محمد العايب .. مسيرة بطعم الرغبات والدروب الوعرة

التشكيلي والفوتوغرافي التونسي واكب جلسات "مدرسة تونس" وشارك في معارض دولية بمدن أوروبية  ونال جوائز مهمة.
الصورة تتطلب أن نعاملها بإحساس وليس بالنظر فحسب 
العايب يحلم بتأسيس إقامة للمبدعين في دار الوالد بقصور الساف

أنت أيتها الكلمات الضاجة بالصور وبالمعاني، كيف للكائن أن ينحت هبوبه بغير حالاتك العاتية. ثمة هيام وبهاء ونشيد وطفولات أولى تبتكر حكاياتها في شغف. والشغف هنا هو من صميم العين وهي تلهو على واحة النظر وبستان المشهدية.
صاحبنا وفي هكذا سيرة منذ طفولة أولى سافر في عوالم النظر ومشتقاته بحيز من العشق الدفين. عشق الصورة بما هي كونه وسلواه وحلمه وأغنياته العالية. الصورة لديه مجال بهاء وإحساس وحوار وثقافة شاسعة بالتجربة والأسئلة. كان له ذلك في سيرة تجاوز عمرها خمسة عقود. انطلق بالحلم والشغف في سنوات قلت فيها الامكانيات وصعبت سبلها، ولكنه مضى في هذه الدروب الوعرة ناظرا باتجاه النجمة. وصار بعد وصوله الباذخ نجما مؤتلقا.
محمد العايب بعد هذه العقود من المعترك الفني الفوتوغرافي الذي كان على إيقاع تحولات تونسية ودولية منها بالخصوص أحداث سنة 1968 التي شهدتها باريس، يعمل كعادته في صمته البليغ وبعزلته الخاصة، يقتنص ما خفي عن العادي والمألوف واليومي من الأحوال في اتجاه تشكيلي حيث الصورة فسحة فوتوغرافية في الفضاء التشكيلي شأنها جمالي وجداني إنساني وحضاري عميق.
هو فنان تشكيلي تونسي يدير من سنوات رواق عين بصلامبو جعل منه ملاذا فنيا للمفتونين بالفوتوغرافيا وممكناتها الفنية التشكيلية في ضرب من الانتصار لمسارات الفن الفوتوغرافي كحالة تشكيلية تقنية وإبداعا وحفرا عميقا في أرض الفنون. شارك في معارض وطنية ودولية وحاز وسام الاستحقاق الثقافي والجائزة الوطنية للآداب والفنون وهو عضو مؤسس لاتحاد الفنانين التشكيليين التونسيين واتحاد الفنانين الفوتوغرافيين التونسيين، كما شارك في معرض الصورة المتوسطية بأثينا، وفي معارض بروما ومرسيليا في مئوية الفنان العالمي سيزان، ضمن ورشات ومعارض وفي أنشطة ومعارض بإشراف اليونسكو وفي بينالي الإسكندرية بمصر، وفي بلجيكا من خلال معرض وورشة.. وغيرها من المشاركات، وهو من المشاركين باستمرار في معارض اتحاد الفنانين التشكيليين السنوية بقصر خير الدين وبفضاءات أخرى. 

