ما بعد أفغانستان: بين الفوضى الخلاقة ورفض الشريعة

الاعتراف بسلطة طالبان يفيد الغرب اليوم، لكنه يعيد عقارب الساعة قرونا إلى الوراء بالنسبة للأفغان والمنطقة.
الهدية الاميركية لطالبان سوف تصب الدماء في عروق الجماعات الإسلامية ويتنفسون الصعداء
أعداء الامبريالية يحاولون التغطية على استبدادهم وتصوير ما حدث في أفغانستان على أنه هزيمة لأميركا

ليس هناك أية مقارنة بين هزيمة الولايات المتحدة في فيتنام وبين الانسحاب الاميركي من افغانستان. ففي الاولى، كانت تعيد الآلاف من الجنود الاميركان بتوابيت الى بيوتهم ليصل إلى 57 ألف جندي واحتجاجات عارمة في عموم الولايات وانقسام حاد داخل الطبقة الحاكمة في واشنطن حول جدوى الاحتلال، بينما في الثاني هو جزء من استراتيجية اميركية انسجم عليها الحزب الجمهوري قبل الديمقراطي وعملت على خلط الاوراق على الحلفاء والاعداء.

ما وراء تسويق مقولة "الفشل الاميركي في افغانستان"

واختيار عنوان عريض وهو الانسحاب الاميركي من افغانستان هو "فشل السياسة الأميركية" ودق الطبول والعزف على وتره، والمقارنة بينه وبين فشله في فيتنام، هو جزء من صب الماء في طاحونة التيار الذي يُعرف بهويته "الأنتي اميركا" أو "أنتي الإمبريالية" اي التيار المعادي لأميركا والامبريالية. ويحاول هذا التيار تصوير ما حدث في أفغانستان على أنه هزيمة اميركا، من اجل تقوية الروح المعنوية لذلك التيار واعادة إنتاج هويته وتغليف كل قمعه واستبداده للحرية والمساواة وإفقار المجتمع بتلك الهوية الزائفة سواء كأنظمة سياسية حاكمة، او كتيارات معارضة لحرف الانظار وطمس ماهية المحتوى الطبقي لهذا التيار الذي ليس له أية صلة بتحرر الإنسان وانهاء كل اشكال الظلم الاقتصادي والاجتماعي والسياسي بحقه، وايجاد تبريرات باستمرار تلك الانظمة القومية بسياستها المجرمة تجاه العمال والمحرومين في مجتمعاتها مثل النظام السوري والجمهورية الاسلامية في ايران وحزب الله، وميليشيات تحالف فتح التي تبنت الهوية نفسها في الوقت الضائع. وليس هذا فحسب بل الادهى من كل ذلك اختزال كل مأساة الغالبية العظمى من الشعب الأفغاني من فقر وبطالة وانحطاط اجتماعي واقتصادي بأنها تحررت من الاحتلال الاميركي، وكأن الشعب الأفغاني كان قبل الاحتلال وتحت سلطة طالبان، ينعم بالحرية والرفاه.

هذا التصوير المخادع يعزز ايضا من النظرية التي لا تقل زيفا عن الاولى بأن الولايات المتحدة الاميركية ذهبت لأفغانستان كي تنجح في تحرير البشر من سيطرة الجماعات الاسلامية الارهابية وبناء مجتمع حر وآمن الا أنها فشلت هناك. بينما المعطيات الواقعية تبين على نشر كم من الأوهام عن فحوى السياسة الاميركية التي تتحرك تحت عنوان حقوق الإنسان ونشر الديمقراطية في حين تخفي في طياتها دائما وابدا ترسيخ الفساد والرجعية وتأهيل حثالات اجتماعية الى الدفة السياسية في السلطة. وفي الوجهين لتلك النظرية تكون النتيجة اخفاء ماهية السياسة الاميركية واستراتيجيتها التي لم تكن أكثر من مساعي لفرض هيمنتها الاقتصادية والسياسية على العالم. ولم تطأ قدم الولايات المتحدة اي مكان في العالم والا حولته الى خراب ودمار، ولم تقوي وجودها غير العصابات والجماعات الارهابية والفاسدة سواءً أكانت موالية لها او معارضة لوجودها. ولم تغادر أي بلد سواءً كهزيمة عسكرية مثلما حدث في شبه الجزيرة الكورية عام 1955 وفيتنام عام 1975 او من تلقاء نفسها مثل العراق وافغانستان اليوم الا وخلفت ورائها انظمة وجماعات استبدادية ورجعية حتى النخاع.

