متى كان أسلوب الإدارة بالجزمة ناجحاً؟

لم تتخلَ الدول عن الإذلال كوسيلة لممارسة السياسة والحكم إلا لأنها طريقة فاشلة.

مليئة هي حياة الأمم بالتجارب الفاشلة، وكما أخبرنا التاريخ فإن الفشل لا يمكن أن يستمر مع أي أمة إلى ما لا نهاية إلا إذا كانت أمة معدومة العقل، منتهكة الفكر، مسلوبة الإرادة، محرومة الإدراك، وذلك لا ينطبق إلا على السفهاء، الممنوعين بحكم القانون من التصرف في شؤونهم الخاصة، فما بالنا بالشؤون العامة.

وكما تعلمنا منذ نعومة أظفارنا، فإن مصادفة الفشل في الحياة ليس بالشيء المستغرب، بل إنه متوقع طالما كان الإنسان حراً في الفكر والحركة والعمل، إنما الأمر الغريب ألا يتعلم المرء من أخطائه التي أدت به إلى تلك النتيجة وهي الفشل، وهذا التعلم لا يمكن أن يتأتى إلا إذا كانت العقول ناضجة وصحيحة، والإرادة حرة، والأفكار متناغمة مع تطورات الزمن، عندئذٍ يأتي دور إدراك وجود الفشل وحدوده وأسبابه وأسلوب التعامل معه حتى لا يتكرر مرة أخرى، وإلا نكون كمن يستمرئون الفشل، بل وربما يتعمدونه لغاية في النفس.

والواقع، أننا نعيش عصراً ليس عنيداً على الفهم، فهو واضح كما الشمس في وسط السماء بعز الظهر، فمن يديرون هذا العصر يتخذون من الجزمة أداة وحيدة للإدارة، تلك هي الحقيقة المؤسفة، فمن أصغر مسؤول إلى أكبر رأس في الدولة والجميع ليس في فمهم إلا كلمة واحدة وهي: "بالجزمة". وتللك الكلمة متداولة ومشهورة جداً في بلادنا، ولا أدري ما علاقة الجزمة بالإدارة؟

الدلالة الوحيدة لاستخدام الجزمة كوسيلة لتسيير الأعمال أنها مصطلح أهل الحكم بإجازة العنف من حيث المبدأ ممزوجاً بالإذلال من حيث الأداة، فالمعروف أن الجزمة تُسبب أقصى درجات التحقير لمن يتم تهديده أو ضربه بها، وبالطبع هذا النوع من العنف المذل المقصود منه تحقيق الخوف والرعب، والانكسار وفقدان الكرامة، فأصحاب مدرسة الجزمة لا يؤمنون إلا بالعنف والقسوة والقوة، حتى أنهم يصرحون في مجالسهم الخاصة والعامة بأن هذا الشعب لا يمشي إلا بضرب الجزمة، وفي قول مرادف "بالضرب على قفاه"، كما ينقلون نفس الإجابة بلا أدنى خجل لمن يتعاطف مع الناس من العالم الغربي ويطالب بمراعاة حقوق الإنسان.

الغريب في الأمر، أن تلك الطريقة في الإدارة، انتقلت من الأعلى نزولاً إلى جميع مستويات الإدارة في الوطن، إلى أن وصلت إلى الواد بلية صبي الاسطى جمعة الميكانيكي، الذي يكيل لبلية الضربات بجميع أنواع المعدات والمفكات، كما انتقلت إلى وسائل الإعلام المرئية بحيث أصبحت الجزمة هي كلمتهم المفضلة حين يهددون أفراد الشعب الذين يصرخون من سوء أحوالهم وعجزهم عن مجاراة حركة الأسعار الصاعدة، إلا أن الإعلام أبدع فزاد على الجزمة عبارة "اللي مش عاجبه يغور في ستين داهية خارج البلد"، وكأن الوطن أصبح ملكية خاصة لمن يتحكم ومن يتحدث بلسانه.

والأسئلة التي تفرض نفسها هنا هي: لماذا أختار قادة هذا الوطن منذ أكثر من ستين عاماً وحتى الآن الجزمة كرمزٍ لإدارة كل مرحلة؟ ولما الجزمة هي الوسيلة الوحيدة للتفاهم مع الشعب دون وسيلة أخرى؟ وهل حققت الجزمة للوطن التقدم والازدهار؟ وهل استطاعت الجزمة منع السرقة والنصب والقتل والاغتصاب والتحرش والفساد والإرهاب؟

إذا كانت الإجابة بنعم على أيٍ من هذه الأسئلة، فلنقل الحمد لله، على هذا النجاح الباهر، ولنستمر بنفس الأسلوب. أما إذا لم يحقق أسلوب الإدارة بالجزمة أي نجاح على كافة المستويات، فلا أقل من أن نبحث عن وسيلة أخرى للإدارة وكذلك أداة مختلفة للتعامل مع الشعب، وأعتقد جازماً أن إشاعة الخوف وانكسار النفس وإهدار الكرامة، ليس هو الأسلوب الأمثل للتعامل مع الناس، خصوصاً وأن الأطفال قد ضاقوا ذرعاً بتحكم آبائهم فيهم، ولم يعد يؤثر في تصرفاتهم الضرب أو الحرمان من المصروف.

أيها المتمسكون بالجزمة كوسيلة وحيدة للإدارة، والله إنها فاشلة، لم ولن تؤدي إلى أي نجاح، أقصى ما حققته هو الخوف العلني، ولكن ما في القلب في القلب من حقد جمعي، فاحذروا ما يعتمل في قلوب ملايين الناس الذين ضاقوا ذرعاً كأطفالهم بالتحكم في حياتهم إلى الحد الذي أصبحوا لا يملكون لأنفسهم ولأسرهم نفعاً ولا ضراً، فباتوا يعتبرون أنفسهم أسرى في وطنهم، وهذا الشعور بالأسر والعجز لا يُمكن أن يُحتمل لفترات طويلة، فالأسير ليس لديه أدنى أمل لا في حاضره ولا في مستقبله، وكما قال المسؤولين عن التعليم، ليس لديه شيئاً يبكي عليه، فالأسير يحاول الهرب من الأسر رغم علمه بأنه قد تم قتله أثناء ذلك.

نصيحة مخلصة لكلٍ في موقعه، دعكم من الجزمة فهي لم تُحقق أي نجاح في السابق، ولا يرى أي عاقل أن التمسك بها سيُحقق نتيجة مختلفة، لماذا لا تجربون طريقة أخرى مع هذا الشعب الذي حتى هذه اللحظة، لم يجد من يحنو عليه؟

وللعالم الكبير ألبرت آينشتاين أقوال مأثورة ربما تُساعد:

  • الجنون هو أن تفعل ذات الشيء مرة بعد أخرى وتتوقع نتيجة مختلفة.
  • المشاكل الموجودة في عالم اليوم، لا يمكن أن تحلها عقول خلقتها.

عموماً، إذا كان أسلوب الإدارة بالجزمة ضرورياً في مرحلة من التاريخ الغابر، فقد ثبت فشله على أي حال، فتخلت الدنيا عنه منذ زمن بعيد، وليس عيباً أن نلحق بهؤلاء الذين سمحوا للعقول الحرة والأبدان المصانة أن تتولى الإدارة بأساليب جديدة وكريمة بدلاً من الجزمة، فكان النجاح والتقدم حليفها، والعقبى لكم ولنا.