مايا أنجيلو فنانة لا تعرف المستحيل

شاعرة ومطربة وممثلة وكاتبة مذكرات وناشطة حقوقية أفريقية أميركية عاشت طفولة تعيسة فقيرة في سانت لويس بولاية ميزوري الأميركية.
مايا أنجيلو اعتلت عرش النجومية، وأضحت بطلة لإحدى المسرحيات التي جالت أوروبا
تعرفت على الروائي الأفريقي الأميركي جون أوليفر كيلينز وانتقلت معه للعيش في مدينة نيويورك للتركيز على مهنة الكتابة
أشعار مايا أنجبلو كانت بمثابة للدفاع عن حقوقها وحقوق الغير، وساعدتها أن تصير ناشطة حقوقية بارزة

التجارب والظروف هي السعير الذي تحته تصاغ معادن البشر؛ فالمعادن الرخيصة تنصهر وتذوي، أما المعادن النفيسة تزداد صلابة وبريقاً. فما أقسى أن يعيش الفرد حياة من الضياع النفسي والذاتي، وسط فقر شديد وتفكك أسري. الناتج الشائع لتلك المعادلة الصعبة إما مجرماً، أو حاقدأً ناقماً على المجتمع. لكن إذا خرج الإنسان من كم هذه الإحباطات شامخاً، قاهراً لكل الظروف التي تجاهد أن تهمشه وتفنيه، فلا يمكن أن يوجد وصف لهذا الشخص إلا أنه إنسان معدنه من "الألماس" النقي الخالي من العيوب. فهو إنسان قد اشترى حريته بمعدنه النفيس، وصار وجوده عطية لكل من حوله.
وقد يظن البعض أن تلك الحالة هي ضرب من ضروب الخيال، لكن إذا علمت أن هناك امرأة مرت بتلك الشنائع وأطلت على العالم بوجه شامخ، لسوف تعجب. فهذه المرأة هي الشاعرة، والمطربة، والممثلة، وكاتبة المذكرات، والناشطة الحقوقية الأفريقية الأميركية مايا أنجيلو Maya Angelou (1928-2014) التي عاشت طفولة تعيسة فقيرة في سانت لويس بولاية ميزوري الأميركية، في جو عائلي متوتر؛ حيث كان الأب يسيئ للأم، وطفليه ودائم الشجار والعراك. وأخيراً انتهت هذه الزيجة وهي في الثالثة من عمرها وأخوها في الرابعة، وأرسل الأب طفليه وحدهما في قطار دون مرافق للعيش مع والدته في "سالم" بولاية أركانسو الأميركية، حيث الظروف المادية الصعبة التي يعيشها الأفارقة الأميركيين في ذاك الوقت. 
وبعد أربعة سنوات، هبط الأب فجأة على بيت أمه ليرسل طفليه للعيش مع والدتهما، وكانت مايا حينئذٍ تبلغ من العمر ثمانيَ سنوات فقط. وهناك مع أمها تعرضت مايا للاعتداء الجنسي، ثم الاغتصاب من قبل صديق والدتها. فما كان منها إلا أن أخبرت شقيقها الذي بدوره أبلغ الأم. وحين وصل الأمر للسلطات لم يفعلوا له شيئاً إلا أن اعتقلوه لمدة يوم واحد فقط، ثم أطلقوا سراحه. لكن بعد خروجه بيوم واحد تم قتله، ربما على يد أعمامها إنتقاماً لما حدث للطفلة مايا. لكن مشاعر الطفلة المكلومة المرهفة جعلتها لا تحتمل الصدمة، ففقدت النطق لمدة خمس سنوات. وصرحت بعد ذلك أنها اعتقدت أن صوتها قتل الرجل لمجرد أنها ذكرت اسمه. واعتقدت حينئذ أنها ستظل حبيسة الصوت طوال العمر؛ لأن صوتها قد يقتل أي فرد آخر.