لقد افشى بايدن بالسر، في كلمته قبل يومين بأن جيوشها لم تذهب الى افغانستان من اجل بناء "دولة". وتعبر هذه الجملة عن مصداقية السياسة الأميركية ولأول مرة ودون اية رتوش. وهذا يعني ان اميركا لم تهزم في افغانستان، بل الذي هُزم هم جماهير افغانستان، ولعب الاحتلال الاميركي دورا كبيرا في الحاق تلك الهزيمة المرة. فالاحتلال الاميركي في افغانستان لم يبنِ المصانع ولا المعامل، بل أنفقت اميركا أكثر من 60% من المبلغ الإجمالي الذي يقدر 2.26 تريليون دولار على المؤسسة العسكرية ونفقاتها بشقيها الأميركي والافغاني ومشاريع لا تقدم ولا تأخر على تغيير البنية الاجتماعية والبنية الاقتصادية التي تؤسس لحكم على الاقل يشبه الحكومات في افضل احوالها بعض البلدان الطبيعية في اسيا او افريقيا او اميركا الجنوبية، وحتى اسم أفغانستان في الأمم المتحدة ما زال يحمل الراية الاسلامية وهو "الجمهورية الاسلامية الافغانية". ما فعلته اميركا فقط قامت بمنح الرشاوى لرؤساء العشائر والقبائل لشراء الولاءات وبناء عدد من المستشفيات والمدارس، وتأهيل عدد من النساء لمناصب وزارية للتسويق الاعلامي من اجل ترسيخ نشر الوهم حول دفاعها عن حقوق الانسان، بينما ظل وضع المرأة الافغانية على صعيد فرص العمل والحقوق في القوانين لا تتجاوز النسخة المعدلة للشريعة الاسلامية وهي الاقل حتى من نساء ترضخ لحكم رجعي وتعسفي مثل الجمهورية الاسلامية في ايران. وهذا ما حدث في المشهد العراقي ايضا بعد غزوه واحتلاله لتكملة مسيرة البعث والحملة الايمانية لصدام عام 1996 وسياسة الحصار الاقتصادي الوحشي على جماهير العراق. الا ان الفارق الوحيد في المشهد العراقي هو ان هناك تيارا اجتماعيا عريضا متمدنا وحضاريا وتحرريا يضرب جذوره في عمق المجتمع العراقي، وهو الذي قاوم وما زال يقاوم الطبقة السياسية الفاسدة والمجرمة التي نصبتها حراب المارينز الاميركي في العراق، بعدم تحويل مدن العراق الى قندهار الأفغانية.

الحيلولة دون خلق وكر للإرهاب والصراع الجيوسياسي

رسائل التهنئة التي بُعثت الى طالبان، اكدت على ما قلناه منذ اليوم الثاني لإهداء القوات الاميركية العاصمة كابول لحركة طالبان، بأن الاهداء الاميركي سيصب الدماء في عروق الجماعات الإسلامية والمشروع الإسلامي ويتنفسون الصعداء، ويشحن وقاحتهم في معاداتهم من جديد للماهية الانسانية ونشر كلما هو غير انساني من افكار وفتاوى وتنظيم المجازر بحق الانسانية. والحق يقال ان الانسحاب الاميركي من افغانستان وضع الأقطاب الرأسمالية العالمية الكبرى مثل روسيا والصين والاتحاد الأوروبي في ورطة كبيرة. وفي خضم هذا الصخب والفوضى، تحاول هذه الاقطاب رفع استعداداتها الامنية والسياسية، وتخوض ايضا في نفس الوقت سباقا جيوسياسيا في أفغانستان للاستعداد لأية ضربة استباقية بالحيلولة دون تحويلها الى سورية اخرى تهدد حدودها.

