محمود هدية يدوّن حقبة تاريخية لـ'اقتصاد النسيج' في الغرب الإسلامي
اكتسب الغرب الإسلامي دورًا بارزًا في تشكيل حضارة البحر المتوسط من خلال موروثاته السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وعلى وجه الخصوص الاقتصادية منها؛ باعتبارها إحدى ركائز الاتصال مع الشعوب والبلدان التي جاورت الغرب الإسلامي؛ ومن هذا المنطلق تكمُن أهمية النسيج في تلك المنطقة، خاصة في العصر الوسيط؛ تلك الفترة التي شكَّلت جانبًا مهمًّا من تاريخ الغرب الإسلامي. ويمثل هذا الكتاب "اقتصاد النسيج في الغرب الإسلامي في العصر الوسيط" للكاتب والباحث في التاريخ والحضارة الإسلامية محمود هدية أهميةً كبيرة للمهتمين بدراسة التاريخ الاقتصادي للغرب الإسلامي.
يستعرض هدية البيئة الزراعية لتلك المنطقة، فضلًا عن الوضع الصناعي الذي اتُّبع، والتقسيمات الصناعية وصنوف الصناع، هذا بالإضافة إلى الوجود التجاري من أسواق وقيساريات ونقابات، والعلاقات التجارية التي امتدت شرقًا وغربًا. إذ تطور الغرض من اتخاذ المنسوجات كملابس ومفروشات في الغرب الإسلامي؛ لتمثِّل مظهرًا من مظاهر الحضارة، يُرى مردوده في الحياة العامة، في المساجد ودور العبادة والقصور والدواوين وفي كافة مناحي الحياة، خاصة بعد أن اتخذ النَّسيج طُرُزًا ونوعيات ميَّزت أقاليمه في طرق الصنع وسُبل التجارة، وصارت خاماته ونوعياته من العلامات المميِّزة له، فضلًا عن الدور الذي أدَّته تجارة النسيج في تدعيم السياسة الاقتصادية والتجارية في بلدان الغرب الإسلامي؛ لذا اعتلت تجارة النسيج الصدارة وأصبحت واحدة من أبرز التجارات التي ترأَّست قوائم المبادلات التجارية في منطقة الغرب الإسلامي طيلة العصور الإسلامية. ونبع هذا التميز من اهتمام مُدن الغرب الإسلامي بالنَّسيج وتجارته بإقامة العلاقات التجارية مع مدن الغرب المسيحي، وبلاد السودان الجنوبي ومصر، وبلدان المشرق الإسلامي. وقد ساعد هذا على تبادل الخبرات ومواد النَّسيج الخام، فضلًا عن سعي حكومات الغرب الإسلامي لإنشاء القيساريات والأسواق التي أَوْلت اهتمامها بصناع وتجار النسيج.
يحدد هدية في كتابه الصادر أخيرا عن مؤسسة هنداوي الواقع الجغرافي للغرب الإسلامي فيقول "نظرًا لأهمية الواقع الجغرافي للغرب الإسلامي وجب التنويه له حتى يتسنَّى تكوين تصوُّر جغرافي لمناطق زراعة وصناعة وتجارة النسيج في الغرب الإسلامي. فيُطلق لفظ بلاد المغرب على المنطقة التي يحدُّها المحيط الأطلسي من جهة الغرب، ومن جهة الشرق أرض مصر، ويحدُّها من الشمال البحر المتوسط، ومن جهة الجنوب فتحدُّ بلادَ المغرب جبال الرمل (الصحراء الكبرى) التي تمتد من المحيط الأطلسي غربًا إلى ما وراء الصحراء وحتى برقة شرقًا. وتنقسم بلاد المغرب إلى ثلاثة أقاليم رئيسية: فتبدأ بإقليم المغرب الأدنى الذي يمتد من الأجزاء الغربية من طرابلس والأراضي التونسية والأجزاء الشرقية الجزائرية،٤ ثم إقليم المغرب الأوسط الذي يمتد من الأراضي الجزائرية حاليًّا وجبال بني مزغنة وتلمسان، بالإضافة لإقليم المغرب الأقصى الذي يمتد من وادي ملوية وجبال تازا شرقًا، حتى المحيط الأطلسي غربًا، ومن البحر المتوسط شمالًا حتى جبال أطلس جنوبًا. وضمت بلاد المغرب العديد من المعالم الجغرافية من موانئ ومرافئ وجبال ووديان (أنهار)، وانتشرت بها الجبال على طول الشريط الساحلي وما يقع خلف ذلك الساحل من أراضٍ وصحارٍ وجبال كجبال نفوسة، وجبال درن، وجبال أطلس التي تُعد من أبرز المعالم الجغرافية في بلاد المغرب الإسلامي.
