ما مفاجأة ترامب المقبلة

الأكيد ان ليس بالانسحاب من سوريا يمكن مواجهة ايران وعزلها.

بعد القرار المفاجئ، وغير المفاجئ في الوقت ذاته، للرئيس دونالد ترامب بانهاء الوجود العسكري الاميركي في سوريا، كان يمكن الاعتقاد انّ وراء الاكمّة ما وراءها وان الإدارة الاميركية في صدد وضع استراتيجية سورية واضحة كلّ الوضوح. استراتيجية تندرج في سياق ما اعلنه ترامب عن مواجهة المشروع التوسّعي الايراني في المنطقة بما يتجاوز مسألة الملف النووي.  

لكنّ استقالة وزير الدفاع جيمس ماتيس جاءت لنسف هذا الاحتمال. اكدت هذه الاستقالة ان ادارة ترامب في حال ضياع يشبه الى حد كبير الضياع الفرنسي والبريطاني. في فرنسا، لم يعد الرئيس ايمانويل ماكرون يعرف كيف التعاطي مع الازمة التي خلقها نزول ذوي "السترات الصفر" الى الشارع، فيما رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي في حال تخبط في كلّ الاتجاهات بعدما أوقعت بريطانيا نفسها في فخّ استفتاء الخروج من الاتحاد الاوروبي (بريكست).

لماذا كان قرار الانسحاب الاميركي العسكري من سوريا مفاجئا وغير مفاجئ في الوقت ذاته؟ يعود ذلك الى ان الرئيس الاميركي ومسؤولين آخرين لمحوا الى مثل هذا الانسحاب قبل اشهر عدّة. لكن العسكريين، على رأسهم الجنرال ماتيس وزير الدفاع اصرّوا على الوجود العسكري الاميركي في سوريا لسببين على الاقلّ. الاوّل ان هذا الوجود قائم في منطقة حساسة هي شرق الفرات حيث الثروات السورية الحقيقية من مياه واراض زراعية ونفط وغاز. امّا السبب الآخر، فهو مرتبط بالقدرة الاميركية، انطلاقا من القواعد المنتشرة شرق الفرات، على مراقبة الخط الذي يستخدمه الايرانيون والذي يربط بين الأراضي العراقية والأراضي السورية. فوق ذلك كلّه، هناك ارتباط بين الجيش الاميركي الموجود في سوريا واكراد المنطقة الذين لعبوا دورا في مواجهة "داعش" وقدّموا تضحيات كثيرة. وهذا ما دفع  "القيادة العامة لقوات سوريا الديموقراطية" (قسد) الى التحذير من خطورة النتائج التي ستترتب على الانسحاب الاميركي والى تأكيد انّ "المعركة مع الإرهاب لم تنته بعد". صدر بيان عن "قسد" يشدّد على ان "داعش" ما زال يشكل خطرا. أراد الاكراد السوريون الردّ بذلك على ادعاء ترامب ان لا حاجة بعد الآن الى وجود عسكري في سوريا بعد القضاء نهائيا على "داعش".

السؤال الآن من سيملأ الفراغ الذي سيخلّفه الانسحاب العسكري الاميركي. الثابت ان هناك نوعا من التفاهم التركي – الاميركي سبق تغريدة ترامب في شأن الانسحاب. على الرغم من ذلك، جاء قرار الرئيس الاميركي مفاجئا وعكس خلافات داخل الإدارة أدت الى استقالة الجنرال ماتيس الذي يعرف سوريا والعراق جيّدا ويعرف ما الذي يعنيه انسحاب عسكري اميركي من شرق الفرات والنتائج التي ستلي ذلك.

مرّة أخرى يدفع الاكراد ثمن تحالفاتهم. مرّة أخرى تثبت الإدارة الاميركية انّها مستعدة للتخلي عن الاكراد، أينما وجدوا، لأسباب مرتبطة بمصالح معيّنة مع هذه القوّة الإقليمية او تلك. هذا ما حصل في أيلول – سبتمبر 2017 بعد الاستفتاء الذي اجري في كردستان العراق.

