ما كانت الفدرالية خيار المسيحيين في لبنان

النظام المركزي يصلح لدولة تتنافس مكوناتها للمشاركة في الحكم لا لدولة تتصارع مكوناتها للسيطرة على الحكم.

صديقي الوزير السابق رشيد درباس - هنيئا له أنه "سابق" - حريص علي. يفضل أن أستعفي من "التبشير" بالنظام الاتحادي، ويراهن على تعميم الوعي الوطني وعودة اللبنانيين جميعا إلى "البيت اللبناني". أسبوعيا أتبادل وإياه الرأي والنوادر. نتفق على جدلية التحليل ووصف الواقع دائما، ونختلف على الاستنتاج أحيانا. وفي جميع الأحوال يجمعنا الانتماء الحضاري والولاء الوطني والنزعة المدنية. بعد قراءته افتتاحيتي في "نهار" الأسبوع الماضي (23 ك2)، اتصل بي مرتابا في أن يكون اقتراحي النظام الاتحادي تعبيرا عن فكر عاد ينتشر في بيئتي... عنى البيئة المسيحية.

البيئة المسيحية ليست مسيحية. إليها ينتمي مواطنون من مختلف الطوائف والمناطق والعقائد. جمعتهم الفكرة اللبنانية، بل الأمة اللبنانية، ونمط حياة لبناني. هذه البيئة اختارت منذ سنة 1920 النظام المركزي القوي من أجل توحيد لبنان أرضا وشعبا وتقديم نموذج شراكة دينية/حضارية/سياسية من لبنان إلى العالم العربي ومن الشرق إلى الغرب. وجددت المرجعيات المسيحية هذا الخيار عند كل منعطف تاريخي. جددته مع استقلال 1943، وبعد أحداث 1958، وبعد حرب السنتين (1975/76)، وبعد انتصار 1982 فأعلن الرئيس بشير الجميل أنه "يريد حكما مركزيا قويا". ورغم أن كل منعطف كان كافيا وحده للكفر بالخيار، تابع المسيحيون الالتزام بالدولة المركزية حتى بعد اتفاق الطائف سنة 1989. لكن تبين بعد مئة سنة أن هذا النظام المركزي، الجيد بحد ذاته، يعيش يتيما ومعزولا. هجره اللبنانيون، كل حسب طريقته وحضارته، وبنوا لهم أنظمة ذاتية غير شرعية أثناء الحروب، وتحت غطاء الشرعية منذ الطائف إلى اليوم.

عدا أنه سقط بفعل الهجر، لم يعد النظام المركزي يتلاءم مع الواقع الذي انحدرت إليه التعددية اللبنانية: عوض أن تتطور وتصبح متكاملة، تراجعت وصارت متناقضة بحكم تعدد الولاءات الخارجية، وتغير أنماط الحياة، والزوائد السكانية عبر التجنيس والتوطين. لذلك بيئتي، وبيئتك الشخصية يا صديقي العزيز، ضاقتا ذرعا من تدهور المشروع اللبناني الذي قدمنا في سبيل إنقاذ صيغته مئات التضحيات والتنازلات وآلاف الشهداء وأغلاهم. بيئتنا المشتركة لا تقبل أن تبني الدولة الحالية نظاما فدراليا مع طوائف ونظاما مركزيا مع طوائف أخرى. إما مركزية على الجميع وإما فدرالية على الجميع.

إن اللبنانيين الميثاقيين تعبوا من الرهان على الوقت لإنقاذ التجربة اللبنانية. فمنذ خمسينات القرن الماضي ومكونات لبنانية تناصر زعماء غير لبنانيين ومشاريع غير لبنانية وتضحي بالشراكة الوطنية. بداية، اعتبرت بيئتنا أن تعدد الولاءات نزوات مرحلية وتنقضي، ووضعتها على حساب "المراهقة الوطنية". لكنها وجدت أن الشرود تزايد عوض أن ينحسر مع العمر، وأن الاعتدال الديني جنح جزء منه نحو التطرف، وأن بعض المكونات حول لبنان جبهة عسكرية مفتوحة غير عابئ بالصيغة والميثاق وبالدستور والشراكة وبسائر المكونات. وما الأزمة المأساوية التي نمر فيها اليوم سوى أحد تجليات ارتهان مكونات لبنانية للخارج. وهذا هو الفساد الأخطر.