كلما ضنت عليك الدنيا بالسعادة، وأدارت لك ظهرها، وحاوطك الآخرين بكرههم، حتى صرت وحيداً لا تعرف من أين تبدأ، لا تشعر بالإحباط، وأجمع كل هذه الأهوال في كومة وقف عليها منتصراً شامخاً

وبعد الحادث أرسلت مايا وأخوها للعيش مع جدتهما مرة أخرى. وكانت فترة الخمس سنوات من الصمت هي الفترة التي أرست فيها مايا أنجيلو Maya Angelou أسس الشغف بالعلم والتعلم، وموهبة الإنصات، وكذلك تكوين ذاكرة لاقطة. ولقد كانت تساعدها معلمتها على التحدث مرة أخرى. لكنها أرسلت مرة أخرى للعيش في كاليفورنيا مع أمها بعد أن استعادت القدرة على النطق، والتحقت هناك بالمدرسة. ثم عملت وهي في سن 16 عاما لحاجتها الشديدة للمال "كسائقة أتوبيس"، وبهذا صارت أول امرأة سوداء تمتهن سواقة الحافلات في مدينة سان فرانسيسكو. 
ولكم أرادت أمها أن تتفرغ ابنتها لهذه المهنة طوال العمر؛ لأنها ترى فيها فرصة رائعة ومضمونة وذات دخل ثابت، ومستقبل واعد. واجتهدت مايا أنجيلو Maya Angelou في هذه المهنة إلى أن تزوجت من بحار رغم عدم موافقة والدتها. لكنها كانت تشعر دوماً أن بداخلها فنانا. وبذلك أخذت دروس في الرقص الإيقاعي. وبعد طلاقها، احترفت الرقص في الملاهي، بل وباعت جسدها مقابل المال لتجد ما يغطي نفقاتها هي وصغيرها. لكنها لم ترض بالانزلاق في الحضيض وارتقت بنفسها إلى أن صارت راقصة بالأوبرا. ثم اعتلت عرش النجومية، وأضحت بطلة لإحدى المسرحيات التي جالت أوروبا. وهناك تعرفت على الروائي الأفريقي الأميركي جون أوليفر كيلينز John Oliver Killens وانتقلت معه للعيش في مدينة نيويورك للتركيز على مهنة الكتابة. 
وفي نيويورك، انفتحت مايا أنجيلو Maya Angelou على عالم من الإبداع في كتابة المذكرات، والشعر، والرواية، ثم نشرت أول كتبها. وكذلك اقتحمت مجال الخطابة، وصارت ناشطة حقوقية بارزة. ولم تترك أبداً عملها كنجمة مسرحية، بل وأضافت لأنشطتها ومواهبها عندما اقتحمت مجال الصحافة، إلى أن أصبحت صحفية بارزة. فعملت في غانا ثم مصر، وتعرفت على الكثير من السياسيين والحقوقيين مثل مارتن لوثر كينج Martin Luthur King، ومالكولم إكس Malcolm X. ولقد نشرت سبع سير ذاتية، وثلاثة كتب مقالات، والعديد من كتب الشعر، وتنسب إليها قائمة من المسرحيات والأفلام والبرامج التلفزيونية مثلتها على مدار أكثر من 50 عامًا. 
حصلت مايا أنجيلو Maya Angelou أيضاً على عشرات الجوائز، وأكثر من 50 درجة علمية فخرية أهلتها بعد ذلك للعمل كأستاذ جامعي. ويذكر أن في حفل تنصيب الرئيس بيل كلينتون Bill Clinton رئيساً للولايات المتحدة عام 1993، كانت ضيفة مدعوة؛ حيث دعاها الرئيس بيل كلينتون لافتتاح الحفل بإلقاء قصيدة لها، وبهذا صارت ثاني شاعر يحضر حفل تنصيب رئاسي بعد الشاعر الأميركي الأبيض روبرت فروست Robert Frost الذي افتتح حفل التنصيب الرئاسي للرئيس جون إف كينيدي John F. Kennedy. ومما لا شك فيه، اكتسبت مايا أنجيلو شهرة عالمية واسعة وتقلدت العديد من الجوائز المهمة.
ولقد كانت أشعار مايا أنجيلو بمثابة للدفاع عن حقوقها وحقوق الغير، وساعدتها أن تصير ناشطة حقوقية بارزة. وتأرجحت موضوعات أشعارها بين الحب، والموسيقى، والمصاعب التي تجابهها النساء، والكفاح، والتفرقة العنصرية، مما دفع الجموع أن تطلق عليها لقب "شاعرة الشعب"، و"الشاعرة السوداء صاحبة الجوائز". فلقد كانت مايا أنجيلو Maya Angelou إنسانة صلبة، تحاول أن تجعل من ظروفها السيئة التي تدفعها للهامش معبراً لحياة من النجاح، تزداد فيها شموخاً وشهرة رغماً عن عرقلة المتربصين بها ونجاحها. 
ومن أشهر أشعارها التي تعبر عن ذلك، وتعطي الأمل لكل بائس يمر بظروف ضيقة قصيدتها الجميلة "لسوف أظل شامخة"، التي كتبتها عام 1978 في قمة صراعها من أجل البقاء والحفاظ على مواهبها المتعددة، وتقول فيها:

