محمد هندي يناقش رواية بوقريرة التفاعلية

الباحث المصري يوضح في ملتقى الشارقة للسرد أن رواية "الزنزانة رقم 06" هي التجربة الأولى للكاتب الجزائري حمزة قريرة.
الوسيط الرقمي فَرَض حضورَه على المشهد الإبداعي؛ نتيجة انخراط كثير من المبدعين بفاعليّة في الفضاءات التي يُتيحها
السمات التقليديّة للرواية واضحةً في نص "الزنزانة" من حيث تنظيم الحبكة وتتابعها وبناء السرد

يرى الباحث د. محمد هندي أن الوسيط الرقمي فَرَض حضورَه على المشهد الإبداعي؛ نتيجة انخراط كثير من المبدعين بفاعليّة في الفضاءات التي يُتيحها، فأصبحنا أمام إبداع يجمعُ بين النصّيّة بطاقاتها التخيّليّة التي تتباينُ بتباينِ مخيّلة هؤلاء المبدعين، وبين الآليات الرقميّة التي أتاحها هذا الوسيط من صوت، وصورة، وحركة، وروابط تشعبيّة hyperlink تُسهم في انفتاح النصّ على مسارات متشعبة، لكن على الرغم من أنّنا أمام نمط إبداعي لا عهد لنا به من قبل، إلا أنّه في حقيقة الأمر يواجِهُ تحدياتٍ متعدِّدة تقفُ حَجَر عَثْرة أمام ترسيخه في واقع ثقافتنا العربية، لعلّ أهمّها: أنَّ الفضاءَ الرقميّ لم يضعْ الضوابطَ والمعايير التي بواسطتها نستطيعُ التمييز بين النصّ الجيد والآخر الرديء، فكلُّ من يرتادُ هذا الفضاءَ يمكنه التعبيرَ عما يجولُ في خاطرِهِ دون أيّة قيود، كما هو شأن ما يُقدَّم في مواقع التواصل الاجتماعي على سبيل المثال، وربما يكون هذا التحدي هو أحد الأسباب الأساسيّة التي جعلت اليوم فريقًا من المبدعين والنقاد لا يتقبّلون فكرةَ النصّ الرقمي.
وقال - في ملتقى الشارقة للسرد الذي عقد دورته السادسة عشرة في العاصمة الأردنية عمّان تحت عنوان "الرواية التفاعلية .. الماهية والخصائص" خلال الفترة 17 – 19 سبتمبر/أيلول 2019 - تُمثِّل الروايةُ الرقميّة (التفاعليّة) إحدى النصّوص الجديدة التي استطاعتْ أن تجذب إليها أقلام فريق من النقاد؛ بغيةَ الكشف عمّا تُضْمِرُهُ من قيم جماليّة يمكن من خلالها الحديث عن بداية تَشَكُّل تيار سرديّ جديد، يمكن أن يُمَثّل حلقةً مهمةً في تطوّر فكرنا الإنسانيّ خاصة على المستوى الإبداعيّ. 
وفي محاولةٍ للاقتراب من هذا الوليد الذي لم ينْضَجْ بعد، يسعى د. محمد هندي في مقاربته النقديّة – التي شارك بها في المتلقى في جلسة رأسها الشاعر الإماراتي عادل خزام - إلى تقديم تصوّر قد يكون مغايرًا لما هو متعارف عليه حول الرواية التفاعليّة في أدبيّات النقد الذي حاول قراءة هذا النوع من السرد، خاصة فيما يتعلّق بمفهومها، ومسألة تجنيسها، وسماتها التفاعليّة، مع وضع تصوّر حول التحديّات التي تواجِهُها على مستوى الإنتاج والتلقي بناءً على ما هو موجود بين أيدينا اليوم من روايات رقميّة. 
