ما الهدف من وراء الطعن والتشهير بالأحزاب العراقية؟

تسعى إيران لفرض دكتاتوريتها في العراق من خلال تحميل الأحزاب، كل الأحزاب، مسؤولية الخراب والفساد.

ما يجري في العراق منذ أسابيع، وتحديداً في الجنوب والوسط منه، لم يتعدَ الى الان اسلوب التظاهرات الاحتجاجية، أي التجربة المستنسخة عن "الربيع العربي" السيئ الصيت و"الثورة الاسلامية" الاشد سوءاً. ولقد تم التعرف بيسر على أسباب التظاهرات، منها غير المباشرة، أي الفساد، الفقر، البطالة، غياب ونقص الخدمات، لاسيما في مجالي الكهرباء والماء..الخ، أو السبب المباشر لها والذي فجرها وهو قيام ايران بقطع الكهرباء والماء عن العراق وبذلك فأنها عمقت من التناقض بين الشعب العراقي والنظام الحاكم واسرعت في التمهيد للفوضى الخلاقة حين أخلت بعقدها مع العراق الذي قضى بتزويده بالكهرباء وبعد أن تسلمت 4.5 مليار دولار لقاء ذلك. وجاء هذا السلوك من ايران رداً على العقوبات الاميركية التي نصت على منع تصدير النفط الايراني، لذا فأن ايران اختارت الوقت المناسب لتحقيق اهدافها عبر احداث الفوضى الخلاقة. وتم لها ما أرادت، حين أمتدت الفوضى من البصرة الى المحافظات الجنوبية كافة ومحافظات في الوسط كذلك.

تأمل ايران من وراء الفوضى الخلاقة هذه تحقيق جملة من الاهداف، ومنها اسقاط حكومة العبادي والمجيء بحكومة تكون بمثابة أداة طيعة لها. حكومة دكتاتورية وحرب في أن معا ولتحقيق هذا الهدف الاني فأنها راحت تركز على تخطئة وتجريم الاحزاب والتكفير بها وصولاً الى تأسيس حكومة الحرب والدكتاتورية التي من دون ازالة الاحزاب لن تقوم أو تستقيم. فالابقاء على حزب الحرب والدكتاتورية وترجمة حربها على الاحزاب بقيام جماهير الجنوب الغاضبة بحرق ومهاجمة مقرات الاحزاب كافة ومهاجمة الحياة الحزبية من حيث المبدأ. ولا ننسى ان الدكتاتورية لا تستقيم بدون القضاء على الاحزاب ومنعها والغائها، بالمقابل فأن الديمقراطية كذلك لا تقوم بدورها بدون الحرية للاحزاب، والهيمنة الايرانية على العراق لن تمر وتتحقق الا بالغاء الاحزاب في الداخل والحرب على السعودية والامارات في الخارج ولنا من الامثلة الكثير على هذا الطرح.

خذ مثلا حكومة الزعيم عبدالكريم قاسم 1958-1963 من قبل ان ان تبدأ بالحرب على الشعب الكردي في ايلول عام 1961 اضطهدت الحزب الشيوعي العراقي ونطمت حملة اغتيالات ضده في الموصل بالاخص وحجبت النشاط القانوني عنه والقت بالمئات من اعضائه في سجون نقرة السلمان وبعقوبة.. الخ ثم اغلقت مقار الحزب الديمقراطي الكردستاني ومارست اشكال الاستفزاز ضده، وجمد الحزب الوطني الديمقراطي نشاطه تلقائياً بسبب من ممارسة ضغوط عليه. وقبل هذا كانت قد قادت حملات بوليسية ضد الاحزاب القومية العربية.. البعث والناصريين.. الخ وما أن تم لها ما أرادت واذا بها تشن الحرب على الكرد واشعلت الحرائق في كردستان بدءاً من زاخو وانتهاءً بخانقين. جاء صدام حسين من بعده وعمل على التهيؤ للحرب على ايران وفيما بعد على الكويت والدول الخليجية. سار على النهج نفسه لقاسم. فبين أعوام 1975 – 1980 السابقة على حربه على ايران استغل القضاء على الثورة الكردية ليتوجه للقضاء على الاحزاب الكردية وبالاخص الحزب الديمقراطي الكردستاني. وفي عام 1978 أباد تنظيمات الحزب الشيوعي العراقي في انحاء العراق ولم يتوقف عند هذا القدر بل قتل واعدم حتى معارضيه داخل حزب البعث الحاكم امثال محمد عايش، وأباد قوى ومكونات اجتماعية كانت بمستوى الاحزاب الفاعلة مثل عشيرة بارزان التي تعرضت الى حملتي قمع. الاولى بتهجيرها من قراها ومناطقها عام 1976 الى الجنوب والثانية في عام 1983 حين تعرضت الى حملة ابادة شرسة راح ضحيتها نحو 8 الاف بارزاني، وتوقع ان يكون المكون الفيلي الكردي ببغداد عائقاً امام حربه لذا فانه اقدم على ابادة نحو 3 الاف شخص منهم وقام بتسفير الاخرين منهم الى ايران.