قد تكتبني في كتب التاريخ
بحروف أكاذيبك القاسية الملتوية،
وقد تطأني أقدامك وتزجني في عمق الأوساخ
لكنى كالغبار لسوف أرتفع لأصير شامخة

هل تضايقك جرأتي؟
لما غيمت عليك الكآبة؟
هل لأني أخطو وكأنني أملك آبار من النفط
تضخ زيتها في غرفة معيشتي؟

أنا تماماً كالأقمار والشموس
التي تؤمن بحركة المد والجذر،
وكذلك كالآمال التي تضرب عنان السماء
أقف شامخة.

هل آملت أن تراني منكسرة؟
مطأطأة الرأس، وعيناي لا تفارق الأرض.
وأكتافي حانية كقطرات الدموع،
ونفسي أنهكها صرخات أنين نابع من القلب.

هل غطرستي تجعلك مستاء؟
لا تصعِّب الأمر هكذا على نفسك.
فأنا أضحك كمن لديه مناجم الذهب
اكتشفت في الفناء الخلفي لمنزلي.

قد ترميني برصاص كلماتك،
وقد تمزقنى بعيونك،
وقد تقتلني بكرهك،
لكنى كالهواء سأعلو شامخة.

هل يزعجك جمالي؟
هل كانت مفاجأة لك
أنني أرقص كما لو كان هناك
ألماسٌ ينبجس عند ملتقى ساقاي؟

فمن أكواخ تاريخنا الذليل
صرت شامخة
ومن ماضي نبت من الآلام
صرت شامخة
أنا محيط أسود اللون، واسع تتلاطم فيه الأمواج،
أتحمل حركة المد والجذر، بينما تنهكني الصفعات وأصير متورمة
لكني ألقي خلف ظهري لياليَ الفزع والخوف
فأصير شامخة
في فجر يوم رائع الصفاء
صرت شامخة
وأضحيت ثمرة عطايا الأسلاف
أنا حلم وأمل العبد
شامخة
شامخة
شامخة
فبالرغم من أن هذه القصيدة تجسد حال المجتمع الأسود في ذاك الوقت وما يتعرض له من ظلم واضطهاد وتشويه، يسجنه في غياهب التهميش، لكنها أيضاً قصيدة نابعة من ذاتها المكلومة التي تجاهد حتى تتصدر دوماً أعتاب النجاح؛ لتحرر نفسها من ماضي وواقع من الآلام. فالنجاح هو الطريق الذي يختاره المرء بالرغم من المصاعب، والأهوال، والفشل الذي يحيط به من كل جانب. والشخص الناجح هو ذاك الفرد ذو الإرادة الحديدية التي لا ترضى إلا بالنجاح دون سواه طريقاً؛ لأنه ببساطة السبيل للحرية والتحرر. فكلما ضنت عليك الدنيا بالسعادة، وأدارت لك ظهرها، وحاوطك الآخرين بكرههم، حتى صرت وحيداً لا تعرف من أين تبدأ، لا تشعر بالإحباط، وأجمع كل هذه الأهوال في كومة وقف عليها منتصراً شامخاً.