يقول هدية "ارتدى مسلمو الغرب الإسلامي النَّسيج القُطْني كغيره من المَنْسوجات نظرًا لتوافر المواد الخام الخاصة به، وهي القُطْن، في عددٍ من بلدانه، وذلك من وقتٍ طويل، منذ دخوله على يد الفاتحين العرب، فتميزت مواضع دون غيرها بصناعة المَنْسوجات القُطْنية، فمن بين تلك البلدان بلاد المغرب، فلم تنشط بها مواضع لصناعة المَنْسوجات القُطْنية بقدر ازدهار المَنْسوجات الصوفية والكَتَّانية، على الرغم من عدم قلة الأراضي المزروعة بالقُطْن، لكن لجأ سكانه لمزج القُطْن بالكَتَّان تارة والصوف تارة أخرى والحرير، فأنتج القماش "السفساري" في تُونس، وهو قماش مصنوع من حَرِير وقُطْن، كذلك أنتجت نساء مكناسة أقمشة من الحرير والقُطْن أو من القُطْن والصوف حَملت اسم البلد وذاع صيتها ببلدان كثيرة لنعومتها وجودتها، وبرع سكان قصر طلمثية في إنتاج ثيابٍ مصنعة من القُطْن والكَتَّان نُقلت إلى العديد من البلدان، وصنع أهل ندرومة أقمشةً قُطْنية غاية في الدقة والليونة، ومدينة سلا التي كانت محطًّا للقُطْن والكَتَّان فأنتج صناعها الأقمشة والملابس المصنعة من القُطْن الناعمة، ومن القُطْن صنع الأَوْدَغَسْتيون أُزر سمونها الشيكات".
ويرى أن صناع الغرب الإسلامي برعوا في إنتاج المنتجات الكَتَّانية بأصنافها العديدة وبالأخص مدن المغرب، فمن مدن المغرب الأدنى تُونس أنتجت أنواعًا مميزة من القماش عُرف ﺑ "القماش الأفريقي" وهو من الثياب الرفيعة المصنعة من القُطْن الممزوج بالكَتَّان، أو من الكَتَّان الخالص يسمو في جودته عن النصافي البغدادية، فاعْتُبرت من أحسن كساوي المغرب بفضل سكانها فمعظمهم كانوا من الحاكة، فضلًا عن نسائها؛ فقد تميزن في أمور الغَزْل وأتقنَّه بشكلٍ بارع. ومن بين مدن المغرب الأدنى والأوسط المعروفة بإنتاج المنسوجات الكتانية قسنطينة؛ فهي من بين المراكز المهمة والمعروفة بإنتاج المَنْسوجات الكَتَّانية، وصدَّرت جزءًا كبيرًا من إنتاجها لمدن الجنوب في السودان، وكذا مستغانم التي اشتهر سكانها بنسج الأقمشة الكَتَّانية الرقيقة، والمهدية التي نُسب لها الثياب السوسية المهدوية، وسوسة التي عُدت من أبرز مراكز صناعة الكَتَّان نظرًا لانتشار زراعة الكَتَّان هذه واحدة، والثانية أن صناعها برعوا وأجادوا في غَزْل الثياب وخاصة المرتفعة الثمن؛ فحُملت إلى البلاد شرقًا وغربًا، فنُسبت إليها الثياب الرفيعة السوسية. وتميزت كل من صفاقس وعنابة بصناعة المَنْسوجات الكَتَّانية فغالبية سكانهما كانوا من الحاكة، ومدينة توزر التي اشتهرت بزراعة الكَتَّان الجيد، ومدينة بِجَاية التي امتاز صانعوها بعمل الأقمشة والمفروشات والزرابي على الطِّراز المغربي لتوافر المواد الخام من كَتَّان وقنب، قامت عليها صناعة الأقمشة الكَتَّانية بها، ومدينة قفصة المميزة بإنتاج الأقمشة الكَتَّانية، ومتيجة كانت من أهم مراكز إنتاج الكَتَّان في الغرب الإسلامي.