وهو يتعرض في مشاركته لرواية "الزنزانة رقم 06" للجزائري حمزة قريرة؛ حتى تتبيّن حقيقة ما ذكره من سمات وتحديّات، خاصةً وأنّ الروائي قد وظّف آليات تفاعليّة لم تكن حاضرةً في الروايات الرقميّة التي سَبقت الزنزانة، لكنَّه في الوقت نفسه لم يتخلّص من الطابع التقليديّ للنصّ الورقي. 
ويوضح هندي أن رواية "الزنزانة رقم "06 هي التجربة الأولى للكاتب الجزائري "حمزة قريرة"، وهي تدورُ حول تجربة شاب اسمه "مراد" تخرّج في كلية الحقوق، وحلم بأن يكون له مشروعُهُ الخاص الذي يُحقّق له كل ما يطمحُ إليه شابٌ في سِنه، وقد أُتِيحت له هذه الفرصة من خلال تواصله افتراضيًّا عبر الفيسبوك مع " زكي" ابن عمه، الذي وعده بإرسال مبلغٍ من المال يساعده في تنفيذ فكرته، ثم يكتشفُ "مراد" في مفاجأة غير متوقّعة أنّ "زكي" يعملُ ضمن خلايا بعض التنظميات المتطرفة خارج البلاد، وأنّ هناك من يلاحقُهُ أمنيًّا، ونتيجة مراقبة الرسائل المتبادلة بينهما عبر الفيسبوك من قِبل الأمن، يتم القبض على "مراد" بتهمة التجسّس والعمل مع هذه التنظيمات الإرهابية، لينتقل السردُ إلى محطةٍ جديدةٍ ترصدُ الحالةَ المضطربةَ التي رافقتْ "مراد" في الزنزانة التي وصفها بقوله: "مكان موحش إنّها حفرة للصرف الصحي وليست زنزانة"، وقد صُمّمت بطريقة هندسية عجيبة، حيث يتمكّن الشخص الموجود داخلها من سماع أصوات الناس بالخارج، دون أن يتمكّنوا من سماع صوته، فقد كانت في حقيقتها مركزًا لمراقبة السوق المجاور لها، ولذلك استطاع " مراد" سماع حكايات مختلفة من الذين كانون يرتادون السوق، بعضها متعلّق بحياتهم الخاصة، وبعضها الآخر مرتبط بالأوضاع السياسيّة، والاقتصاديّة المترديّة التي عليها البلاد.
ومع مرور الوقت يحدثُ اندماج بين "مراد"، وهذا المكان المُوحش، يقول في مسار "خطوة في الفراغ": "أحيانًا أشعر أنه كان طوال الوقت شخص بداخلي ينتظر السجن ليخرج ويفاجئني، أصبحت أشعر بالسعادة"، وقد توهّج هذا الاندماج بعد أن لفت نظره وجود خربشات على جدار الزنزانة تحمل عبارات ساخطة، وناقمة، وساخرة، كتبها صحفي مخلص للوطن تمّ اعتقاله ووضْعه من قبل في هذه الزنزانة؛ لحِيازته وثائق تُدين شخصيات عامة تعمل في المجال السياسي، وهنا تبدأ رحلة "مراد" في البحث عن هذه الوثائق، خاصة بعد أن دَلّته الإشاراتُ الموجودةُ على الجدار على مكانها في الزنزانة، وبعثوره على هذه الوثائق تتحوّل الروايةُ في سردها من أُحاديّة الصراع الدراميّ المتعلّق بـمراد، وتخيّلاته وهلاوسه التي صاحبته في الزنزانة؛ لتأخذ اتّجاهًا ثنائيًّا جماعيًّا، يتعلّق بالصحفي المجهول، والشخصيات السياسيّة الانتهازيّة، والأوضاع السيئة التي عليها البلاد منذ عشرين سنة، من حيث الغلاء، وتدهور التعليم، والتبعية السياسية للخارج.