تجربة الاستعداد للحرب في عهدي قاسم وصدام تكررت في تركيا أيضاً على يد اردوغان وحزب العدالة والتنمية الحاكم اللذين عملا على جعل الحكومة التركية حكومة دكتاتورية وحرب كما سنرى. ففي البداية وجه اعنف الضربات الى حزب فتح الله غولن اقوى الاحزاب التركية، ثم قام بتصفية قوى كردية كثيرة منها حزب الشعوب الديمقراطية والقاء رؤساء بلديات وبرلمانيين كرد في السجون والمعتقلات وجعل حزب الشعوب الكردي يخسر 20 مقعداً في الانتخابات المبكرة التي انخفضت مقاعد الشعوب الديمقراطية من 80 مقعداً الى 60 مقعداً. اللافت ان حزب العدالة والتنمية فقط زادت مقاعده. ان سياسة اردوغان القمعية في تركيا منذ سنوات والى الان والتي تلخصت في محاربة الشعب الكردي واحزابه في تركيا، وابادة حزب فتح الله غولن، كانت لاجل تمهيد الطريق الى الحرب والعمل على تحويل الحكومة التركية الى حكومة حرب وعدوان على سوريا وشمال كردستان العراق وعلى كل الشعب الكردي في تركيا. وها هي حكومة وحزب اردوغان في حالة حرب ضد الكرد في تركيا وفي كل من العراق وسوريا ايضا. ولو كان حزب فتح الله غولن وكذلك حزب الشعوب الديمقراطية والى حد ما الحزب الجمهوري على قوته لما كان بوسع اردوغان ان يعبد الطريق الى الدكتاتورية والحرب.

ان اخشى ما تخشاه حكومات الحرب والدكتاتورية هي الاحزاب والمكونات الاجتماعية التقليدية ضد مشاريعها الحربية. فتجرية القضاء على الاحزاب لدى الحكومات الساعية للحرب، سابقة على تجارب قاسم وصدام واردوغان. فالنازية الالمانية والفاشية الايطالية من قبل ان تقوما بالحرب على الدول الاوروبية، قضتا على الاحزاب المعارضة لهما في المانيا وايطاليا قبل كل شيء، وظلت نزعة الحرب على الاحزاب لا تفارق النازيين والفاشيين حتى في البلدان التي احتلتها. فأثناء الاحتلال النازي لفرنسا، كان هم القيادة الالمانية الهتلرية هو القضاء على الحزب الشيوعي الفرنسي، وهو الحزب الاشد تصلباً انذاك بوجه الاحتلال الالماني حتى انه لقب بحزب الشهداء بعد تضحيته بـ 70 الف شهيد. فقد حرك عمال باريس لمقاومة الاحتلال الالماني. وفي اثناء الاحتلال النازي لغرب الاتحاد السوفيتي السابق، فأن النازي حدد أربعة اصناف من البشر لقتلهم وابادتهم اولهم اعضاء الحزب الشيوعي السوفيتي والثاني اليهود، ثم الموظفون والعسكريون. ناهيكم عن محاكمته لجورج ديمتروف زعيم الحزب الشيوعي البلغاري في المانيا.

رافقت الحملة الاعلامية الحالية في العراق وما تزال هجمات على مقار الاحزاب الشيعية كافة في جنوب العراق. اما الحملة على الحزب الشيوعي والاحزاب العلمانية فهي مشررع دائم منذ عقود. حتى الاحزاب التي عرفت بتعاطفها مع التظاهرات الان وفي السابق ايضاً كالتيار الصدري فأنها لم تسلم من الحملة. وتم تحميل الاحزاب كافة، الفساد والتقصير وانعدام الخدمات والوساطة والمحسوبية والمنسوبية. ولا شك ان الحملة هذه لم تكن عفوية، بل منظمة ومخططا لها في الداخل والخارج، ويمارسها بعضهم عن جهل وعدم دراية. فالذي يؤسف له ان جمهرة من الكتاب والمثقفين والفنانين اخذت بالانضمام الى حملة معاداة الاحزاب من بينهم وهذا على سبيل المثال الدكتور خالد القره غولي الذي كتب مقالاً قال فيه "العراق لن تقم لها قائمة الا بالغاء الاحزاب والكتل العراقية". وكتب سامي ال سيد عكلة الموسوي يقول "العراق يسير نحو هاوية سوداء لو استمرت الاحزاب برموزها الفاشلة". وفي مقابلة اجرتها فضائية الشرقية نيوز مع الفنانة المعروفة الاء حسين افتخرت الاخيرة بعدم انضمامها لأي حزب! وكأن الاحزاب صارت عيباً وعاراً في وقت ليس هناك ديمقراطية ولا حريات ولا برلمان ولا عدالة في أي مكان في العالم بمعزل عن التعددية الحزبية، ولقد كان للاحزاب العراقية دور مشرف على مدى عقود في النضال ضد اشكال الظلم والطغيان، وفي توعية الشعب ضد الدكتاتوريات والمحتلين.