fine arts
تجاوز الصورة إلى ما هو تشكيلي

هو فنان بطعم الرغبات في دنيا الفنون وبلون الحلم. يحلم بحي فني لفناني الصورة في دار الوالد بسلقطة مسقط رأسه ومشهدية طفولته الأولى.
في هذا البورتريه فتحنا العايب على سردية الفن والتجربة والحياة. هي سرديته التي خطها بإصرار وعناد وشجاعة، ولا يزال.
يقول  مثلا "... من ربوع المهدية بسلقطة وقد امتلأت بظلالها وأجوائها وبحكم عمل الوالد كنت انطلاقتنا إلى العاصمة وتحديدا جهة الكرم. ومنذ الطفولة بدأت العلاقة بالرسم في محاولات ثم جاءت الفكرة في الشباب عند سنوات 1968 مع حضور الصورة في العالم خاصة خلال أحداث ثورة 1968 فقد كانت للصورة مكانة لدي ورغبت في تعلم فنون الفوتوغرافيا حيث لم تكن لدينا مؤسسات لتعلم هذا الفن.
انطلقت بصفة شخصية عبر مخبر "فوتوماتن" حيث الأخوة "كوسكاس" وهم من اليهود التونسيين وقد بعثوا دار فوتوماتن بتونس وفهموا غاية مشروعي في الفن التشكيلي، ففرحوا بي وظللت معهم حوالي عامين وكانت هناك مجموعة طيبة بين يهود وإيطاليين وبعض التونسين (و هم 5 أفراد) وقد تمكنت آنذاك من أبجديات التصوير الفوتوغرافي وتقنياته. 
بعد ذلك تعاملت مع الفوتوغرافيا كمحترف ومع معهد الآثار والفنون بدار حسين وكان هناك تربص عمل لثلاث سنوات في مادة الآثار، وكانت العلاقة بين الرسم  والصورة في مخاض وصراع وضمن تحرك ميدان الفنون التشكيلية وخاصة في تلك السنوات دخلت الفنون التشكيلية عبر الفوتوغرافيا، وكان هناك فنان مع جماعة الدادائية وهو مالري الذي أدخل في الستينيات عملية النحت في تجربته الفوتوغرافية. ومارسال دوشون وحكاية البصرية والاجتهاد مهما كان الشكل والمادة. 
ومالري آنذاك أدخل أشياء أخرى على المادة من جملة اكتشافاته حركة سماها   وsolarisation "التشميس" يعني ما يرى الضوء وفق بحث وجمالية وهذا ما شدني وأعطاني دفعا، وبدأت من هناك العملية الفنية عندي بعد أن تعلمت الجانب التقني في المخبر. وفي ذلك أضاف بخصوص القرب من المادة الفوتوغرافية لتشكيل عملية "التشميس" وهي حادثة وقعت له في المخبر أثناء عملية تحميض الصورة حيث وقع خلال عمليتي "ريفيلاسيون وفيكساسيون" في الغرفة المظلمة فتح الباب لسبب ودخل بصيص ضوء فمسح الصورة وعندما رجع تفطن للخطأ، ولكنه وبصفة الجانب الإبداعي لديه لم يلق بالصورة في المهملات بل أن  ذلك كان عنده بمثابة الحظ الجميل وهو أن بصيص الضوء وما أحدثه على الصورة مثل إضافة وحركة بالضوء وضبطت المشهد في الصورة عن غير قصد وكانت الصورة جمالا آخر، وشكلت بحثا في الضوء وكيميائيته في الصورة. 
تلك العملية صارت مدروسة ومتحكم فيها وكانت تجربة تشكيلية أفضت إلى الواقعية في الصورة من خلال إضفاء جانب تشكيلي عليها. وأدخل أيضا في الصورة (ظهر المرآة عليه صورة فتحة الكمنجة) شكلا آخر وصارت هنا سوريالية عبر هذا الكولاج في الصورة. ومالري هذا شدني وأخذني أبعد من ذلك وحلمت أنني أستطيع أن أبدع في المخبر.
هذه البدايات وأشجانها في وقت لم تكن لدينا كتب ومجلات مختصة غير مجلة "فوتو" و"الأستوديو".
في حراك 1968 كانت مدرسة تونس وقد واكبتها وتأثرت بها وكنت واقعيا عبر المشاهد من خلال الحياة اليومية والتراث وغيرها. وعن طريق المطالعة والأخبار والمجلات والكتب والمواكبات في المراكز الثقافية الألمانية والأميركية اكتشفت الفنانايدي وارول الفوتوغرافي التشكيلي والرسام الأميركي، وقد أبدع عن طريق الصورة في السيريغرافيا، وهي "طبع الصور على القمصان" في تلك الفترة وانتشار "الهيبي" و"السروال الشارلي" والانفتاح على العالم. وايدي وارول هذا أدخل تعاملا جديدا بأسلوبه انطلاقا من مادة الفوتوغرافيا إلى مرحلة إبداعية بتفاعل شدني حيث كانت علاقته بالحياة اليومية والناس وتأثرت به وتكونت تجربتي في غياب مؤسسات وهي اكتشافات شخصية في التكوين. الجانب التشكيلي هذا كان بشكل خاص إضافة إلى تجربتي بمعهد الآثار حيث شاركت في ترميمات ترسم الجانب التزويقي التشكيلي، ووثقت ذلك بمعالم كجامع الزيتونة ومحراب جامع عقبة وعملت مع أصحاب تجارب ومختصين في هذه المجالات، وهي من بين الأشياء المهمة ضمن تجربتي في معهد التراث، وهذا ما شدني في الآثار والتراث والجانب التاريخي. 