يواصل هندي: تزدادُ حيرة "مراد" عندما يقرأُ في الوثائق أنّها موجّهة إلى شخص أمين، شجاع يستطيعُ بواسطتها فضْح الذين يخونون الوطن، لتصبح هذه الوثائق سببّا رئيسيًّا في التحوّل الإيجابيّ الذي طرأ على "مراد"، يقول في مسار "حزن مسافر": "رغم ما أعانية منذ أشهر إلا أنني بدأت أتأقلم وأفكر أفضل مما كنت عليه خارج الزنزانة، خصوصًا بعد عثوري على هذه المذكرات، أوارق مكتوبة بخط جميل .. تحكي عن بلد تم اغتصابه ورميه للكلاب، إنها أوراق حزن دفين عمره سنين"، بل إن الذي جعل "مراد" ينسى همومَهُ الذاتيّة في الزنزانة هو أنّ ما وجده في هذه الوثائق هو عينه ما يحدثُ في واقعه المعاصر، وبذلك يمكن القول: إنّ هذه الوثائق تُمَثِّل قناعًا استطاع المؤلفُ عبره تقديم موقفه من حقيقة الأوضاع الراهنة على المستوى العربي، وهو ما ألمح إليه بصورة مباشرة على لسان "مراد" تعليقًا على ما وجده في هذه الوثائق: "إنّه يقصدنا، يقرأ واقعنا اليوم، كل الكلام الذي قاله خلال هذ الصفحات يعكس حالنا اليوم نحن أشبه بالدمى بين يدي الآخر..إنهم يعرفون عنا أكثر مما نعرفه عن أنفسنا". 
هذا التحوّل جعله يتّخذ قرارَهُ ــــ في حالة خروجه من الزنزانة ــــ بالبحث عن "الضاوية" ابنة الصحفي بالتبنيّ، التي طلب منها ــــ كما هو مكتوب في الوثائق ــــ أنّ تزور باستمرار جدته "الضاوية"؛ لأنّ في كل زيارة ستستمّد منها القوة، التي تُعينها على تحمّل أعباء الحياة.
تحدث الثورة، وينجح "مراد" في الخروج من الزنزانة في هيئة جُسمانيّة جعلت كثيرين يتعاطفون معه، ظانين أنّه أحد المتسولين، ثم يتّصل بعمه "سعيد"، الذي كان يعملُ في المقابر، ويقصّ عليه ما حدث له، وأنّه مشغول بما معه من وثائق، ونتيجة البحث يتّضِحُ أنّ الجدة اسمها الضاوية بنت الجبلي، كانت إحدى المجاهدات، وكانت مشهورة بقوتِها وحزمِها، وهي مدفونة في هذه المقبرة التي يعمل فيها "مراد حاليًّا، ثم تؤدي الصدفة دورها، حيث يتحوّل "مراد" إلى الشيخ البكري الذي عُرف بين الناس بكراماته، يداوي المرضى، ويزوّج العانس، ويفكّ السحر، مما جَعَل السرد يأخذُ بُعْدًا واقعيًّا شعبيًّا قائمًا على الخزعبلات، التي جعلته يُعَلِّقُ ساخرًا: "مرهق جدًا، مدينة تأكل بعضها، الموت في كل مكان، والمضحك أن الناس ما زالت تعتقد في الماورئيات والدجل، أمر محزن ما آل إليه العربي".

وقد أوقعه هذا الدجلُ في قبضة إحدى الجماعات المسلحة التي يُقال إنها ذات توجّه جهادي متطرّف، وما كان منه إلا الهروب خاصة بعدما علم أنّه مستهدف من قِبلهم، لِيقع مرة أخرى في قبضة إحدى الجماعات التي تُمَوَّل من الخارج، وعندما اكتشفوا أنّه لا ينتمي إليهم قرروا قتله، ثم تحدثُ الصدفة الثالثة، فقد كان أفراد الجماعة مستهدفين من قِبل رجال الأمن، وقد لقوا حتفهم جميعًا بعد تفجير المكان الذي تجمعوا داخله، على إثر ذلك نُقِل "مراد" إلى المستشفى، وبعد خروجه تنكّر في شخصية "فتحي"، كي لا يقع في قبضة مَنْ يبحثون عنه، متخذًا قرار العودة من جديد إلى المقابر، فربما ينجح هذه المرة في الوصول إلى خيط يُساعده في فكّ طلاسم الوثائق التي أصبحت تميمةً تحميه من المصائب التي يقعُ فيها، يقول: "أشعر دائمًا أنها سبب بقائي حيّا، كأنها تقودني إلى حيث يجب أن أكون".  
