محطة إخبارية تكسر غطرسة النخب

الفضاء العربي متخم بقنوات تمتلك مخصصات تفوق ميزانية دول، لكنها لا تستطيع الخروج من التكرار والدوران في حقل فارغ من الأفكار.
لماذا اتجه مصدر المال العربي إلى تعريب منتج إعلامي غربي واتخاذه مصدرا جاهزا لقنوات جديدة، من دون أن تستطيع تلك القنوات مغادرة فكرة الخضوع لحكوماتها

ثمة جدل صحافي صحي مستمر في بريطانيا منذ انطلاق محطة “جي.بي.نيوز” التلفزيونية البريطانية في الثالث عشر من الشهر الجاري. أهمية الجدل لا تكمن فقط في تقاطع الآراء بشأن تأثير المحطة الجديدة على مفهوم صناعة الأخبار، بل يحرضنا في العالم العربي على إطلاق المزيد من الأسئلة على إدارة محطات فضائية تمتلك مخصصات تفوق ميزانية دول، لكنها لا تستطيع الخروج من التكرار والدوران في حقل فارغ من الأفكار!

لم يرافق أي محطة إخبارية عربية أطلقت في السنوات الأخيرة، جدل مفيد بقدر ما أثارته “جي.بي.نيوز” خلال أيام من انطلاقها. هذا يفسر لنا لماذا اتجه مصدر المال العربي إلى تعريب منتج إعلامي غربي واتخاذه مصدرا جاهزا لقنوات جديدة، من دون أن تستطيع تلك القنوات مغادرة فكرة الخضوع لحكوماتها! فبقي الخبر يحمل نفس مواصفات خبر المحطة الحكومية التي عادة لا يسمح لها بإعادة صناعة الأخبار.

اليوم يرفض أندرو نيل مدير محطة “جي.بي.نيوز” دق المسمار الأخير في نعش الأخبار بعد أن كثر صناعها وقل مستهلكوها، ويحرض فريقه التلفزيوني على إعادة ابتكار تلك الصناعة.

نيل صحافي تجري الأخبار في دمه منذ أن ترأس تحرير صحيفة “صانداي تايمز” وبعدها محاورا شجاعا وجدليّا لعدة سنوات في أشهر البرامج السياسية في هيئة الإذاعة البريطانية “بي.بي.سي”.

ومن الأهمية بمكان أن يكون المتابع العربي مطلعا على ما أثارته هذه المحطة بين النخب السياسية والثقافية والشعبية البريطانية منذ أيام، على الأقل لمعرفة كيف تنفق الحكومات العربية المال التلفزيوني في صناعة خطاب لم يعد مقنعا وعاجزا عن اختراق العقول.

حظيت المحطة الجديدة وفقا لمجلة صناعة التلفزيون البريطانية “برود كاست” على 336 ألف مشاهد في الدقائق الأولى من افتتاحها، وبلغ متوسط عدد المشاهدين لها يوميا 262 ألفا خلال الأيام الماضية متفوقة على “بي.بي.نيوز” و”سكاي نيوز البريطانية”.

الاختلاف بشأن طبيعة القناة خصوصا ما يتعلق بمفهوم صناعة الأخبار، لا يجعل منها مزحة خصوصا في ما يتعلق بالاتهامات الموجهة لطبيعة خطابها اليميني كما تفترض الصحافة اليسارية في بريطانيا.

فقد سخرت من محتواها صحيفة التلغراف ووصفته بـ”فظيع بشكل لا يوصف” وأنها قناة مملة ورخيصة. وانتقد آخرون مزاعمها إدارتها بأنها غير منحازة باعتبارها مجرد انحياز في اتجاه آخر.

لكن وفق صحيفة الغارديان إن اليمين البريطاني صار له بيت تلفزيوني ليس بمقدور اليسار التظاهر بعدم وجوده عند المرور من أمامه.

وهكذا المتابعة الأولية لهذه المحطة، تبدو كم هي مألوفة بالنسبة إلى المشاهد وليس كم هي ابنة بلادها وفق تسميتها “جي.بي اختصار لكلمتي بريطانيا العظمى”.

إحدى الصحافيات البريطانيات اختصرت انطباعها الأولي بعد أيام من المشاهدة، بأنها ليس كما يدعي نيل بتقديم نهج جديد للأخبار، بل إن “جي.بي.نيوز” عبارة عن مزيج من إثارة الصحافة الشعبية المطبوعة وسوء مزاج المتحدثين للإذاعات الإخبارية على الهاتف.

