ما كشفته بوينس ايرس

عوضت السعودية، عبر قمة مجموعة العشرين وما سبقها من زيارات لمحمّد بن سلمان شملت الامارات والبحرين ومصر وتونس، عن ذلك الخطأ المريع الذي ارتكب في إسطنبول.

كشفت قمة مجموعة العشرين (G20) التي انعقدت في بوينس ايرس ان وليّ العهد السعودي الأمير محمّد بن سلمان استطاع، الى حدّ ما طبعا، تجاوز ازمة مقتل المواطن السعودي جمال خاشقجي في مقر قنصلية المملكة في إسطنبول وذيولها.

بعد مضيّ شهرين على حصول الجريمة المدانة بكل المقاييس، وعلى الرغم من الهجمة الشرسة التي استهدفت محمّد بن سلمان بالذات، استطاع وليّ العهد السعودي القيام بجولة عربية في طريقه الى العاصمة الأرجنتينية. اهمّ ما في الامر ان زعماء العالم، وقبلهم زعماء عرب، تصرّفوا مع محمّد بن سلمان بشكل طبيعي. خيبوا آمال أولئك الذين أرادوا الاستثمار في الجريمة عبر التصويب المباشر على وليّ العهد السعودي من منطلق محدّد. هذا المنطلق هو الرغبة في تصفية حسابات مع رجل لم يكن كثيرون يعتقدون انّه سيصل يوما الى موقع وليّ العهد بتلك السهولة. هناك، بكل بساطة من لا يزال غير مصدّق لواقع يتمثل في انّ محمّد بن سلمان اصبح وليّا للعهد. هذا ما يفسّر الى حد كبير تلك الحملة التي استهدفته شخصيا بعد ذلك الخطأ الرهيب الذي وقع داخل القنصلية السعودية في إسطنبول. ان دلّ هذا الخطأ على شيء، فهو يدلّ على ان السعوديين، كنظام، ما زالوا هواة على صعيد ممارسة لعبة القتل التي استهدفت ابنا مدللا لجهازهم الاستخباراتي. تربّى جمال خاشقجي في كنف هذا الجهاز قبل ان ينتقل الى مكان آخر وتفتح له صفحات "واشنطن بوست" أبوابها، بقدرة قادر. كان على السعوديين الذين يتحملون مسؤولية الجريمة الفظيعة اخذ العلم، قبل ايّ شيء آخر، ان شخصا حذرا الى ابعد حدود مثل جمال خاشقجي ما كان ليدخل الى قنصلية إسطنبول لو لم يكن متأكّدا من ان في داخل القنصلية ما يكفي من الكاميرات والميكروفونات لالتقاط كلّ حركة له وتسجيل كلّ كلمة ينطق بها منذ لحظة تجاوزه عتبة مدخل القنصلية.

كان مفترضا بالذين وقفوا وراء الجريمة اخذ دروس لدى النظام السوري او لدى الايرانيين وذلك كي يثبتوا انّهم دخلوا مرحلة الاحتراف التي تسمح بممارسة هواية قتل الآلاف من دون ان برفّ جفن للمجتمع الدولي او لـ"واشنطن بوست" التي تتجاهل عدد المعارضين الذين جرت تصفيتهم في ايران وخارج ايران ونصف مليون سوري تخلّص منهم النظام والمشاركون في حربه على الشعب السوري منذ ما يزيد على سبع سنوات.

ليس ما يبرّر قتل جمال خاشقجي بايّ شكل من الاشكال وتحت أي ذريعة من الذرائع. لكنّ ليس ما يبرّر أيضا التغاضي عن جرائم وفظائع يرتكبها نظام مثل النظام السوري لم يتردّد لحظة في تهجير آلاف السوريين من ارضهم وقتل من لم يقبل من المواطنين السوريين بان يكون مجرّد عبد ذليل لديه. 

احتكّ محمد بن سلمان في بوينس ايرس بكبار زعماء العالم على نحو طبيعي. مازح بين الذين مازحهم ومازحوه فلاديمير بوتين ودونالد ترامب. كان دونالد ترامب  مهّد لتجاوز قضية جمال خاشقجي عبر البيان الذي أصدره في العشرين من تشرين الثاني – نوفمبر الماضي، وهو بيان بالغ الاهمية نظرا الى انّه يشكل نقطة تحوّل توضح الأسس التي تقوم عليها السياسة الاميركية في المنطقة الممتدة من المحيط الى الخليج وكلّ ما جاورها.