 لكنّ الرواية لم تُقدم لنا ما حدث بعد ذلك، فهل يعود "مراد" إلى المقبرة، وينجح في التعرّف على قبر الضاوية بنت الجبلي، فربما يلتقي هناك بالفتاة، ومن ثَمّ يشرعا معًا في حلّ أمر الوثائق؟ 
على المستوى القرائي قد تُثِيرُ هذه النهاية المفتوحة مخيلةَ القارئ، أما على مستوى السرد، فنحن أمام نهاية مقنعة فنيًّا، خاصة وأنّ الأوضاع التي عليها البلاد لا تزال مضطربةً، ومعقدةً وغير محدّدة المصير، وبذلك يكون الانفتاحُ النصّي موازيًّا لانفتاح الواقع المتردّي الذي يصعبُ وضْعَ توقّع لما سيصيرُ إليه مستقبلًا.
ويعلق الباحث محمد هندي قائلا: قارئ هذه الرواية لن يجد صعوبة في تحديد المسارات الأساسيّة للحبكة القصصيّة، التي انطلقَتْ في تقديم مادتها من رسالة افتراضيّة عبر الفيسبوك، كانت سببًا في سجن "مراد"، لينشطر السردُ إلى شكليْنِ دراميّين متوازيين: أحدهما: يحيلُ إلى حياة "مراد" وموقفه من الزنزانة، والتحوّلات التي طرأتْ عليه تدريجيّا. أما الآخر، فيتجسّد في وثائق الصحفي المجهول، التي جعلت "مراد" يشعرُ برغبته القويّة في البقاء حيّا، ثم أخيرًا حدث الثورة والخروج من الزنزانة، والبحث عن حقيقة هذه الوثائق التي لم تتّضح بعد. 
على مستوى البنية السرديّة، رافق هذا التسلسل الدراميّ (الموضوعيّ) تحوّل في بنية الخطاب اللغوي، فهناك الخطاب النفسي الذي اتّكأ على رصد الأبعاد النفسيّة المترديّة التي رافقت "مراد" في بداية علاقته بالزنزانة، ثم هناك الخطاب الوثائقي التاريخي الذي جاء موازيًّا للخطاب النفسي، وهو خطابٌ كان له دورُهُ في تطوّر شخصية "مراد" نفسيًّا وواقعيًّا، وأخيرًا هناك الخطاب الواقعي (الشعبي) الذي  تجّسد في أسلوبيْن: أولهما: الحكايات الشعبيّة التي كانت تدورُ في السوق، تلك التي كانت بمنزلة أنيس يُبدِّد وحشة "مراد" داخل الزنزانة، ثم المواقف والحكايات التي صاحبته أثناء عمله في المقبرة، خاصة بعد تحوّله إلى شخصية الشيخ البكري. 
هذا التسلسل السردي يعني أمام حبكة سردية تقليديّة لا تختلفُ في سردها ومكوناتها عن السرد التتابعي للرواية التقليديّة في مرحلة ما قبل الوسيط الورقي، أمام حبكة حاول المؤلفُ تقديمها من خلال ستة روابط خارجيّة تم توزيع المتن السردي عليها: (موت بلا موعد، وخطوة في الفراغ، وحزن مسافر، وقبلة وداع، ورؤيا، وتأشيرة إلى جهنم)، فعلي الرغم من هذا التوظيف الإلكتروني، والإيهام بأنّنا أمام نصّ اتّخذ من البُعْد المتاهي سمةً نصيّةً، إلا أنّنا أمام رواية تقليدية، ما يعني أنه من الممكن أن نقوم بجمع الخطابات السردية المكتوبة، ووضعها في صورة ملف ثم طباعته، وقراءته ورقيًّا. 
