"مجاريح" ينتصر لإرادة الحب

العرض الإماراتي جاء مترعا بالجمال على الرغم من قسوة الموضوع الذي تناوله وهو موضوع العبودية.
النص الذي ألفه المسرحي إسماعيل عبدالله، سبق أن اشتغل عليه أكثر من مخرج
العامري دمج تقنية الجرافيك بالمفردات والإكسسوارات المحلية والتراثية، والاعتماد على الآلات الموسيقية الحديثة

يستحق عرض "مجاريح" الذي قدمته فرقة مسرح الشارقة الوطني في رابع عروض مهرجان المسرح الخليجي في دورته الثالثة، الإشادة كونه جاء مترعا بالجمال على الرغم من قسوة الموضوع الذي تناوله، أقصد موضوع العبودية، عبودية الذات وعبودية التقاليد والعادات وما يشبك معها من طبقية وعنصرية مقيتة، حيث تمكن المخرج محمد العامري من التماس مع الواقع من خلال توظيف الموروث الشعبي وتحميله بالدلالات والإيحاءات، ليكسب العرض بعدا إنسانيا يتجاوز المحلية وإن انطلق منها.
نص العرض الذي ألفه المسرحي إسماعيل عبدالله، وسبق أن اشتغل عليه أكثر من مخرج، عالجه محمد العامري برؤية ذكية لم تستهدف انتقاد الرواسب المتبقية من إرث التقاليد والعادات التي تخنق الإرادة وتعوق حركة الحب، بل ذهب أبعد من ذلك في رسالته الإنسانية، فالعبودية ليس مجرد عبودية شخص لآخر أو رجل لامرأة أو قبيلة لأخرى، بل إنها يمكن أن تمتد إلى عبودية دولة كبرى لأخرى صغيرة أو فقيرة. وقد صاغ ذلك في علاقة الحب في زمنين مختلفين وإن اتفقا وانعكسا في الوجهة.
دمج العامري تقنية الجرافيك بالمفردات والإكسسوارات المحلية والتراثية، والاعتماد على الآلات الموسيقية الحديثة، مع الآلات والفنون الموسيقية الشعبية "الهبّان"، وانتقل بسلاسة بين أزمنة متعددة، وربط بين مفتتح العرض وختامه، ففي البداية نرى البنت "عذية" نائمة بين منطقتين من الجذور النابتة، يفزعها قرع الطبول، وما أن تستيقظ وتقف نرى تدلي الحبال على جانبي المسرح، وندخل على القضية التي تفزعها وهي أن والدها فيروز قرر أن يزوجها من ابن صديقه خيري، وأنها ترفض ذلك انطلاقا من حقها في الحب والاختيار، وتواجهه وأمها بحكايتهما في الماضي وكيف أن إرادة الحب جمعتهما، لننتقل إلى زمن آخر، كان الأب فيروز فيه عبدا يحب الأم ميثاء ابنة النواخذة غانم بن سيف، هذا الأخير الذي يسم فيروز بالعبودية ويهاجمه هجوما عنصريا شرسا، إذ كيف للعبد أن يطلب ابنة سيده حتى وإن أنقذ شرفها وردها إلى عائلتها ذات يوم. 
يخرج فيروز طالبا صك حريته والذي كان فيما يبدو الدفاع عن البلاد ضد الاحتلال الإنجليزي إذ يظهر الجنود في خلفية المسرح بينما ما يشبه الدبابة في مقدمته. يتحرر فيروز ويعود ليجد ميثاء على وشك الزواج من آخر فتساعده وتخرج على إرادة عائلتها، وينجبان عذية التي تكبر ويقرر فيروز تزويجها بالإكراه لابن صديق، لكنها ترفض وهكذا نعود للزمن الحاضر الذي بدأ منه العرض، ووسط الجدل الدائر بين فيروز وميثاء حول زواج عذبة نلتقط أن العبودية هي إرادة داخلية منطلقة من الذات. فيوم ارتضت ميثاء الزواج من فيروز كانت ابن عائلة لها السيادة ماديا وقبائليا، وكان فيروز عبدا أسود وفقيرا وإن تحرر، والآن الابنة عذبة ابن فقير متواضع وأبيها يريد أن يزوجها بالإكراه من ابن صديقه الثري. 

تفر عذبة لتقطع كل الحبال والقيود المتساقطة على جانبي المسرح وفي الخلفية، هذه الحبال التي حمّلها المخرج أكثر من دلالة في العرض، أبرزها دلالة القيود، ودلالة هشاشة الزواج حين تدلت على خشبة المسرح حاملة "الذهبة" أو جهاز العروس الإماراتية ليلة زواج ميثاء من ناصر بن ناصر الذي لم يتم.
العرض جاء باللهجة الإماراتية الأمر الذي أتاح لمفردات هذه اللهجة أن تحمل دلالات بيئتها، وقد تناغم ذلك مع عناصر الموروث الشعبي الإماراتي من اكسسورات وملابس وأغاني وآلات موسيقية وإيقاعات، ليجلي كل ذلك العناصر الفنية والجمالية والإنسانية في هذا الموروث ويقدمه فعلا للتغيير ومكافحة الظواهر السلبية سواء كانت محلية أو عالمية.
إن قدرة العامر على أن يخلق من كل عناصر العرض من موسيقى ومؤثرات صوتية وماكياج وإضاءة وأزياء وغيره أبطالا مشاركين في الصراع من أجل انتصار إرادة الحب، ودافعين لأداء تمثيلي متميز على خشبة المسرح وداعمين لرؤية قضية العرض في صراعاتها، كل ذلك شكل انسيابية مفعمة بروح التكامل، على الرغم من عملية التركيب والتجزئة والانتقالات الزمنية.
فريق التمثيل أدى كل دوره في فضاء الخشبة بحيوية وحس خلي من الافتعال، لذا لا بد من تحية هذا الفريق؛ موسى البقشي "فيروز"، بدور "ميثاء"، حبيب غلوم "النواخذة غانم بن سيف"، ناجي جمعة "مال الله"، وسارة "عذبة"، والجوقة التي أتقنت استخدام الآلات الموسيقية والغناء.