إن النظام المركزي يصلح لدولة تتنافس مكوناتها للمشاركة في الحكم لا لدولة تتصارع مكوناتها للسيطرة على الحكم. إن النظام المركزي الذي أردناه جميعا مشروع شراكة بين اللبنانيين صار مشروع حروب أهلية بحكم المشاريع الإقليمية التي تبنتها مكونات لبنانية. وما دامت الدولة اللبنانية مركزية سيستمر الصراع بين المسيحيين والسنة والشيعة والدروز من أجل السيطرة عليها بمشاريع طائفية داخلية (المارونية السياسية والسنية السياسية والشيعية السياسية وخصوصية الجبل) ومشاريع مذهبية خارجية (الهلال السني والهلال الشيعي وحلف الأقليات). من هنا أن استمرار العيش النظري في نظام مركزي والعيش الفعلي خارج الدولة بات خطرا على وحدة لبنان التي ترنحت سنة 1958 ولم تستقم بعد.

إذا كانت البيئة المسيحية تفكر اليوم في طرح النظام الاتحادي، فليس من منطلق ديني أو عقائدي، بل من أجل خلق إطار دستوري مركب يعطل الانزلاق إلى التقسيم، ويحفظ وحدة لبنان. وإذا كان لدى الآخرين نظام غير النظام الاتحادي بديلا عن المركزية التي سقطت على يد غير المسيحيين، فالمسيحيون ليسوا مغرمين بالفدرالية، إنما بلبنان، كل لبنان. ليس لدى المسيحيين مشروع جديد، بل حاجات جديدة.

ليست بيئتي المسيحية وحدها تفكر في نظام "منشرح"، بل كل لبناني، أكان مسيحيا أم مسلما، جنوبيا أم شماليا، بقاعيا أم ساحليا. المعاناة شملت الجميع، والكفر هز الضمائر، والقرف تفشى في المزاج الوطني. اللبنانيون عموما يريدون الحياة في وطن طبيعي، في وطن كفاف أبنائه وأرضه، وكفاف أمنه وحريته. سئموا العيش في وطن متشنج ومستنفر ومذعور ومأزوم ومرعوب ومصادر ومعلق على فوهة بندقية وعلى مشاريع توسعية ومنتهك ببدع جاهلية وخاضع لأوامر خارجية، يهز كيانه فكر ديني من هنا وثورة رجعية من هناك.

صديقي رشيد، المفعم باللبنانية الحضارية، يرى في الانتفاضة الجارية ما يدحض الصورة أعلاه، ويؤمن بأن الجيل اللبناني الجديد متحد وعلماني، ويلغي، بالتالي، مبرر قيام دولة اتحادية. لقد غنيت الانتفاضة، كما غناها "الرشيد"، ووجدت فيها فرصة للتغيير النفساني في الشخصية اللبنانية. لكن هذا الجيل الواعد، لم يعلن أي لبنان سياسي ودستوري يريد، ولم يحسم موقفه من القضايا الخلافية. لا يبدو أن الجيل المنتفض موحد حيال حياد لبنان وإلغاء الطائفية والسلاح غير الشرعي ووجود اللاجئين الفلسطينيين والنازحين السوريين والتعديلات الدستورية، وغيرها. يطالب بالنزاهة والشفافية والإنماء وتغيير الطبقة السياسية. غير أن هذه المطالب تحتاج إلى دولة متحدة في قرارتها الوطنية، خصوصا أن القضايا الوطنية الخلافية هي مصدر المشاكل المالية والاقتصادية وانتشار الفساد.

إن الرهان على الانتفاضة ضروري لتغيير الحوكمة، لكنه غير كاف للبقاء في النظام المركزي القائم. ليس المطلوب تعديل النظام السياسي بنقل صلاحيات دستورية من طائفة إلى أخرى، بل بنقل صلاحيات من السلطة المركزية إلى السلطات المناطقية. وفي جميع الأحوال، إن مسيحيي لبنان لا يقبلون أي دستور يفرق بينهم وبين المسلمين أو يمس بالكيان اللبناني. فالوحدات الاتحادية ليست بالضرورة طائفية ومذهبية، إنما وحدات جغرافية/وطنية/حضارية. وسنبقى في الاتحاد موحدين.