 ويبين هندي أن هذا التصوّر ليس تقليلًا من شأن رواية الزنزانة، إنّما هو رصد حالة سرديّة (بدائيّة) تُعد طبيعيّة في هذه المرحلة من ميلاد الرواية الرقميّة التفاعليّة، وهذا لا يعني أنه لا توجد تقنيات رقميّة فاعلة وظّفها حمزة قريرة في زنزانته، وهو ما سنقاربه هنا:
•    تفاعليّةُ الزنزانة بين الحشو والفاعليّة:
اختار "حمزة قريرة" من فضاء الإنترنت أداةً لتقديم تجربته الروائيّة، محاولًا إنتاجها في شكل تفاعليّ سار في اتجاهيْنِ:
ـــ الاتجاه الأول:
عبارة عن تفاعليّة خارجيّة تخاطبُ المتلقي مباشرةً بأن يكون شريكًا في صناعة الحدث الروائي، وهذا ما تضمّنته الجملة الرئيسيّة التي جعلها المؤلف واجهةً للرواية: "تجربة أولى..شارك في التأليف أو انطلق في تجربتك الخاصة.. في عالم التفاعل الرقمي أنت في حلم كل شيء ممكن..لتكن ما تريد".
 ثم تظهرُ هذه التفاعليّة مرة أخرى مخاطبةً المتلقي بإضافة مسارات جديدة للحدث، وقد تكرّر هذا الاقتراح أربعًا وعشرين مرة، وكان نصُّه: "للتفاعل وإضافة مسارات جديدة اضغط هنا/ اكتب الرمز مع الرسالة)، وهو اقتراح له دلالتُهُ المؤثرة في تحفيز المتلقي للتفاعل مع التجربة، فقد يندمجُ مثلًا مع حالة "مراد" المتوترة داخل الزنزانة، فيضيف بعض المؤثرات الصوتيّة أو الحركيّة التي قد تسهم في انفتاح السرد خاصة على المستوى التخيّليّ، فعلى سبيل المثال عند قراءته للجملة الواردة على لسان "مراد": "اللعنة أريد الخروج لا يمكنكم حبسي..سأفضحكم يا أوغاد"، قد يقترح إضافة فيديو تصويري للحالة الهستيرية التي من المتوقّع أن يُصبح عليها العسكريّ بعد سماعه لجملة: "سأفضحكم يا أوغاد"، فقد يقوم بالضرب المبرح لمراد، وهذا المؤثر قد يؤدي إلى تعاطف القراء فيما بعد مع مراد، وفي الوقت نفسه ربما يُبرِزُ الهيئة الوحشيّة التي عليها النظامُ ممثّلا في شخصية العسكري، وبهذا يكون الفيديو قد ألمح بصورة ساخرة إلى ما تتضمّنه الجملة السردية التي جاءت على لسان العسكري في بداية الحوار: "اخرس يا إرهابي واعلم أني إلى الآن لم أستخدم أيا من أساليبي".  وفي حالة عدم عودة العسكري إلى "مراد" كما حدث في الرواية، قد يقترحُ أحد القراء إضافة رابط إلكتروني بالنقر عليه ينفتح لنا مشهد لفيديو موجود في اليوتيوب، مأخوذ من مسلسل أو فيلم سينمائي لشخصية تُعَذَّبُ في سجن ما، تاركًا لنا استنباط المصير الذي قد يُلْحَق بمراد إذا استمر في صياحه المزعج وألفاظه القبيحة. 