ان الاحزاب العراقية باتت تتعرض منذ أعوام الى حملات اعلامية شرسة والى تصفيات جسدية لاعضائها لغرض اقصائها وتدميرها والاستخفاف بها وبالاخص منذ تثبيت النهج الايراني في العراق عام 2003. فلاغرابة ان نجد والى حد ما مصطلح الحزب يختفي كاسم اول لأسماء الاحزاب العراقية التي تقدمت للمشاركة في انتخابات يوم 12-5-2018. حتى الاحزاب الكردية الجديدة التي ظهرت وشاركت في تلك الانتخابات، خلت اسماؤها من مصطلح الحزب. في حين كان المصطلح يشكل الاسم الاول للاحزاب في العهود السابقة مثل الحزب الشيوعي العراقي الحزب الوطني الديمقراطي الحزب الديمقراطي الكردستاني، حزب الاستقلال، حزب التحرير، حزب البعث.. الخ.

لماذا وكيف توارى المصطلح في القرن الحادي والعشرين في العراق باستثناء قلة من الاحزاب العراقية         مازالت تحمله مثل الحزب الديمقراطي الكردستاني والحزب الشيوعي الكردستاني والحزب الشيوعي العراقي؟ الجواب عند ايران طبعاً. فقد كشف ايرج مسجدي سفير ايران لدى العراق عن العداء الايراني للاحزاب في العراق لما صرح قائلاً في معرض تناوله لتظاهرات المحتجين وطعنه بالاحزاب العراقية "ان اسباب هذه التظاهرات تعود الى عدم رضا الشعب العراقي عن اداء الاحزاب السياسية!"

وهكذا نجحت ايران في تحويل النقمة الجماهيرية عليها وعلى ركائزها في العراق الى الاحزاب السياسية الوطنية العراقية، ولم تتوقف عند تعميق السخط والغضب الجماهيريين على الاحزاب لدى العراقيين بل قامت وفي خضم الفوضى الخلاقة بأرسال 3000 عنصر من قوات التعبئة الشعبية الايرانية المعروفة اختصاراً بالباسيج عبر معبر الشلامجه الحدودي وهم (العناصر) يرتدون ملابس عناصر قوات "سوات" والتي استقرت في ضواحي البصرة، وبالذات في المعسكرات القديمة والمتروكة للجيش العراقي السابق، ومن هناك توجهت الى السماوه والديوانية والناصرية. وقبل هذا التطور كان قائد الباسيج غلام حسين غيب برور قد اجتمع اكثر من مرة بالجنرال قاسم سليماني قائد فيلق القدس الايراني وهو الحاكم الفعلي للعراق وتكلل اجتماعهما باتفاق نص على ارسال اولئك الـ 3000 باسيجي الى العراق رغم انه كان هناك وما يزال جنود ايرانيون منتشرون في معظم انحاء العراق بصفة مستشارين وخبراء عسكريين.

ان الاستخفاف والطعن والتشهير بالاحزاب ومحاربتها يمهد الى الغائها وتطبيق النموذج الايراني (اصلاحيون ومحافظون) في العراق. بعد هذا العرض للاحزاب والدكتاتورية والحرب في العراق ودول اخرى قد ينبري احدهم متسائلاً: هل تنشب الحرب بعد التمهيد لها قريباً عبر القضاء على هذه الاحزاب؟

في الماضي كانت الفترة بين حرب وحرب غالباً ما تكون قصيرة وبمعدل حرب كل 11 عاما، بيد اني اتوقع نوعاً من التاخير والتأجيل المؤقت للحرب المقبلة، حرب على غرار حربي الخليج الاولى والثانية. واقول ذلك بعد دراسة لي للحربين الخليجيتين ضد ايران وفيما بعد الكويت وكان مشعلها العراق في الحالتين عام 1980 وقعت حرب الخليج الاولى وفي عام 1991 كانت الحرب الخليجية الثانية اي بعد 11 عاما على حرب الخليج الاولى وفي عام 2003 اندلعت حرب اسقاط النظام العراقي أي بعد 11 عاماً ايضاً على وجه التقريب. وفي عام 2014 نشبت حرب داعش على العراق عندما احتل الموصل يوم 10-6-2014 أي بعد 11 عاماً ايضاً على حرب تحرير العراق من دكتاتورية صدام حسين. عليه واستناداً على ذلك الجدول الزمني يتوقع كاتب المقال ان تنشب الحرب الخليجية الثالثة في حدود عام 2027 حيث تمر 11 سنة على حرب داعش على العراق وسيكون مشعل الحرب الخليجية الثالثة العراق ايضاً. والى ذلك العام تبقى الاجواء مشحونة بالتوتر والحرب الباردة وقد بدأ الحرب قبل ذلك التاريخ (ولكل قاعدة استثناء) ان الفترة الزمنية الـ 11 عاماً بين حرب وحرب من وضع استاذ ماهر جداً وضع نصب عينيه التقاط المتحاربين لانفاسهم وتهيؤهم للحرب من ناحيتي السلاح والاموال والمتلزمات الاخرى.