محمّد السادس والقدرة على المبادرة

ذهب العاهل المغربي الى الحسيمة ليؤكد أمورا عدّة. في مقدم هذه الامور انّ الاستقرار خط احمر في المغرب وان لا مجال لقبول أي تجاوز للقانون او اعتداء عليه.

هناك عناوين كثيرة لخطاب عيد العرش الـ19 في المغرب. كان خطاب الملك محمّد السادس في المناسبة من النوع الشامل الذي عكس همّ العاهل المغربي منذ صعوده الى العرش في مثل هذه الايّام من العام 1999. همّه الاوّل والأخير المواطن المغربي وكيفية تحسين ظروفه والعمل من اجل الانطلاق بالمغرب في اتجاه آفاق جديدة تكرّس دوره على كلّ صعيد، خصوصا في مجال الحرب على الفقر التي يرى فيها محمّد السادس أولوية الاولويات. 

من بين العناوين المهمّة في خطاب العرش، المكان الذي القي منه. اختار العاهل المغربي  ذكرى عيد العرش ليزور مدينة الحسيمة في الشمال المغربي. ذهب الى الحسيمة ليؤكد أمورا عدّة. في مقدم هذه الامور انّ الاستقرار خط احمر في المغرب وان لا مجال لقبول أي تجاوز للقانون او اعتداء عليه. الاهمّ من ذلك كلّه ان العاهل المغربي اكّد انّه يتفهّم جيدا كلّ ما يمكن ان يعاني منه المواطن في منطقة معيّنة. الملك ليس بعيدا عن هموم المواطنين بغض النظر عن المنطقة التي ينتمون اليها، بل لديه حساسية زائدة لأي اذى يلحق باي مواطن. لذلك قال: "إن الوطنية الحقة تعزز الوحدة والتضامن، وخاصة في المراحل الصعبة. والمغاربة الأحرار لا تؤثر فيهم تقلبات الظروف، رغم قساوتها أحيانا. بل تزيدهم إيمانا على إيمانهم، وتقوي عزمهم على مواجهة الصعاب، ورفع التحديات .وإني واثق أنهم لن يسمحوا لدعاة السلبية والعدمية، وبائعي الأوهام، باستغلال بعض الاختلالات، للتطاول على أمن المغرب واستقراره، أو لتبخيس مكاسبه ومنجزاته. لأنهم يدركون أن الخاسر الأكبر، من إشاعة الفوضى والفتنة، هو الوطن والمواطن، على حد سواء.
"وسنواصل السير معا، والعمل سويا، لتجاوز المعوقات الظرفية والموضوعية، وتوفير الظروف الملائمة، لمواصلة تنفيذ البرامج والمشاريع التنموية، وخلق فرص الشغل، وضمان العيش الكريم."

لم يترك العاهل المغربي تفصيلا الّا وتعرّض له في خطابه. المدرسة كانت ولا تزال هاجسا لديه. يعرف محمّد السادس اهمّية التعليم ويعرف جيدا، مستندا الى دراسات طلبها وتوافرت لديه، اين تكمن المشكلة. لذلك خصص للمدرسة جزءا من خطابه داعيا الى الاهتمام بالتعليم الرسمي ومستواه وكيف الحؤول دون أي تهرب من الذهاب الى المدرسة. ذهب الى ابعد من ذلك بالحديث عن نوعية المطاعم في المدارس وعن المدارس الداخلية نفسها وعن مشكلة النقل التي يواجهها الطلاب. يشير ذلك الى حرص على التعاطي مع التفاصيل عندما يتعلّق الامر بالمدارس وبالجيل الجديد في المغرب وكيف تنشئة هذا الجيل. عندما يترك قسم من هذا الجيل ضحية لمدارس غير لائقة، لا يعود مستغربا ان يجد التطرف بيئة حاضنة له لدى شباب جاهل لا يعرف شيئا عن العالم ولا يعرف كيف يجد وظيفة له.  

في نهاية المطاف، ان ملك المغرب يبني منذ تسعة عشر عاما دولة عصرية. في عماد كلّ دولة عصرية المدرسة والبرامج التعليمية. لا يمكن ترك ايّ شيء للقدر والصدفة. لا بدّ من معالجة كلّ المشاكل بطريقة علمية بعيدا عن الاتكالية. من هذا المنطلق، تطرّق خطاب عيد العرش الى التنمية البشرية و"النهوض برأس المال البشري". تطرق الى الضمان الصحي وكيف يجب ان يستفيد كلّ مغربي من "التغطية الصحّية". لم يهمل قضية المياه وضرورة متابعة انشاء السدود في بلد ترتسم فيه الابتسامة على وجوه جميع المواطنين عندما تمطر السماء.