ويرى الباحث أن المتتبع لحركة الرواية الرقمية العربية قبل رواية الزنزانة، يمكنه استنباط ملاحظة مهمة تتلخّص في أنّ هذا الصنيع الذي صنعه قريرة في تجربته أمرٌ يتفرُّد به عما سبقه من تجارب روائية، فبعض الروايات اقتصرت على جعل القارئ متتبعًا للمسارات والروابط دون السماح له بأي إضافة للمتن النصّي، وبعضها الآخر أعطى مساحة للمتلقي للتفاعل بالتعليق أو بإرسال رسالة إلى المؤلف، لكن خارج نص الرواية، أمام في الزنزانة فنحن أمام تفاعل داخلي يُحاور البنية النصّيّة للتجربة، وفي الوقت نفسه يتوقّفُ على قدرة المتلقي التخيّليّة، فضلًا على وجود شكل تفاعلي ثالث تمثّل في تعليقات القراء الخارجيّة على النصّ، وتفاعل المبدع معها مباشرة، وهو ما يمكن ملاحظته من خلال تتبّع تعليقات المدونة التي وُضعت بها الرواية، خاصة تلك التي جاءت في نهاية مسار"حزن مسافر":

hendi
من روابط الزنزانة

أما عن الاتّجاه التفاعليّ الآخر، فيتمثّل تحديدًا في الروابط الإلكترونية الداخليّة التي عملت على تنظيم حبكة الرواية بنيويّا، بحيث يمكن الخروج بقيمة جمالية ما، وقد تعدّدت وظائفُها بحسب الحدث السردي وتحوّلاته، من ذلك:
ـــ روابط لها وظائف تعريفيّة: بالنقر عليها يمكن التعرّف على بعض من ملامح الشخصيات الروائية، ولاسيما الشخصية المحوريّة التي يمكن كشف حقيقتها من خلال النقر على رابط  "مراد"، الذي يتضمن الشكل الآتي:
غير أنّ " قريرة" قد أَقدَم على إيجاد آلية تفاعليّة لها خصوصيتُهُا، فباستطاعة المتلقي الحوار مباشرة مع الشخصية المحوريّة، وهو أمرٌ لم يكن مألوفًا على صعيد الفن الروائي، فمن خلال النقر على الرابط البصري الموجود أسفل الصورة السابقة، يمكن إجراء الحديث مع "مراد" في فضاء الفيسبوك خارج المدونة، وهو أمرٌ قمتُ بتفعيله، وقد أثمر عن التفاعل الآتي:
ــــ هناك روابط بصريّة تنفتحُ على رسومات لها حضورُها الموضوعيّ على مستوى السرد، كما في الرسومات الموجودة على جدار الزنزانة، والأخرى الموجودة في الوثائق، مثل صورة " الضاوية" ابنة الصحفي:
ــــ هناك روابط سمعيّة لها بُعْد غنائيّ تخيّلي، مثل روابط مسار "خطوة في الفراغ"، التي تنفتحُ على الأحلام والعوالم التخيّليّة التي رافقت "مراد" في الزنزانة، مثل رابط: مسافر في عالم سرمدي لا حدود لأطرافه أحلّق بعيدًا علّني أجدني أخيرًا بين الغيوم التي تشكّلت بِفعل قُبل العاشقين"، حيث ينفتح هذا الرابط على مقطع موسيقي يمكن تفعيله مباشرة أثناء قراءة نصّ المناجاة، الذي وضعه المؤلفُ أسفل المقطع الموسيقي الهادئ، الذي يتناسبُ مع الجو العام لعبارات المناجاة التخيّليّة التي تُمكِّنُ القارئ من استحضار الشخصيّة الروائيّة، وهي تسبحُ في عوالمها الروحيّة والصوفيّة، من هذه العبارات: "أشعر أني ملك الظلام أتّحد بالنسائم الباردة، أطير إلى السوق أجول وأمرح في المدينة النائمة، وأعبر بعيدًا إلى الفضاء أرى المدينة المتعبة وهي تستفيق". هذا التلاحمُ الدلاليّ الذي يجمعُ بين ما تحمله المناجاة من دلالات ذاتيّة غنائيّة، وما بين شعرية المقطع الموسيقي ذات النغم الهادئ، هو الذي يمنح الرابط الإلكتروني المُوظّف فاعليّةً، لا يمكن تجاهلها أثناء القراءة.    