عوضت السعودية، عبر قمة مجموعة العشرين وما سبقها من زيارات لمحمّد بن سلمان شملت دولة الامارات العربية المتحدة ومملكة البحرين ومصر وتونس، عن ذلك الخطأ المريع الذي ارتكب في إسطنبول. المهمّ الآن الاستفادة من هذا الخطأ "الأسوأ من جريمة" على حد تعبير جوزيف فوشيه وزير الشرطة لدى نابوليون الذي كان يعلّق على اعدام معارض من أبناء الاسرة المالكة في فرنسا. جيء بالرجل الى فرنسا من المانيا من اجل استجوابه ومعرفة ما يدور بين المتآمرين على نابوليون وليس من اجل إعدامه. هذا هو الخطأ "الأسوأ من جريمة"...

بعد مضي شهرين على الجريمة التي ارتكبت في حقّ جمال خاشقجي يتبيّن امران. الاول ان محمّد بن سلمان يتمتع بدعم عربي كبير. لو لم يكن الامر كذلك لما كان استقبل بالطريقة التي استقبل بها في الامارات والبحرين ومصر. في الامارات، سار وليّ العهد السعودي بين الناس العاديين من مواطنين وأجانب في جزيرة ياس التي استضافت حلبتها للمرّة العاشرة في الخامس والعشرين من الشهر الماضي "جائزة أبو ظبي الكبرى" وهي المرحلة الأخيرة من بطولة العالم لسائقي السيّارات.

كانت تونس محطة مهمّة على الطريق الى بوينس ايرس. في تونس فشلت كلّ المحاولات الهادفة الى اظهار ان الاخوان المسلمين صاروا مسيطرين على البلد. ما زالت تونس تقاوم الاخوان ومن يقفون خلفهم. لا يزال في تونس، التي رحبّت بمحمّد بن سلمان، مكان للعقل المنفتح الساعي الى تفادي السقوط في المشروع الاخواني بكلّ ما ينطوي عليه من تخلّف ونشر للبؤس...

امّا الامر الثاني الذي تكشف بعد شهرين على الجريمة، فهو ان شعار "اميركا اوّلا" الذي رفعه دونالد ترامب يعني بين ما يعنيه ان تطوير العلاقة الاميركية – السعودية يصبّ في مصلحة الولايات المتحدة. هذا ما يفسّر الى حد كبير كلّ هذا الاهتمام بشخص محمّد بن سلمان، وهو اهتمام لم يقتصر على ترامب وبوتين، بل شمل الرئيس الصيني كزي جيبينغ أيضا. لمن لديه ادنى شكّ في اهمّية ما تعنيه الصين، يمكن احالته الى لغة الأرقام، أي الى ان اقتصادها بات يمثل نسبة نحو 15  في المئة من الاقتصاد العالمي في مقابل نسبة اقلّ بقليل من 25 في المئة للاقتصاد الاميركي.

لن تتوقف الحملة على محمّد بن سلمان. هناك متضررون من وصوله الى موقع وليّ العهد. كان جمال خاشقجي بين هؤلاء المتضررين الذين ارتبطوا بقوى اقليمية معيّنة كان رهانها على ان صعود نجم محمد بن سلمان سيتوقف في مرحلة معيّنة لاسباب مختلفة بعضها مرتبط برؤية لم تعد موجودة للوضع الداخلي السعودي. هذا ما يفسّر الى حد كبير كلّ هذا الاستثمار في الحملة غير الطبيعية علي وليّ العهد السعودي. الأكيد انّ مئات ملايين الدولارات وظفت في دعم من كان مفترضا بهم ان يكونوا مكان محمّد بن سلمان. لا شك أيضا ان مئات ملايين الدولارات وظفت في مجال العلاقات العامة في مختلف انحاء العالم لابقاء قضية جمال خاشقجي في الواجهة. لذلك لا يمكن الاستهانة بأعداء محمّد بن سلمان وجهودهم الدءوبة من اجل افشاله.

يبقى انّ قمة بوينس ايرس كانت نقطة تحوّل. تماما مثلما كان بيان دونالد ترامب قبل عشرة ايّام من القمّة. اعطى البيان الصادر عن البيت الأبيض الاولوية للخطر الايراني وكيفية مواجهته مع ما يعنيه ذلك من وضع لقضية جمال خاشقجي في اطارها الصحيح وحجمها الحقيقي لا اكثر ولا اقلّ.