محيي الدين خريف رائد شعر الأطفال في تونس

تجربة الشاعر التونسي في الكتابة للأطفال تعد تجربة ثرية لطولها الزمني من ناحية، وتعدد صورها وأشكالها من ناحية أخرى.

يعدُّ الشاعر التونسي الراحل محيي الدين خريف (1932 – 2011) واحدا من رواد أدب الأطفال ليس في تونس فحسب، ولكن في الوطن العربي بأكمله، فتجربته في الكتابة للأطفال تعد تجربة ثرية لطولها الزمني من ناحية، وتعدد صورها وأشكالها من ناحية أخرى، فمن حيث العمق الزمني تمتد تجربة خريف في الكتابة للأطفال لأكثر من ثلاثين عاما، بدأها بمقطوعاته الشعرية "الطفل والفـراشة الذهبية" و"أغاني الطفولة" اللتين صدرتا عام 1975، تلاهما "محاورات الأطفال" عام 1979، و"مسرحيات الأطفال" 1980، و"براعم الطفولة" 1992، و"محفوظات للأطفال" التي صدرت عن الدار العربية للكتاب بتونس بتوصية من وزارة الثقافة التونسية.

وهو بالإضافة إلى ذلك كان يعد برامج إذاعية للأطفال، وتوجتْ جائزة بلدية تونس لشعر الطفولة جهود محيي الدين خريف الأدبية للطفولة، ثم جاءت الجائزة التقديرية في الفنون والآداب التي تسلمها من الرئيس التونسي عام 1991 تتويجا لجهوده الأدبية جميعها والتي بدأها بديوانه الشعري "كلمات للغرباء" 1969، تلاه "حامل المصابيح"1970، و"السجن داخل الكلمات" 1975، و"مدن معبد" 1976، و"الرباعيات" 1976، و"الفصول"1980، و"طلع النخيل"، و"البدايات والنهايات" 1987.

ونتوقف أمام "محفوظات للأطفال" التي احتوت على ثلاث وعشرين مقطوعة شعرية معظمها يتغنى الشاعر فيها بالطبيعة ومفرداتها مثل: ورقة الخريف، والمطر، والقرية، والشاطيء، والنجوم، والغابة، والسنونو، والشتاء، والبجعة، والجداول الزرقاء، والحمل الصغير، والشجرة العجوز، وغيرها.

كما يتحدث في بعض المقطوعات عن الأشياء اليومية التي يراها الطفل أمامه، ويشاهدها بعينيه بصفة دائمة مثل: السيارة والكتاب. أما المقطوعات التي تعبر عن الأفكار المجردة (غير الملموسة أو المحسوسة من قبل الأطفال) مثل فكرة الوطن، أو الحرية، أو العدالة، فقد لاحظنا عدم وجودها بكثرة في مقطوعات الخريف هذه.

ومثل هذ المقطوعات التي كتبها خريف تصلح لسن معينة من سن الطفولة، قد تبدأ من السادسة إلى العاشرة، أو هي تناسب سن التلاميذ في المرحلة الابتدائية، يقول الشاعر في "البجعة":

تسبح مثل المركبة ** في رقصة محبَّبة

وخلفها صغارها **  تسبقها في الحلبة

فتارةً سابحةً ** وتارةً مرتقبة

ألوانها زاهية ** عيونها منقبة

حياتها وادعةٌ ** وعيشها ما أعذبه

أحببْ بها أحببْ بها ** قريبة مقرَّبة

كأنها تبحث عن ** ذخائر مُحتجبة

أما عن الموضوعات الدينية المناسبة لمثل هذه السن، فقد وجدنا مقطوعتين دينيتين هما: صلاة الصبح، واسمي محمد، يقول الشاعر في "صلاة الصبح":

لكَ اللَّه صليت فاقبلْ صلاتي

وكُنْ ملهمي لطريق النجاةِ

أنا الطفل وجهت وجهي وذاتي

إليكَ فكُنْ عُدَّتي في حياتي

أيا رازق الطير في الفلوات                      

ويا من له كاملات الصفاتِ

دعوتك يا صانع المعجزات

فباركْ أيا ربِّ في خطواتي

غير أن هذا لا ينفي صفة الرؤية الإسلامية الصافية والمعبرة عن التصور الإسلامي للوجود وللحياة وللكون والبشر، وللطبيعة على وجه الخصوص، لكون الشاعر يكتب معظم مقطوعاته في هذه المجموعة عن مفردات معينة موجودة في الطبيعة كما سبق القول، وعلى سبيل المثال يقول في ورقة "الخريف":      

سقطتُ إذ كنتُ بلا جَنَاحْ

سقطتُ لما هبَّت الرياح

وكنتُ قبل ذاك في الغصون

أجمل مني لم تر العيون

أزين الغابات والحقول

وأغمر الجبال والسهول

وأقبلَ الخريفُ بالضباب

فباعني للريح والتراب

ولعلنا لاحظنا أن ضمير المتكلم هو المتسيِّد في هذه المقطوعة، فورقة الخريف هي التي تتحدث عن نفسها، بينما يتحدث الطفل بلسانه في عدد من المقطوعات الأخرى مثل: من نافذتي، والكتاب، والشتاء، والكوخ، وجدتي، وقريتي.