هل تملأ تركيا الفراغ العسكري الاميركي في سوريا؟ من الملفت انّ القرار الذي اتخذه ترامب ترافق مع كلام تركي عن عملية عسكرية في الداخل السوري تستهدف المنطقة الكردية التي تحت سيطرة "قسد" والأميركيين. ما الذي تغيّر فجأة وجعل الاكراد يتحوّلون مرّة أخرى ضحية لمصالح قوى اكبر منهم؟ هل كان كافيا التوصل الى صفقة صواريخ "باتريوت" بين تركيا والولايات المتحدة كي يصبح دونالد ترامب شخصا آخر؟

كان وزير الدفاع الاميركي في غاية الصراحة عندما قال في بيان استقالته الموجه الى الرئيس الاميركي انّه لم يعد يستطيع التفاهم معه في شأن السياسات الواجب اتباعها. لذلك، طلب من ترامب البحث عن وزير آخر للدفاع. كانت الشكوى الأساسية التي وردت في استقالة ماتيس من انّه لم يعد في استطاعة حلفاء الولايات المتحدة الاتكال عليها. قال ماتيس عن هذا الموضوع: "كان لدي في كلّ وقت ايمان بان قوتنا كأمّة مرتبطة بشكل غير قابل للفصل بقوة تحالفاتنا وشراكاتنا ذات الطابع الشامل" مع قوى أخرى. هذه القوى هي الحلفاء العرب في المنطقة وحلف الأطلسي والغرب عموما. لم ينس وزير الدفاع المستقيل التركيز على الصين وروسيا ومحاولتهما فرض نظام عالمي يتفق مع طموحات هاتين القوتين.

هناك عالم جديد يريد ترامب خلقه. انّه عالم لا علاقة له باميركا ما بعد الحرب العالمية الثانية، عالم جديد تبلورت ملامحه مع وجود رؤساء يعانون من ضعف في البيت الأبيض. رؤساء من نوع جيمي كارتر او باراك أوباما. المفارقة ان ترامب لم يتوقف يوما عن مهاجمة سلفه وسياساته مع تركيز خاص على سوريا حيث ضحّى أوباما بالشعب السوري وثورته الحقيقية على العبودية والظلم كي لا يغضب ايران. فعل ذلك متجاهلا في الوقت ذاته كلّ الخطوط الحمر التي رسمها لبشّار الأسد، بما في ذلك استخدام السلاح الكيميائي في حربه على الشعب السوري صيف العام 2013. كان كلّ ما أراده أوباما وقتذاك  يتمثل في بقاء ايران في المفاوضات الدائرة مع مجموعة الخمسة زائدا واحدا في شأن ملفّها النووي. كان هذا الملفّ يختزل، بالنسبة الى الرئيس الاميركي السابق، كل أزمات الشرق الاوسط دفعة واحدة.

تبقى نقطتان مهمتان. الاولى، من الى جانب تركيا سيملأ الفراغ الذي سيخلفه الانسحاب الاميركي من سوريا؟ ماذا ستفعل ايران، ماذا ستفعل روسيا، ماذا ستفعل إسرائيل؟ الأهم من ذلك كلّه، هل يعود "داعش" الى الواجهة، خصوصا ان هناك مؤشرات الى ان القضاء على هذا التنظيم الإرهابي لم يحصل بشكل نهائي وانّه ما زال حيّا يرزق في غير منطقة في سوريا والعراق. ليس بعيدا اليوم الذي سيطل "داعش" برأسه مجددا.

امّا النقطة الثانية المهمّة، فهي مرتبطة بمصير سياسة ادارة ترامب الهادفة الى محاصرة ايران. اذا كان من انجاز حققته هذه الادارة فهو وصفها للنظام الايراني وتصرّفاته بطريقة دقيقة وذلك منذ قيام "الجمهورية الإسلامية" التي أسسها آية الله الخميني في العام 1979.

الأكيد ان ليس بالانسحاب من سوريا، يمكن مواجهة ايران وعزلها. هذا ليس ممكنا من دون مقاربة شاملة تشمل كل البلدان والمناطق التي تتدخل فيها ايران مباشرة او عبر ادواتها من ميليشيات مذهبية وضعت نفسها في خدمة مشروع توسّعي في أساسه اثارة الغرائز المذهبية.

اكثر ما فاجأ في قرار ترامب الانسحاب من سوريا هو توقيته. يبدو الرئيس الاميركي مصرّا على نهج يقوم على فكرة اميركا اوّلا والتخلي عن الحلفاء بما في ذلك أعضاء حلف شمال الاطلسي. لم يتوقف الرئيس الاميركي عن مفاجأة الاميركيين والعالم. ما الذي ستكون عليه مفاجأته المقبلة بعدما تجاهل نصيحة العسكريين المحترفين وقرّر الانسحاب من سوريا ومن شرق الفرات تحديدا بكل ما يمثّله، خصوصا على الصعيد الاستراتيجي.