وليست التصريحات الاخيرة لممثل السياسة الخارجية للاتحاد الاوروبي بوريل بالأمس بإطلاق تحذير للاتحاد الأوروبي من خطورة ان تحاول روسيا والصين ملء الفراغ بعد الانسحاب الاميركي، الا تحذيرات فارغة على الصعيد الواقعي والعملي. انها محاولة لترميم معنويات دول الاتحاد الأوروبي بعد اللهاث وراء الاستراتيجية الاميركية بدل من سن استراتيجية خاصة بها تعمل على تحقيق مصالحها. صحيح أن أوروبا تبحث عن موارد طبيعية للنهوض بالصناعة الخضراء اي الصناعة التي لا تؤثر على البيئة، وان أفغانستان هي الأغنى بتلك الموارد مثل احتوائها على ما يعادل أكثر من 1000 مليار دولار من معدن الليثيوم، إلا أنه من دون استقرار امني وسياسي، فلا مكان للاستثمار والاستخراج. وحتى طريق الحرير الصيني أي مشروع "الحزام والطريق" هو الاخر مهدد بمنع العبور من افغانستان. فإذا كانت القضية الاستراتيجية بالنسبة لروسيا والصين هي إنهما تخشيان من تحول افغانستان الى وكر جديد للتصدير الإرهاب وتقوية الحركات الانشقاقية في بلدانها وستلسعهما نيران الفراغ الأمني في أفغانستان بسبب حدودهما وقربهما، فإن أوروبا ستتذوق مرة أخرى ما حصل في عام 2015 من تدفق اللاجئين إليها عبر طريق ايران ثم تركيا بشكل مباشر أو غير مباشر، حيث تقدر المؤسسات الدولية بأن عدد اللاجئين الأفغان سيصل بين 3-5 ملايين شخص ناهيك عن تصدير الارهاب الاسلامي لها كما كان في عصر بزوغ شمس دولة الخلافة الإسلامية المعروفة باسم داعش. وهذا ما يدفع روسيا والصين في سباق مع الزمن لملئ الفراغ الامني والسياسي في افغانستان، والعمل على افشال المشروع الاميركي او الاستراتيجية الاميركية في خلق بؤرة جديدة من التوترات وتصدير الارهاب، وهو تحويل أفغانستان الى ملاذ ومنبع لكل العصابات والجماعات الاسلامية الارهابية المدعومة اميركيا وأوروبا وتركيا. وعلينا التذكر دائما كيف كان أمثال جون ماكين الجمهوري والمرشح الخاسر أمام أوباما للانتخابات الرئاسية ورئيس لجنة القوات المسلحة في الكونغرس الاميركي، وقد رحل عن الحياة قبل ثلاث سنوات، نقول كان يجتمع مع قادة الإرهاب عام 2012-2013 بعد ما سمي بالربيع العربي على الأراضي السورية، وقدمت كل أشكال الدعم لتلك الجماعات التي تحولت بعد سنتين الى غول وحشي اسمه داعش. نفس السيناريو يعد له في افغانستان سواء بشكل مخطط او عبر سياسة كونداليزا رايس مستشارة الامن القومي في إدارة اوباما، الشهيرة "الفوضى الخلاقة".

مشهدان للإعلام العالمي وقناة الجزيرة ومشهد لرفض الامارة الإسلامية

المشهد المثير في افغانستان، وهو ما لا تريد أن تشاهدها جماعات الإسلام السياسي في العالم التي بعثت برسائل تهنئة الى طالبان من كل حدب وصوب، هو الهروب الجماعي للملايين من الأفغان. هذا ناهيك عن الاحتجاجات الجماهيرية يوم الاستقلال من الاستعمار البريطاني برفع الراية الوطنية الافغانية كتعبير عن رفض راية طالبان الاسلامية. هذان المشهدان يعبران عن حقيقة واحدة هو رفض جماهير افغانستان للشريعة الاسلامية وإمارة طالبان الاسلامية وحكم سيف الله على رقاب الجماهير الذي تحملها جماعة طالبان. وليس هذا فحسب بل ان الدعايات الكاذبة والمنافقة والمغرضة لقناة الجزيرة الناطقة غير الرسمية بلسان حال الاسلام السياسي السني في العالم، تحاول اعطاء صورة عبر مراسليها ومستشاريها الاعلاميين الإخوانيين، بأن الشعب الأفغاني يهرب من أفغانستان لأنه تعود على طلب اللجوء منذ قديم الزمان، وبان الأمن استتب في ظل طالبان، ليصل بالنتيجة الى اقناع المشاهد وبالتالي التأثير على الرأي العام مفاده ليس هناك أي مبرر لهروب الشعب الأفغاني. الا ان الجزيرة تتناسى حقيقة أو بديهية وهي أن الشعب الافغاني يريد الحرية ويريد ان يكون ابناؤهم وبناتهم بعيدين عن حكم الشريعة والاسلام. إنه تعبير عن رفض علني للشريعة ومن حقهم العيش في ظل مجتمع وسلطة على الاقل لا يخافون ان يحكم عليهم اذا ما تصرفوا على سجيتهم اما بالجلد او الرجم بالحجارة او قطع الراس كما حدث في زمن طالبان وما حدث في عصر خلافة الدولة الاسلامية في العراق وسوريا. والحقيقة الاخرى تحمل نفس المحتوى. فبالرغم من سياسة الاحتلال، وبالرغم من فساد زمرة اشرف عبدالغني الذي هرب بأموال الشعب الأفغاني، وبالرغم من حجم مساحة الفقر، إلا أن الشعب الأفغاني لم يفكر بشكل جمعي بالهروب من أفغانستان مثلما يحدث اليوم في ظل سيطرة طالبان. وهذا يبين ان بذور مقاومة مشروع الامارة الاسلامية قد بدأت، سواء بشكلها السلبي مثل الهروب الجماعي او بشكلها الايجابي مثل الاحتجاج المشار اليه او بإعلان المقاومة الشعبية المسلحة بوجه طالبان.

