في هذه الحالة ننتقل من الكوجيتو الوحيد نحو الكوجيتو الجمعي cogito pluriel   حسب تعبير بول ريكور، إذ يتحول الفكر لظاهرة وليس لمجرد تشاور صامت للأنا ليعود بذلك العالم للعقل والعقل للعالم، سيرورة غير منقطعة من الأخذ والعطاء، فالعالم شريك في الفكر ونشاطه دفعة واحدة ...هكذا يصنع الحدث حين يتدخل العالم الموضوعي في إيقاف الحوار بين الأنا والأنا المفكر، وسيط وحيد يكرس مفهوم  الإنسان في بعده المتعدد، الأصل في الوجود هو الإختلاف وليس في التطابق نحن بالكاد آتون من ازدواجية متأصلة عن التعدد اللانهائي الذي يشرعه قانون الأرض.
 فينومينولوجية الفكر من بين المشاريع الفكرية المهمة التي أطرت الإنسان الغربي في القرن المنصرم، إذ لا يستشعر تعدديته إلا في لحظة انعزاله وليس في انفتاحه على الآخر كما يبدو، مما يبرر وجود السياسة كفعل من وإلى الأنا حلقة وصل بين الفكرة وواقع الفكرة، العديد من الفلاسفة تنكروا لفن الممكن عبر أفكار لاسياسية، لكنهم أثبتو العكس لدرجة أنهم هم من صنعوا الحدث دونما سواهم؛ كما هو الحال لهيدغر في  المرحلة النازية، وهيغل وأرسطو  لحظة هروبه من الموت على يد سادة آثينا، لعل أولى الإمكانات التي تتيحيها الفلسفة التفهمية / الفينومينولوجيا للمفكر هو القفز من كونه ذاتا ليكون إنسانويا لأقصى حد؛ يفكر من أجل العالم، مبتعدا بذلك عن هلاوس القومية والتفكير لصالح جماعة دونما سواها.
الفكر لا يتوقف عند كونه غريزة ينشدها العقل بل هو حياة كاملة، تتجاذبها أطراف التفكير كفعل، والإرادة كمعطى سابق عن الفعل، فضلا عن الحكم كردة فعلا لاحقة، أن تفكر لا يعني بالضرورة أنك مثقف أو فيلسوف أو أي وهم من هذا القبيل، التفكير ملكة لفهم الواقع بل لتغييره والتأثير فيه من خلال مجمل الحميمية السياسية، إنه بالكاد الرابط بين الحياة التأملية والحياة العملية، فيما ستنفع الفلسفة أو الأدب أو التقافة إذا كانت جملة من الأفكار المنشودة غير قابلة للتحقق واقعا متخيلا فقط.
هل التفكير يقف عند حدود السلطة السياسية فقط، أليس من شأنه أن يفك أسره بعيدا عن قبة البرلمانات وبنيان الأحزاب السياسية والنقابات المنظمة، بالضرورة ألا يحق للتفكير أن يبتعد عن جديته المفرطة، أليس معقولا أن يكون ساخرا صالحا للفرجة محركا بذلك قهقهة هذا الحيوان السياسي الحميم؟

غير بعيد عن السياسة، تعيش النكتة دونما أن تكون محكومة بالموت، بداية ونهاية: "من منا لا يضحك!" يقول نيتشه: "النكتة سخرية من موت ما"، تكمن قيمة النكتة في اعتبارها سردية ساخرة، محكومة بلغة مبتدعة لمختلف المفاهيم، كالجنس والعنف، السخط الإجتماعي مثلا، من دون خضوعها لأي حصانة تقمع العمق الفكري الذي تعبر عنه في كل مناسبة؛ فالرجل الذي يفتش عن مفتاحه الضائع تحت ضوء الشارع هو ساخر من وضعية الإنساني شبه الآلي اليوم التي يبحث عن ذاته في فرضيات التواصل الإجتماعي عن بعد، حيث يكتفي بمحاولة صنع الحدث فقط دونما أن يفعله بشكل مباشر، لحظة التفكير رهينة بتجسيدها، يحتفل بالحياة، كما هو الحال للكرنفالات، والعروض الراقصة الموجهة للشارع العام يكتسب الفرح بعدا أوفر حظا حين يخلص الإنسان من حميمية فرحه المفترض، قاعدة المتعة تصير أكثر فعالية في خضم جماعة إنسانية، من مختلف الأعراق، والأجناس. بشكل أوضح حدث بعيد عن التجنيس والإنتماء.
