ما بعد الدولة البوليسية

فاق النظام الذي أسسه الخميني في إيران ذاك النظام الذي ورثه عن الشاه، عسكريا وأمنيا وإعلاميا. اضاف الدين أيضا.

تحذير أكثر من 500 ناشط طلابي إيران من تشديد حملة القمع في الجامعات، وقالوا إن الأجواء البوليسية بدأت تخيم على كافة أنحاء البلاد. وانتقد هؤلاء الطلبة في رسالة وجهوها إلى الرئيس الإيراني حسن روحاني، صمته إزاء حملة القمع وانتهاك الحريات واتهموه بالتواطؤ مع الأجهزة الأمنية والمتشددين لبسط القبضة الأمنية وقمع الحركات الاحتجاجية. هذا التحذير، الذي يلفت النظر كثيرا ذلك إنه من النوع الذي يفسر الماء بالماء، إذ أنه ومنذ تأسيس نظام الجمهورية الاسلامية الايرانية وبحكم إستناده على نظرية ولاية الفقيه، فإن الممارسات القمعية قد صار شرطا أساسيا لبقائه وإستمراره.

سبق وأن قمت بتسليط الاضواء على هذا الموضوع تحديدا وذكرت في مقالات سابقة بأن النظام الملكي السابق في إيران قد تميز بثلاثة خصائص اساسية منحته تلك الهيبة والقوة والجبروت التي تميز بها طوال سنين حكمه ولغاية سقوطه في 11/2/1979. وهذه الخصائص الثلاثة هي:

ـ القوة العسكرية: كان نظام الشاه يمتلك خامس أقوى جيش في العالم وكانت مختلف دول المنطقة تهابه ولاتتجرأ على الاصطدام والتحرش به.

ـ القوة الامنية: إمتلك نظام الشاه جهازا أمنيا قويا (السافاك)، ساهم بتأسيسه كل من الولايات المتحدة وإسرائيل لكي يساعد نظام الشاه على الوقوف بوجه معارضيه الداخليين ويلعب في نفس الوقت دورا على صعيد جاره الاتحاد السوفياتي. هذا الجهاز الامني كان يعتبر من أقوى الاجهزة الامنية في المنطقة بعد الموساد وكان يكتم على أنفاس الشعب الايراني بشدة.

ـ الدعاية والاعلام: إمتلك نظام الشاه جيشا إعلاميا منظما بالمعنى الحرفي للكلمة وكان يساهم بمختلف الصور من أجل تجميل صورة النظام وتشويه معارضيه وقد تم إستخدام مختلف الطرق والسبل والوسائل الخبيثة والقذرة من أجل تحقيق الاهداف المرجوة.

والتمعن في نظام الجمهورية الاسلامية الايرانية الذي أعقب نظام الشاه، نجد أنه وبصورة ملفتة للنظر تنطبق عليه الخصائص الثلاثة المدرجة أعلاه لنظام الشاه، حيث أنه قد عول على نفس تلك الخصائص ولكن تحت مسميات وعناوين مختلفة، إذ أن هذا النظام قد تميز بامتلاكه لقوة عسكرية جرارة فاقت تلك التي إمتلكها الشاه، خصوصا عندما قام بدعم آلته الحربية النظامية بقوات الحرس الثوري وقوات التعبئة التي تجاوزت جيش الشاه بكثير. كما أن هذا النظام قد منح الجانب الامني والاستخباري أهمية قصوى فاقت جهاز السافاك بكثير إذ أن رجال الدين الحاكمين لم يقفوا عند حد تشكيل وزارة الاستخبارات بمالية خاصة لا يتسنى إعلانها أبدا وانما عززوا ذلك بقوات القدس الارهابية التي تكمن وظيفتها بأعـمال إرهابية تجسسية مشبوهة على الصعيد الخارجي. أما الجانب الاعلامي والدعائي فإن الجهد المبذول بهذا الخصوص قد كان استثنائيا وتغلب هو الاخر على الجهد الذي بذله النظام السابق بهذا الخصوص. ومن نافلة القول أن نظام الجمهورية الاسلامية الايرانية يمتلك جيشا إعلاميا منظما بقوة أموال الشعب الايراني المهدورة في مختلف دول العالم، ناهيك عن ماكنته الاعلامية الموجهة تحت إشراف وهداية مرشد النظام نفسه بالاضافة الى وسائل الاعلام التابعة لأذرعه في بلدان المنطقة والتي تعمل تحت إشراف وتوجيه من طهران.

نظام الجمهورية الاسلامية الايرانية، وان زعم في أدبياته وعبر وسائل إعلامه الموجهة بأنه نظام ثوري تحرري يؤمن بالحرية والديمقراطية، لكن ممارساته الاستبدادية وأعماله القمعية وخصوصا في مجالي حقوق الانسان والمرأة، تثبت بأنه يبقى الاسوأ والاكثر قمعا واستبدادا من نظام الشاه ومثلما لم يكن بوسع نظام الشاه تقبل أي صوت معارض او مخالف له، فإن هذا النظام قد رفض بالمرة فكرة مخالفته او معارضته في الحكم وزاد على نظام الشاه بأنه قد إعتبر المعارض له بمثابة المحارب لله ورسوله، وهي سابقة خطيرة في التأريخ المعاصر ليس لإيران وانما المنطقة والعالم وهو مامنح هذا النظام بعدا وجوهرا بوليسيا فريدا من نوعه بحيث تجعل من مهمة معارضته ومقاومته مهمة عسيرة وصعبة ومعقدة جدا، ويعيد للأذهان عصر الاستبداد الكنسي ومحاكم التفتيش سيئة الصيت.

ما يجري اليوم في إيران ليس نظاما بوليسيا كما قد يسعى البعض للإيحاء وإنما هو أسوأ من ذلك بحكم مزجه القوانين والانظمة الوضعية بالقوانين والانظمة الدينية والخروج بمكون جديد لا يصلح له أية تسمية سوى مصطلح "ما بعد الدولة البوليسية".