مشهد كوباني ام مشهد مطار كابول

بعبارة اخرى، المشهد الإعلامي والدعائي المهول الذي اختزل كل ما آلت إليه الأهوال في افغانستان بالتدافع الجماعي والفوضى العارمة للهروب عبر الذي حدث في مطار كابول، هو بقدر انه يبين كما يقول لنا انصار التيار المعادي للإمبريالية واميركا، بأن أميركا ليست محل ثقة الحلفاء وعلى المعولين على سياستها عليها الاتعاظ منها، بنفس القدر هو إيصال رسالة اميركية واضحة للعالم مفادها، أن على العالم أن يتعلم بأن لا قيمة لها دون الوجود الاميركي، وهذا ما اشار اليه بايدن بشكل غير مباشر حول عملية الاجلاء الكبرى، وليس لأية دولة القدرة ان تقوم بها غير الولايات المتحدة كما ادعى في اخر كلمة له يوم الجمعة المنصرم. اي اراد ان يقول لنا، ان عملية التوريط وعملية الانقاذ بيد السوبرمان الأميركي أو رامبو الاميركي. ويوضح بشكل قاطع مسعى الامبريالية الاميركية بأبواقها الدعائية واعلامها المأجور بتجريد البشر من ارادتها واحباط سعيها الانساني بالتغيير او تجريده من ابداء اية مقاومة مستقلة خارج عن الفلك الأميركي. فقد فشلت هي وتركيا وحلفائها في ترسيخ هذه الصورة في مدينة كوباني السورية عندما قاوم سكانها بكل بسالة وشجاعة عصابات داعش بينما الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وبريطانيا الذين يملأ زعيقهم اليوم العالم بدعوة طالبان لاحترام حقوق النساء وحقوق الانسان والا لن تعترف بحكمها وسلطتها، وقفت متفرجة لا تحرك ساكنا الا بعد كسر شوكة داعش على صخرة ارادة المقاتلات الجسورات من النساء قبل الرجال وارغام الوحوش على التراجع.

فهذه الصورة، صورة، لا ارادة بالتغيير ولا ارادة المقاومة، هي ما تريد ترسيخها في ذهن الجماهير على مستوى العالم، وبالفعل أصابت الهدف، أكثر بما لا يقارن مع مقولة أميركا تتخلى عن حلفائها. فالبرجوازية ابدا وفي أي مكان في العالم لم تكن حتى مخلصة مع المبادئ التي جاءت بها مثل شعارها في الثورة الفرنسية (حرية، اخاء، مساواة) طالما وصلت الى مرحلة تهدد مصالحها، فما بالك مع حلفائها وعملائها. أليست مقولة، في السياسة ليس اصدقاء واعداء دائميين انما مصالح دائمة، هي برجوازية ومتجذرة في الأدب السياسي البرجوازي؟

واخيرا نقول ان حركة طالبان غير شرعية، سواء اعترفت بها دول العالم او لم تعترف بها، سواء شكلت حكومة ائتلافية أو انفردت بالسلطة، وهي لا تختلف عن دولة الخلافة الاسلامية (داعش) التي تحالف العالم ضدها، فلماذا لم تضفِ الشرعية عليها، بينما تحاول إضفاء الشرعية على طالبان؟

أن مسعى القوى التحررية اليوم يجب أن يصب في دعم وتضامن جماهير أفغانستان ضد الامارة الاسلامية عبر الضغط على حكومات البلدان في العالم بعدم الاعتراف بها، ومن جهة اخرى الضغط ايضا لفتح كل بلدان العالم ابوابها امام كل انسان في أفغانستان أراد أن يعيش بعيدا عن سلطة طالبان التي تنص المعاهدات الدولية بحق الاقامة وحق السكن الذي هو جزء من حقوق الإنسان.