مع ذلك إن مزاج المشاهد اليوم بحاجة إلى مغادرة المكرر في المحطات الإخبارية، فبعض الغضب والإحباط والود في المادة التلفزيونية لا يمكن التنبؤ بنتائجه، لكنه يعيد صناعة مادة إخبارية ومقدم تلفزيوني قادر على إكمال الجملة التي يبدأ بها!

هناك طاقة سياسية ضخمة في المشهد البريطاني برمته، لكنها تواجه بلا مبالاة، وواحدة من مهام “جي.بي.نيوز” إعادة استثمار الطاقة السياسية، خصوصا الاستياء الناجم عن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي والمواقف المرتبطة به، الهجرة، المساواة العرقية، إلغاء ثقافة الآخر، الإغلاق جراء كورونا وصدمة الوباء… كلها تمثل مصدرا إخباريا لا ينضب لصناعة تلفزيونية أكثر جرأة من التناول المعهود.

انتقد نيل في برنامجه على القناة رجال الشرطة في بريطانيا معتبرا إياهم بأشبه بـ”الأخصائيين الاجتماعيين بالزي الرسمي، وأوصياء الصواب السياسي، والقضاة على أفكارنا” بيد أنهم وفق تعبيره “يقضون وقتا أطول في مراقبة ما ننشره على تويتر” بدلا من أن يجوبوا الشوارع.

هذا الرأي من صحافي يستند على تاريخ من التحاور مع كبار السياسيين، سيجد من يتفق معه بطريقة ما، كما يفتح الجدل بشأن نظرة المواطن البريطاني لرجال الشرطة. وهو ما أعلنه نيل صراحة في افتتاح القناة بأنها لن تنصاع بخشوع للجدول الإخباري المعتاد في نشرات على مدار الساعة، بل إن خطاب القناة مبني على “مقدمين متحمسين يتمتعون بالشخصية والذوق والمواقف والرأي”.

وأعلن أن هدف القناة واضح، ويتمثل بـ”كسر” غطرسة النخب، وفضح “ترويجهم المتزايد لثقافة الإلغاء من أجل تهديد حرية التعبير والديمقراطية”.

الأمر الذي دفع إلى ارتفاع الأصوات المعبرة عن خشيتها بأن يكون الخطاب الإعلامي الذي تمثله القناة الجديدة تهديدا صريحا للديمقراطية البريطانية.

إلا أن دينيس مولر الباحث في مركز الصحافة المتقدمة بجامعة ملبورن، لا يتردد في التنبؤ بنجاح مفهوم معالجة الأخبار في “جي.بي.نيوز”، معبرا عن اعتقاده بأن الحاجة كبيرة لهذا النوع من الأخبار في بريطانيا.

ذلك ما يعنيه بالنسبة إلينا كجمهور عربي، فرصة مقارنة موضوعية مع قنوات إخبارية بميزانيات حكومية ضخمة دون أن تجيب على الأسئلة الحقيقية المتداولة في الشارع العربي.

الخروج عن التيار السائد في الصناعة الإعلامية صار ضرورة، وعندما استعين بالقناة البريطانية الجديدة بوصفها مثالا مازال يثير الجدل الصحي بغض النظر عن الاتفاق أو الخوف من طبيعة خطابها، فهو ما يحتاجه الإعلام العربي الخاضع لسطوة رأس المال الحكومي.

فحتى الأصوات اليسارية التي ترى في “جي.بي.نيوز” مشروعا إعلاميا رديئا يثير الازدراء والنقمة، لا تطالب بشطب القناة، فالوقت كفيل بتقييم جودتها. والاستنتاج القائل بأن هذه شبكة إخبارية مزيفة يجب تجاهلها، يتجاهل طريقة تحقيق الجذب من خلال الاحتكاك بالجدل ورد الفعل والانتشار، مع المحافظة على قيمة الحوار بعد أن تآكلت الثقافة السياسية تحت وطأة الكلام السام على مواقع التواصل وفضائيات الخطاب المتطرف.

لست مدفوعا في هذا المقال بالاستقطاب الذي تمثله “جي.بي.نيوز” بالنسبة إلى الجمهور البريطاني تحديدا، لكنني أقدمها مثالا مفيدا للمتابع العربي، وهو يتأمل الأموال الهائلة التي تهدر في قنوات إخبارية لا تستطيع التحرك بمنأى عن فكرة الانصياع لحراسها السياسيين الأمناء على رأس المال الحكومي.