ويشير الباحث هندي إلى أنّ ما يُميّز رواية "الزنزانة" هو تعدّد روابطها، وهو تعدّد يفرضُ علينا تساؤلًا مهمًا يتلخّصُ في: هل يمكن الاستغناء عن هذه الروابط، وتقديم النصّ دفعة واحدة في المدونة، أم أنّها تُمثِّل بنية محوريّة في تشكيل الرواية، وأنه في حالة استقطاعها، ستغيبُ دلالات أساسية يسعى المؤلف لإيصالها إلى القارئ على المستوى الموضوعي والشكلي؟
بناءً على التفاعل مع الرواية، يمكن القول: هناك روابط سرديّة لا يمكن التخلّي عنها أو تجاهلها أثناء الفعل القرائي، مثل رابط: "آه الأصوات مجددا، الناس يبيعون ويشترون، دون توقف، وكأن القيامة ستقوم"، بالنقر على هذا الرابط الموجود في المسار الأول "موت بلا موعد"، ينفتحُ علينا نصّ سردي يعرضُ لبعض الحكايات التي كانت تدورُ على ألسنة الناس في السوق، وبهذا يُسهم هذا الرابط على المستوى الفني في إيجاد ما يسمي بجمالية تداخل الحكي. 

hendi
من روابط الزنزانة

ويستدرك هندي قائلا: لكن تجدر الإشارة إلى أنّ هناك روابط كثيرة موظّفة يمكن الاستغناء عنها أو إعادة بنائها من جديد خاصة فيما يتعلّق بالروابط التي تجسّدت في جمل سرديّة طويلة تتعدّى السطرين، حيث لم تُضِفْ شيئًا إلى النصّ، إنّما جاءت تأكيدًا لما تضمره الجمل السردية من دلالات، فعلى سبيل المثال رابط: (..سأموت بالمرض والوحدة ولا أحد يعرف بمكان) (الصرخات لا توصل أصواتنا) (الألم يجعل ألواننا تذبل) (الموت بلا قضية أكلة باردة) (المسيح لم يصلب ولم يذهب إلى أي مكان ظل في قبوه مسجونا ينتظر) (سيصبح السجن مزارا في يوم ما) (لم أر المرآة منذ كنت إنسانًا)، جاء توضيحًا لجملة "مراد": "أغلبها يحمل كتابات وخربشات قديمة". فعند النقر على هذا الرابط الطويل، ستواجهنا هذه العبارات في هيئة رسومات على الجدار.
فما فائدة هذا الرابط إذًا؟ ماذا لو جعل المؤلف من جملة "خربشات قديمة" رابطًا ينفتح مباشرة على هذه الرسومات دون ذكرْ هذه الجمل الطويلة؟
والأمر نفسه مع بعض المؤثرات الصوتيّة الموجودة في مسار" قبلة وداع"، فقد وظّف المؤلف مؤثرًا صوتيًّا بعنوان: "استغاثة"، وهو تأكيدٌ لدلالات الجملة السرديّة التي كُتبت باللون الأحمر، والتي يبدو أنّها كانت رابطًا، لكنّه عُطّل لأمر ما: "ماذا لو صرخت أو ضربت الباب بقوة ربما يسمعني أحدهم"، فماذا لو حذفنا هذا الرابط وجعلنا السرد ينفتحُ مباشرة على المؤثر الصوتي بعد العبارة السردية الطويلة المتمثّلة في: (مضى يومان ولا أحد أتي، ربما ينتظرون موتي، لكن أنا لم أفعل شيئًا، لم يحققوا معي كيف سأموت بلا محاكمة)؟ في تصوّري لكان التفاعل القرائي في هذه الحالة أكثر فاعليّة، حيث استحضار المتلقي بنفسه للشخصيّة أثناء استغاثتها وطرْقها للباب.