فن تشكيلي
صرت أبحث عن انطلاقة تشكيلية

وخرجت للاكتشاف والاطلاع وذلك إلى كل من سويسرا وفرنسا وبلجيكا وخاصة في  متاحف باريس، وتعرفت على تاريخ الفن عن قرب وخاصة في اللوفر وكنت في نفس الوقت أنمي تجربتي في فن الصورة.
عدت سنة 1975 وانطلقت في مرحلتي التونسية عبر الروبورتاجات التوثيقية في عالم الحياة الثقافية والفنية وحرصت على هذا الجانب التوثيقي وخاصة للفنانين مثل زبير التركي وقد عشت معهم واشتغلت عليهم في روبورتاجات الحياة الثقافية وذلك ضمن عملي كفوتوغرافي وعايشت الحياة المسرحية والمهرجانات وتعاملت معها كمستقل ونشرت في الصحف في الجانب الثقافي وخاصة مع لابراس في فترة كنت عن قرب مع صديقي بديع بالناصر ثم انفتحت على تجارب أخرى مثل محمد مومن ومحمد محفوظ وصلاح الدين معاوية، وانضممت إلى جلسات ولقاءات عناصر مدرسة تونس وكنت صديقهم وغطيت بالصورة لقاءاتهم ومعارضهم وكذلك مجموعة 70 ومنهم قمش والتونسي وبن عمر والسعيدي وعبدالمجيد البكري، وبعدهم مجموعة الزنايدي ولمين ساسي وبن مسعود والعزابي وصولا إلى الثمانينيات. 
وكان هناك حضور في صفحات الجرائد لنقاشات هذه المجموعات التشكيلية ولم تكن هناك اروقة غير رواق يحيى وصالون الفنون لمدام نحوم، وهي يهودية تونسية اسمها جوليات نحوم وقاعة الأخبار وداري الثقافة ابن خلدون وابن رشيق، ثم جاء رواق التصوير، وكان في نهج سان جون قرب كلار فونتان لصاحبه عبدالرزاق الفهري، وكان من رواده جيل الثمانينيات مثل لمين ساسي وحبيب بيدة وبوعبانة، ثم بعد ذلك جاء رواق شيم للفخفاخ والهاني، ورواده محمود السهيلي ورفيق الكامل ورضا بن عبدالله والطاهر ميميتة وقد بعثوه كمشروع انفتح على جيل الشباب.
هذه الفترة واكبتها ووثقتها، وخاصة تجربة شيم مع رشيد الفخفاخ ونور الدين الهاني ومجموعة مثل لمين ساسي وسامي بن عامر وبن مفتاح وبيدة وخاصة الدكاترة.    
وفي هذا الخضم من الحراك التشكيلي كان لدي اهتمام بالفنان والعمل الفني من لوحة ونحت وغيرهما، وكانت تغطيتي كذلك صدرت ببعض الكتب ككتاب عن منصف بن عمر ونشر الكتاب عن دار تبر الزمان لعبدالرحمان أيوب، وكانت المادة ثرية سعدت فيها بالبحث والدراسة عن طريق شغلي وعملي وهذا ضمن التكوين حيث درستهم وبحثت في أعمالهم.
بعد ذلك جاءت مرحلة الإبداع ودخولي كفنان تشكيلي وصرت أحد فناني الساحة وبعد سنة 1978 قدمت أول معرض شخصي في مسرح قرطاج خلال مهرجان قرطاج الدولي، وكان حول التعبير الجسماني بالحركة انطلاقا من الصورة الركحية ومن خلال تغطيتي للمهرجان صار الركح بالنسبة لي ورشة واستوديو، ونقلت ذلك آلة التصوير وتعاملت معها واستمددت منها صورا في قراءات أخرى بجانب فني تشكيلي منفرد، وبعيدا عن الصورة التوثيقية العادية وهناك كانت ذكريات الفن مع مالري استعدت ذلك في عملي الفني مع الصورة وأعني كيمياء الصورة، وكيف أتصرف فيها وهي مرتبطة بالدرجة الحرارية والقيمة الضوئية والتركيبة من الجانب التشكيلي والتعامل الإبداعي التشكيلي ككل.
وقدمت صورا إبداعية وصرت أبحث عن انطلاقة تشكيلية وبذلك أضفت مادة تشكيلية عن طريق الصورة بالتخلص من الطريقة الكلاسيكية التي عمل بها آخرون. هذا الجانب تجاوزته بما فيه من مضامين مثل (امراة بالسفساري والباب والخوخة...) وما يوجد عامة في البطاقات البريدية "الكارت بوستال". 
أول جائزة تحصلت عليها في المركز الثقافي الأميركي، وأذكر هنا الفوتوغرافي السيد غراهام  وكانت الجائزة الثانية.
حضرت معارض وكانت هناك مجموعة تنجز معرضا على الأقل مرة في السنة خلال التسعينيات في إطار التعاون الثقافي الدولي بالتعاون مع سفارات السويد وألمانيا والنمسا ضمن الانفتاح على الآخر ومنها رضا الزيلي الذي كان أصغرهم، وانطلاقا من هذا التمشي والبحث التشكيلي سلكت طريقي إلى الكتابة بالضوء وصار انطلاقا من صورة عادية هناك إبداع بالعين ويهمني الجانب الخطي الذي رأيته لدى مالري أكثر من الجانب التوثيقي وحرصت على تجاوز الصورة إلى ما هو تشكيلي.