ويبرز هدية أن ازدهار إنتاج الحرير في مناطق الغرب الإسلامي في مدن الأندلس، خاصة في ألمرية وجيان، في حين قلَّت مناطق إنتاج الحرير في مدن وقرى المغرب، على الرغم من أن قابس كانت من مراكز إنتاج الحرير في المغرب خلال القرن 6ﻫ/12م؛ وعليه فقد احتل الحرير الأندلسي مكانةً مرموقة وسط صادرات الغرب الإسلامي النسيجية لمعظم البلدان، فعلى الرغم من النمو الصناعي والتجاري لمدن الغرب المسيحي، التي طورت نشاطها الاقتصادي فيما يتعلق بالنسيج من إنتاج الصوف والكَتَّان والقطن وكذلك الحرير، لكن ظل الحرير الأندلسي ولفتراتٍ طويلة محافظًا على قيمته الصناعية والتجارية، فلم يجد منافسًا قويًّا له في الأسواق الأوروبية، وذلك لأن مصانع الغرب المسيحي لجأت لتصنيع الصوف الخام والكَتَّان والقُطْن أكثر من الحرير.
ويبين أن بلاد المغرب الإسلامي عُرفت بإنتاجها الوفير من الأغنام والأصواف؛ لكثرة مراعيها الممتدة من ساحل البحر المتوسط إلى بطون الصحراء، التي ساعدت على تعدُّد أصناف إنتاج الصوف بها، والتي تميَّزت بأصوافها الجيدة والحسنة، فلاقت رواجًا تجاريًّا خاصة في أسواق الغرب المسيحي، كما ساهمت بلاد المغرب في نقل الأغنام ـ من غنم، ومعز، وبقر ـ إلى البلدان الأندلسية، ولعل تلك الأغنام التي يُطلق عليها أغنام المرينو، والتي جُلبت لبلاد الأندلس منذ القرن الخامس والسادس الهجريين/ الحادي عشر والثاني عشر الميلاديين؛ تميزت بجودة صوفها. ويُرجِع البعض أصل لفظ المرينو إلى لفظ "مرن" للدلالة على نعومة الأصواف ودقَّتها ومرونتها، في حين نسبها البعض الآخر لبني مرين؛ وعليه فقد شكلت تربية الأنعام دعامةً أساسية في النظام الفلاحي والحيواني في بلاد المغرب، وكانت لخدمة الحياة اليومية لسكان الغرب الإسلامي وساهمت في البناء الاقتصادي لأُسره؛ لذلك لم يتركَّز الاقتصاد الأندلسي على إنتاج الصوف، بل اعتمد بشكلٍ جزئي على استيراده من البلدان المجاورة خاصة من المغرب وميورقة والممالك المسيحية.
ويظهرهدية اهتمام العديد من فئات مجتمع الغرب الإسلامي بممارسة صناعة النسيج من علماء، ونساء، وصبية، وأهل ذمة، وغيرهم من مكونات هذا المجتمع؛ نظرًا لملاءمة طبيعة صناعته بعاداته وتقاليده، فضلًا عن إكسابه العديد من الصفات الحسنة من صبر والسعي على الرزق الحلال، كما ساعد النسيج في ترابط أُسَره وأوجد روح التعاون والتقارب بين أفراد أُسَره، ومن أبرز صور هذا التعاون "التويزة" وهي خروج نساء القرية أو المدينة للاجتماع في مجالسَ خاصة بالنساء ليغزلن عند امرأة منهن يخترنها بأنفسهن، ما تدعوهن هي لغَزْله سواء من كَتَّان أو صوف، فيتشاركن في الغَزْل؛ لهذا أطلق البعض على هذا الترابط "دولة النساء"، ولم تمارس النساء الأعمال الأخرى المرتبطة بالنَّسيج من قصارة أو كمادة أو صباغة؛ لأنها من الأعمال الصعبة التي استلزمت القوة لتأديتها، ولكن من المؤكد أنهن مارسن أمور الغَزْل والنسج والخِياطة، وهي المهن التي تماشت وما نهى عنه الدين الحنيف والظروف الاجتماعية من عادات وتقاليد؛ لذا ساهم النسيج عبر مراحله في إبراز دور المرأة الغرب إسلامية في أسرتها ومجتمعها من خلال النسيج.
ويؤكد أن تعدُّد مراكز صناعة النسيج في الغرب الإسلامي، فيكاد لا تخلو قرية ولا مدينة إلا وكانت بها فئة تمارس النسيج، سواء في الجبال أو الوديان أو الصحاري أو على ضفاف البحر والمحيط؛ مما أدى لظهور بعض التجمعات الكبرى، وبخاصة حول الحواضر والمدن لتجميع الغَزْل من المناطق المحيطة، كما حول الناحية الجنوبية من مدينة تُونس التي تُعرف ﺑ "مسبحة مقرين للغَزْل"، فكانت مستودعًا كبيرًا للغَزْل المتجمع من المدن والبوادي ولمعامل ومصانع الغَزْل المختلفة، لتُعَدَّ وتدخل مرحلة التصنيع، وقد حرصت السلطة على حماية هذا الموضع لأهميته الصناعية والتجارية. كما كان لصُناع الغرب الإسلامي ـ في بعض المدن ـ شاراتٌ خاصة بهم تميزهم؛ فكانت لكل صنعة شارة تميزها عن غيرها، وتبرز كل فرقة من أهل الصِّناعة عن الأخرى خاصة عند الاقتضاء والنزاعات التي قد تنشب بينهم، والشارة عبارة عن علم يحمل شعار كل صنعة وما يناسبها.