أكثر من ذلك، في مرحلة البحث عن الوثائق، والعثور عليها، وظَّف المؤلفُ روابطَ متعدّدة تُحيل إلى صفحات هذه الوثائق تباعًا: الصفحة الأولي، ثم الصفحة الثانية.. وهكذا، مع إرْدافها بتعليقات من قِبل الأنا الساردة، لا تختلفُ عن تعليقات الراوي العليم بكل شيء في الرواية التقليديّة، وأنّ هذه الصفحات عبارة عن صور صفراء مكتوب عليها مذكرات الصحفي، ليتساءل القارئ من جديد: ما الذي أضافه المؤلفُ هنا على المستوى التقني للرواية؟
في حقيقة الأمر، قد تُرهق هذه الروابطُ المتلقي أثناء النقر عليها ذهابا وإيابًا، فماذا لو تمّ تقديم هذه الوثائق أو المذكرات في هيئة كتابيّة بلون مغاير للّون المكتوب به السرد؟ في تصوّري أنّ الذي جعل المؤلف يتجاهلُ هذا الصنيع هو الظنّ بأنه لن يُقدم جديدًا خاصةً وأنّ هذه الطريقة معروفة للمتلقي في الرواية الورقيّة التي توظّف تقنية المذكرات والوثائق، وربما الذي دفعه إلى هذه الطريقة أيضًا هو أنه أراد وضع الوثائق بحالتها التالفة وسطور بعضها المختفية، أمام المتلقي مباشرة، كي يحقق نوعًا من الإيهام بواقعيّة الحدث المصوّر:

hendi
من روابط الزنزانة

قد يكون المؤلف محقًا في هذا الصنيع، لكننا نُفاجأ في نهاية الرواية بأنّه قَدّم الوثائق في رابط واحد: "الثمانين والأربعين وفيها صورة الضاوية"، ووضعه في المسار الأخير من الرواية: " تأشيرة إلى جهنم"، بالنقر عليه تظهر صور الوثائق التي تعرّف عليها القارئ أثناء قراءة المسارات السابقة من الرواية.
ويخلص الباحث د. محمد هندي إلى أنه تبدو السمات التقليديّة للرواية واضحةً في نص "الزنزانة" من حيث تنظيم الحبكة وتتابعها وبناء السرد من حيث الاعتماد تحديدًا على السارد الذاتي، المشارك في صناعة الحدث، ورسم الشخصيات (خصوصًا على المستوى النفسي)، والأمكنة وتعددها، إضافة إلى أنّ للكلمة حضورًا قويًّا على مستوى السرد بصورة تفوق المؤثرات الصوتيّة والبصريّة التي جاءت في كثير منها مؤكدةً لما تمّ الإشارة إليه في الجملة السرديّة، وهذه سمة تكادُ تكون حاضرةً في معظم الروايات الرقميّة، كما في "شات" و"صقيع" لمحمد سناجلة، وهو ما يجعلنا نقرُّ بأنّ التفاعلية الغالبة على هذه النصّوص مجتمعة، تفاعليّة قرائيّة في المقام الأول، تتمثّل في تنشيط الروابط وتفعيلها قرائيًّا بحيث تُسهم في الجمْع والربط بين مسارات الحبكة القصصيّة للخروج بقيمة جمالية ما، لكن هذا لا يمنعُ أنّ لنص الزنزانة خصوصيته التفاعليّة التي تحققت فعليًّا في التفاعل المباشر مع المتلقي، وقد تجسّد ذلك في ثلاثة أشكال محوريّة: إمكانية إضافة مسارات داخل الرواية، ثم إمكانيّة الحوار المفتوح مع الشخصيّة المحوريّة في فضاء افتراضي (الفيسبوك) مغاير لفضاء الرواية، وأخيرًا التعليقات والرودود الخارجيّة التي تجسّدت في الثنائية التفاعليّة التي جمعت بين المؤلف وقُراء الزنزانة، وهو ما يُسهم في إيجاد تعدديّة خطابيّة وصوتيّة من شأنها منْح التجربة دلالات متعدّدة تزيدُ من فاعليتها إنتاجًا وتلقيًّا.