يقول في "الشتاء":

أنا الصغير لم أزل ** يرهبني  الشتاء

بريحه وبرده ** والغيم في المساء

أحلم مثل قطة ** بالشمس والضياء

وألتقي  بمعوزٍ ** بات بلا كساء

فأطلب الاله وهـ ** ـو معدن العطاء

بالخير للجميع ** والسلام والصفاء

وأحيانا يكون الضمير جماعيا، فنكون أمام نشيد جماعي تردده مجموعة من الأطفال مثل نشيد "بلادنا"، ومقطوعة "في الشاطيء".

يقول في "بلادنا":

بلادنا جميلةٌ ** منظرها بديع

بلادنا خميلةٌ ** يسكنها الربيع

بلادنا أفياؤها الـ ** غصون والشجر

بلادنا جنينةٌ ** تضحك للمطر

بلادنا سفينة ** يركبها النهار

بلادنا يحبها * الكبار والصغار

نحن لها وهي لنا الـ ** ملاذ في الحياة

تربتها من عنبرٍ **  وماؤها فُرات

وأحيانا يكون الضمير محايدا، أو تنعدم الضمائر في مقطوعات أخرى مثل: المطر، والشجرة العجوز، حيث تعتمد المقطوعة على التأمل والوصف.

يقول الشاعر في "المطر":

يأتي المطرْ وينهمرْ

على البحار والجزر

فالعشب منه يزدهر

وكل حيٍّ  ينتظر

قد عمَّه خير المطر

ويعتمد الشاعر أحيانا على الحوار البسيط بين الطفل وأمه مثال ذلك مقطوعة "أمنا والنجوم" حيث يقول:

سألتُ أمي مرةً ** في وضح النهارِ

أين ترى تغيب تلـ ** ـك الأنجم الدراري

فهل لها دارٌ وهل ** تنام كالصغارِ

أم سافرتْ كزورقٍ ** يعبر في البحارِ

فخاطبتني أمنا ** بهيبة الكبارِ

مضتْ إلى غايتها ** تهفو إلى القرارِ

فالحِقْ بها إن شئت أو ** فابقَ هنا في الدارِ

اعتمد الشاعر على الشكل التقليدي في كل مقطوعاته الشعرية في هذه المجموعة، بل إنه لجأ إلى مجزوءات البحور الأمر الذي أتاح ظهور الموسيقى والإيقاع على النحو المطلوب للتأثير الشعري والنغمي أو الموسيقي في الطفل، ومن أهم المجزوءات التي اعتمد عليها الشاعر في مقطوعاته تلك، مجزوء الرجز المعروف بثرائه الموسيقي، وجاءت منه 18 مقطوعة، بينما جاءت بقية المقطوعات من المتدارك (مقطـوعتان) والمتقارب (مقطوعتان) والهزج (مقطوعة واحدة).

ومن ملاحظاتنا الشكلية على هذه المقطوعات وجود مقطوعتين بعنوان واحد، هما المقطوعتان الثالثة والثامنة عشرة، وعنوانهما "المطر"، فلئن كان العنوان مناسبا للمقطوعة الثالثة (وقد سبق أن أوردناها كاملة)، فإن هذا العنوان لا يتناسب مع المقطوعة الثامنة عشرة، وأعتقد أن هناك خطأً مطبعيًّا قد حدث في عنوان هذه المقطوعة، وأن العنوان الأنسب لها هو "السحب" وليس المطر الذي لا يوجد له أي ذكر إن تلميحا أو تصريحا في هذه المقطوعة، وعلى الرغم من أن السحب لا يوجد لها ذكر صريح في هذه المقطوعة إلا أن مجموعة الصفات التي قدمها الشاعر في هذه المقطوعة تنطبق على السحب، يقول الشاعر:

تنسج من  خيوطها ** ستائرا بيضاء

شباكها من  فضةٍ ** ترمي بها السماء

تغمر وجه الأرض بالـ ** نعيم  والعطاء

إن ذُكر الصفاء فهـ ** ـي الخير والصفاء

أو شحت السماء فهـ ** ـي الجود والرخاء

يرقبها الفلاح في ** الصباح والمساء

فهي الحياة دائما ** والخصب والنماء

ويلاحظ أن مثل هذا النوع من المقطوعات الشعرية يصلح لأن يندرج تحت تصنيف (الفوازير الشعرية للأطفال) حيث لا يذكر اسم الموصوف صراحة، ولكن يترك لخيال الطفل تصوره عن طريق مجموعة الصفات التي يقدمها الشاعر.

ومن الملاحظات الشكلية على الكتيب الذي يحوي هذه المقطوعات عدم وجود ترقيم للصفحات. وقد حاول الناشر إدخال عنصر التلوين والرسم المعبر والمصاحب لعدد من المقطوعات إلا أن هذا لم يتكرر مع كل المقطوعات من ناحية، ومن ناحية أخرى فقد جاء عنصر التلوين والرسم ـ في معظمه ـ فقيرا لا يتناسب مع الجهد الشعري المبذول.

إن عنصر التلوين والرسوم المصاحبة للعمل الشعري المقدم للأطفال يعد من العناصر المؤثرة والمكملة للعمل الإبداعي، وبدونه يفقد العمل بعض قيمه الفنية. وقد كان خط اليد المستخدم في كتابة المقطوعات جميلا وملائما، وهو عندما يجيء كذلك يكون عنصرا فعَّالا ومؤثرا وناجحا في توصيل المعنى المراد أكثر من خطوط أو أبناط المكائن أو الكمبيوتر، الجافة الخالية من الروح والإحساس والجمال البشري المبدع.