ويرصد هدية كيف أن بلدان الغرب الإسلامي تميزت بإنتاج أنواعٍ معينة من المنسوجات اختلفت عنها في باقي المدن؛ فانتشرت العديد من مراكز الصناعة، التي لاقت شهرةً واسعة، بإنتاجها نوعياتٍ فريدةً ومتميزة خاصة مراكزها الحريرية، بإنتاج المنسوجات الحريرية، كالقَابِسي، والتلمساني، والثياب السفسارية، والوطاء البسطي، والثياب السرقسطية، والحرير السيراكوزي، فضلًا عن مراكزها الصوفية، فمن جملة الثياب الصوفية التي عُرف بها الغرب الإسلامي الثياب السوسية، والأكسية العبيدية، وثياب الصوف التلمسانية، والقماش الدرجيني، الأشكري أو الإشكرلاط، والوطاء الجنجالي، والبسط التنتالية. وكذلك مراكزها القطنية، فصنعت جملة من المنسوجات القطنية كالقماش السفساري. هذا بخلاف مراكزها الكتانية، التي انتشرت في العديد من المناطق فأنتجت، كالقماش الأفريقي الذي اعْتُبر من أحسن كساوي المغرب، والثياب السوسية المهدوية، والثياب الرفيعة السوسية، بالإضافة للمناديل المقاوِمة للنار من الكتان باستخدام نوع من الحجارة عرف ﺑ "تاوطغيت" في درعة، كما بيع بأسواق نكور نوع من البرانس المقاومة للماء.
ويوضح أن دُور الطِّراز في الغرب الإسلامي انقسمت إلى: الطِّراز الخاص، وهو ما خُصص إنتاجه للخلفاء والملوك. والطِّراز العام ووُجِّه إنتاجه لعامة الناس والبلاط أيضًا، وكلاهما خضع للمراقبة من قِبَل السلطة، حتى تستطيع تلبية احتياجات المجتمع الغرب إسلامي من منسوجات وثياب.
ويفيد هدية أن بلدان الغرب الإسلامي انتشرت بها العديد من الأسواق التخصصية للنسيج في مدنه وقراه، وكان من أشهرها: أسواق الغَزْل، وأسواق الأقمشة الصوفية وأسواق الصباغين والخياطين والبزازين والثياب والقراقين، والوزر، وأسواق الرهادنة، وسوق الجبة، والقشاشين، والأبارين، والمغازل، وخيوط الكَتَّان، والحرارين، والمركطين. وخُصِّص في بيع الثياب المستعملة الهبط، وسوق الورقة الذي خُصِّص لتهيئة ورق التوت، وسوق التيالين وهو السوق المخصَّص لصناعة الغرابيل، بالإضافة لسوق البز، وربض الطرازين، وسوق الخيط، وسوق القرمز، وسوق السقاطين. ومن جانب آخر فأن الحركة التجارية في الغرب الإسلامي اتسمت في بدايتها بنوع من البطء التجاري الذي لم يُساير القوى التجارية الموجودة آنذاك؛ مما دفعها لأن تلعب دور الوسيط التجاري في العديد من المُبادلات التجارية بين البلدان الأِفْرِيقِيَّة والغرب المسيحي؛ حيث قامت مُدن المغرب الأقصى بهمزة الوصل بين السودان والعالم الخارجي، وظلَّت علاقاتها التجارية مع الغرب المسيحي مفعَّلة وسارية رغم فتورها في بعض الأوقات.
ويلفت إلى أن التواصل التجاري للنسِيج للغرب الإسلامي امتدَّ إلى بلاد الهِنْد والصِّين، وساعد على هذه الصلات التجارية بعض المُدن المشرقية، التي لعبت دور الوسيط في بعض الأحيان كمدينة البَصْرة العراقية. وأيضا كان هناك وجود لعلاقاتٍ تجارية رصينة منذ زمنٍ طويل مع مصر تركزت على المواد الخام النَّسيجية من كتان وحَرِير، بالإضافة إلى المَنْسوجات الأخرى، عن طريق موانئ الغرب الإسلامي والموانئ المصْرية وبخاصة الإسكندرية.