من الضروري أيضا تسهيل الاستثمار. كذلك من الضروري تطوير اللامركزية. ليس هناك اكثر من محمّد السادس يعرف ماذا يريد المواطن المغربي وماذا يطمح اليه وما الذي يفكّر فيه. هناك تجديد لفعل الايمان بالمغرب والشراكة القائمة بين الملك والمواطن. ليس أوضح من ذلك اكثر من قول محمّد السادس:  "ان تحقيق المنجزات، وتصحيح الاختلالات، ومعالجة أي مشكل اقتصادي أو اجتماعي، يقتضي العمل الجماعي، والتخطيط والتنسيق، بين مختلف المؤسسات والفاعلين، وخاصة بين أعضاء الحكومة، والأحزاب المكونة لها.
"كما ينبغي الترفع عن الخلافات الظرفية، والعمل على تحسين أداء الإدارة، وضمان السير السليم للمؤسسات، بما يعزز الثقة والطمأنينة داخل المجتمع، وبين كل مكوناته. ذلك أن قضايا المواطن لا تقبل التأجيل ولا الانتظار، لأنها لا ترتبط بفترة دون غيرها. والهيئات السياسية الجادة، هي التي تقف إلى جانب المواطنين، في السراء والضراء. والواقع أن الأحزاب تقوم بمجهودات من أجل النهوض بدورها. إلا أنه يتعين عليها استقطاب نخب جديدة، وتعبئة الشباب للانخراط في العمل السياسي، لأن أبناء اليوم، هم الذين يعرفون مشاكل ومتطلبات اليوم. كما يجب عليها العمل على تجديد أساليب وآليات اشتغالها.
فالمنتظر من مختلف الهيئات السياسية والحزبية، التجاوب المستمر مع مطالب المواطنين، والتفاعل مع الأحداث والتطورات، التي يعرفها المجتمع فور وقوعها، بل واستباقها، بدل تركها تتفاقم، وكأنها غير معنية بما يحدث.
"إن الشأن الاجتماعي يحظى عندي باهتمام وانشغال بالغين، كملك وكإنسان. فمنذ أن توليت العرش، وأنا دائم الإصغاء لنبض المجتمع، وللانتظارات المشروعة للمواطنين، ودائم العمل والأمل، من أجل تحسين ظروفهم.
"وإذا كان ما أنجزه المغرب وما تحقق للمغاربة، على مدى عقدين من الزمن يبعث على الارتياح والاعتزاز، فإنني في نفس الوقت،  أحس أن شيئا ما ينقصنا، في المجال الاجتماعي. وسنواصل العمل، إن شاء الله، في هذا المجال بكل التزام وحزم، حتى نتمكن جميعا من تحديد نقط الضعف ومعالجته".

في الواقع، يعكس الملك نبض الشارع من دون ان يعني ذلك انصياع الدولة ومؤسساتها لمنطق الفوضى والانفلات. هناك غد مشرق ينتظر المغرب الذي عرف دائما كيف يكون استثناء في المنطقة. يكفي لتأكيد ذلك ان المملكة استطاعت تجاوز مرحلة الانقلابات العسكرية التي أوصلت ليبيا والجزائر الى ما وصلتا اليه. إضافة الى ذلك، ان المغرب استطاع تفادي الوقوع في فخ "الربيع العربي" الذي عاد بالويلات على تونس.

استطاعت المملكة المغربية تفادي مرحلة الانقلابات العسكرية في سبعينات القرن الماضي. واجه الملك الحسن الثاني، رحمه الله، محاولتين انقلابيتين في صيفي العامين 1971 و1972. لم يغلق وقتذاك باب الديموقراطية تماما. على العكس من ذلك التقطت المملكة المغربية انفاسها شيئا فشيئا وصولا الى تولي معارض هو عبدالرحمن اليوسفي موقع رئيس الوزراء في السنوات الأخيرة من عهد الحسن الثاني.

لا داعي الى العودة الى السنة 2011 والى إقرار الدستور الجديد في الوقت الذي كانت المنطقة كلّها تغلي. ما لا مفرّ من الاعتراف به انّ محمّد السادس كان دائما ملكا مبادرا. ليس الدستور الجديد وليست الانتخابات التي جرت بعد إقرار هذا الدستور في استفتاء شعبي سوى مثل حيّ على ان المغرب ينتمي الى الدول الصاعدة. هذا لا يعني انّه لا توجد شوائب بمقدار ما يعني ان بناء الدول الحديثة يقوم على شراكة في العمق بين محمّد السادس والمواطن العادي. يظل في أساس هذه الشراكة الثقة المتبادلة بين القصر والمواطن من جهة وروح المبادرة لدى العاهل المغربي من جهة اخرى. هذه الثقة مكّنت المغرب من تفادي أزمات كثيرة. مكنته هذه الازمات التي استطاع تطويعها من ان يكون اكثر ثقة بنفسه وبمستقبل من دون اي عقدة من أي نوع كان. من يريد التأكد من ذلك يستطيع زيارة المغرب كي يرى بنفسه كلّ الأدلة على الاستثناء المغربي استثناء حقيقي.