ماذا يحدث في الشمال السوري؟

من الأمور العجيبة التي تستحق الوقوف عندها مطولا أن روسيا والنظام هما من نجحا في تشكيل الإقليم السني في سوريا بعد أن فشل الغرب وتركيا والسعودية وقطر وكل من سموا أنفسهم أصدقاء الشعب السوري إبان هذه الأزمة.

الفصائل المسلحة كانت مشتتة واقتربت نهايتها بعد الإنجازات الكبيرة التي حققها النظام بدعم روسي لكن فجأة تم تجميعها في جغرافية واحدة موحدة ومترابطة بعد أن أعطى الروس والنظام منطقة آمنة للأتراك وفصائلها تمتد من جرابلس حتى إعزاز ثم أكملوها بأن سلموهم عفرين بجبالها الوعرة ليرتبط الإقليم حتى لواء إسكندرون وبمحاذاته حتى إدلب.

منذ ست سنوات وفصائل المعارضة تشكو التشرذم والخلافات وتعدد الكتائب والأسماء وإختلاف التوجهات وحتى الصراعات المسلحة فيما بينها مما سبب لها الضعف خاصة أنها كانت تحكم عدة مناطق محاصرة غالبا وغير مترابطة الجغرافية وكل فصيل كان ولاؤه لدولة معينة سواء أكانت السعودية او قطر او الإمارات أو الأردن او تركيا أو الغرب وكانت خلافات هذه الدول تظهر على الفصائل بين الفينة والأخرى.

لطالما تحدث ديمستورا والمبعوثون الدوليون والمراقبون وأصحاب القرار عن هذا التشرذم الذي يضعف المعارضة ويؤدي إلى انتكاسها ولذلك حاولت السعودية وتركيا وقطر وكل الدول المعنية على مدار ست سنوات ان يوجدوا جيشا موحدا يضم جميع الفصائل لكن كل محاولاتهم باءت بالفشل فكانت المفاجأة الكبرى ان الدعم اتى من روسيا والنظام فشكلوا هذا الشريط الحدودي وقووا فصيلا واحدا تحت مسمى الجيش الحر أو الجيش الوطني وصهروا كل الكتائب فيه ولزيادة تمتينه جعلوا له داعما واحدا فقط هو تركيا تتشارك معهم الجغرافيا والقرار وتدعمهم بالسلاح والطيران بعيدا عن كل الدول الأخرى.

السؤال المحير والذي يطرح نفسه بقوة: لماذا فعلت روسيا والنظام ذلك وما الذي سيستفيدان منه وما مدى خطورة هذا الإقليم الإسلامي الغني بالعنصر البشري والمقاتلين المسلحين جيدا بدعم تركي على النظام وعلى روسيا مستقبلا خاصة أن الإقليم يجاور العمق العلوي مباشرة وهل يوجد سيناريو آخر غير ما نراه وهل يمكن ان تأخذ روسيا كل ذلك من تركيا والفصائل مستقبلا بسهولة مع ما دفعه الاتراك من ثمن سواء في العدة أو العتاد او الجنود والضباط خاصة في معركتها الأخيرة في عفرين؟

الإجابة تبدو صعبة ومعقدة لكن باعتقادي أن الهدف من ذلك أن تفرز كل مجموعة من الخيوط في يد لاعب واحد حتى تبدو اللعبة والمفاوضات أسهل مستقبلا. بمعنى اوضح هي عملية فرز للاعبين بدل إختلاط الحابل بالنابل وإنهاء لحالة الفوضى الخلاقة التي تعتقد روسيا أن الغرب صنعها في سوريا وبالتالي فهذه الفوضى تستنزف روسيا والنظام على المدى الطويل بما أن الفوضى تتسع ولا يبدو أن لها نهاية واضحة المعالم.

تبدو الإجابة غامضة قليلا.. حسنا سنوضحها أكثر.

كل خيوط الفصائل سيتم تجميعها تحت مسمى واحد هو الجيش الحر وتحت ظل لاعب واحد هو تركيا أما حلفاء تركيا كقطر فسيظلون تحت الجناح التركي أيضا أما مناطق النظام فستكون تحت ظل اللاعب الروسي فقط وهو سيضع إيران في بطنه كما يقال في لغة التجار. أما شرق الفرات فستكون تحت جناح اللاعب الأميركي وسيكون حلفاؤه من الأوربيين والخليجيين في بطنه أيضا وستنتقل السعودية من لاعب قديم يتحكم ببعض الفصائل في ريف دمشق والغوطة وغيرها إلى لاعب في شرق الفرات حيث ستمول إعادة إعمار المنطقة وتأهيلها من جديد بينما انتقلت تبعية الغوطة إلى الأتراك ولذلك استطاع الاتراك المساومة عليها (الغوطة مقابل عفرين) وستستفيد تركيا من مقاتلي الغوطة وربما المدنيين لرفد الشمال بالعنصر البشري والمقاتلين.