يقول ديمقريطيس: "في الواقع نحن لا نعرف شيئا لأن الحقيقة تكمن في عمق الهاوية" قولة ظلت مأثورة لأكثر من سبب، لاسيما بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وما خلفته فظاعتها من انتشار الأفكار الوجودية الباحثة عن الحقيقة المحضة، فكر عبر عن رغبة شرهة في النزول للأرض وفق فرضيات ممكنة غير حالمة، هذا فضلا عن العبثية وعن الفوضى التي أقرت عنانها بعد الإعتراف للإنسان بكونه فوضويا بطبعه يهرب من الثماثيل والرموز الكامنة فيها نحو السؤال مباشرة، صحيح أن فعل التفكير في النسق الوجودي يبشر بالأسئلة دون الأجوبة، لكنه يسرح عمال الفكر من تعب مضنٍ جدا، أي ما يكون وما يجب أن يكون، فالعلاقة بالواقع ليست معاودة للتمني أو تشكيل يوتوبيا متقدمة في العمر / كهلة، بل احتكاك يبرز مؤلما: "إنني أعرف .. إنني لا أعرف"، غير أنه يبرر إمكانية لحدث من نوع آخر بعد لحظة التفكير، إنه الإبداع، خاصة بعدما صار العالم الغربي في أزمة حقيقية على إثر عزله عن دائرة الإشكالات الكبرى نظرا لارتباطه بأكثر من دلالة أيديولوجية تحرمه من استنباط مكاسبه التي فقدها عند بلوغه أولى مواسم وهم نهاية التاريخ: "الوضعانية". مفرِّطا بذلك في الثمار التي جناها فكر الأنوار الرافض لثلاثية الضمير المسيحي المعذب: "الوحي، العناية الإلاهية، الهلاك الأبدي". 
ظل الإبداع للحظة مؤقتة منذ 1800 لحدود 1950 منفصلا أن أي دلالات مسبقة، حرا طليقا في المد والجزر من دون قواعد تولجه في خانة من خانة التوجهات الفكرية المؤدلجة، الإبداع حالة ما بعد فكرية من الفوضى، العبث، تمنح شكلا لخليط غير متجانس من الأحاسيس والأفق الثقافية المؤنسنة لذاتها من خلال: لوحة رسام، معزوفة فاغنر، شعر فلوبير، عملية أخّاذة تحمل على عاتقها مشاعر: الحب، النسيان، الكره أحيانا، الفناء ... بالنسبة للناس العاديين فضيحة تجهر بالهامش المخفي فينا.
إن كل فكر لا يختبر الموت كفكرة محققة لا يمكن أن يكون فكرا علّ وعسى أن يكون تبشيرا كاذبا وشتاتا يعنى بالحالمين دونما سواهم، هذا في واقع صارت مساحة الحلم تضيق وتضيق، إلى أن تنعدم من الظهور، سبق وأن ذكر سبينوزا الإنسانويين بالتفكير كخلاص من الملل، والخيبة، بل والبشاعة، تلك الهيمنة التي تكتسي بعض الوعود الكاذبة التي تبثها في كل مرة الإعلانات، الوصلات الإشهارية، موجات الموضة المغدقة في المثاليات الجسدية المصدرة لمجسمات اللذة المستحيلة ولو صوريا، في محاولة فاشلة لإلغاء عنصر الموت / العدم.