هنا تتضح الصورة أكثر حيث أننا سنصبح أمام ثلاثة لاعبين رئيسيين هم روسيا والأتراك والأميركيون ولكل واحد منطقة نفوذ واحدة سيفاوض عليها في أية مؤتمرات أو مفاوضات قادمة لوضع حل نهائي للأزمة أما الجنوب السوري ومنطقة درعا فلا نعلم حتى الآن بيد من ستكون لعدم وضوح الرؤية حتى هذه اللحظة وفي المحصلة لن تخرج من مظلة أحد هؤلاء اللاعبين الثلاث.

من أهم اهداف هذه العملية السالفة الذكر أن لا يتشرذم القرار في مناطق النفوذ بسبب كثرة اللاعبين وان يتحكم ويلجم كل واحد ما تحت يديه ولذلك تم تحجيم قوة الفصائل الإسلامية في الغوطة وباقي المناطق وتم إدخالها تحت رحمة تركيا فقط وتم تحجيم نفوذ حزب العمال الكردستاني في عفرين ووضع بيضهم كله شرق الفرات حتى يكونوا تحت أجنحة أميركا بدل أن يناوروا مع الروس والإيرانيين والنظام بعيدا عن مناطق تحكم أميركا وربما تخوض أميركا حربا مع إيران في سوريا مستقبلا ولا تريد أن تحدث أية أجنحة كردية موالية لإيران والنظام أي شرخ في خططها المستقبلية وفيما يبدو أنه كان هناك توافق دولي لتحجيم نفوذ العمال الكردستاني في سوريا والعراق وسنخصص لذلك مقالا مفصلا نبين فيه النتائج والأسباب.

في المحصلة تجد روسيا والنظام أن هذا أفضل الحلول بما أن هناك جملة تتردد دائما في الإجتماعات الدولية أنه لا يمكن إستبعاد الغالبية السنية من الحل وأن هذا سيرضي الإخوان المسلمين وكتائبهم ويبعدها عنهم في حرب الإستنزاف خاصة مع وجود قناعة لدى الجميع أن وجود أرض للإسلاميين تحت السيطرة ينهي حالة الإرهاب في العالم أجمع لأن تشتيتهم يعني إنتشارهم في العالم بأسره على شكل خلايا تنشر الإنتقام هنا وهناك وأهم من ذلك فإن هذا سيدمر المشروع الغربي الكردي في الوصول إلى غاز المتوسط وأن علاقات روسيا مع تركيا ستجعل تركيا تلجم هذه الفصائل وهذا صحيح في المدى القريب لكن التفكير الروسي قصير النظر والمدى لأنها تبحث عن حل آني سريع حيث ستصبح هذه الكتلة البشرية السنية المتجمعة في الشمال أكبر خطر على العلويين مستقبلا وهي أشبه بصناعة غزة جديدة حيث يعتبر قطاع غزة في فلسطين أكبر نسبة ولادات في العالم وينذر بانفجار سكاني يشكل خطرا كبيرا على إسرائيل بما تحمل من عقلية دينية متشددة وهكذا سيكون حال الشمال السوري.. كتلة متضخمة سكانيا حيث سيتم إسكان ملايين اللاجئين المقيمين في تركيا على هذه الأرض مع تراكم إتفاقيات الباصات داخل سوريا ايضا وزيادة الولادات مستقبلا تماشيا مع العقلية الدينية لديهم وأهم من ذلك كله أن هؤلاء يحملون حقدا طائفيا شديدا ضد العلويين وعقلية ثأر لا تنتهي ولو انتهت لانتهت مع أحداث الثمانينات ولما أصبحنا اليوم أمام كل هذه الدماء.

وأخيرا فإن كل ذلك سيؤدي إلى تقسيم سوريا لا محالة وبما أن التقسيم قد بدأ بيد روسيا والنظام والأتراك فإن الغرب يأخذ موقف المتفرج في الوقت الحالي لأنه يجد أن كل هذه التحركات تصب في مصلحته مستقبلا دون أن يكون فاعلا حقيقيا في الأحداث.