'مدافع آية الله.. قصة إيران والثورة'

محمد حسنين هيكل يركز في كتابه على أسباب سياسية واجتماعية حولت طهران من حليف استراتيجي للولايات المتحدة إلى دولة معادية ترفع شعار "الموت لأميركا".

منذ أيام أعطى الرئيس الأميركي دونالد ترامب إيران مهلة ستين يوما للتوقيع على اتفاق جديد لتفكيك برنامجها النووي وإنهاء الحلم الإيراني في الانضمام إلى نادي الكبار. بالتزامن ارسلت أمريكا بوارجها وحاملات طائراتها إلى الساحل اليمني واعلنت عن عملية عسكرية ضد جماعة أنصار الله الحوثي حليف النظام الإيراني بالمنطقة حتى يزول خطره في البحر الأحمر. بعدها استعرض ترامب بزهو قدرات أمريكا العسكرية التي لا مثيل لها بالعالم على حد وصفه وتحدث عن تدشين الجيل السادس من الطائرات الشبحية أف 47 متباهيا بقدرتها الامحدودة. وهو لا يكل ولا يمل من تحذير النظام الإيراني أنه أقرب من أي وقت مضى لتلقي ضربة موجعة وصادمة لمنشآته الحيوية وقدراته العسكرية ستعيده عشرات السنوات إلى الوراء. فلم يعد النظام في عهده يعتمد على سياسة العصا والجزرة الذي اعتمدها لسنوات، بل أصبح يهدد بشكل صريح كل من يحاول الخروج عن رؤيته لمنطقة الشرق الأوسط، والوعيد بفتح أبواب الجحيم على المارقين من وجهة نظره، كما سبق أن صرح من قبل.

فهل أصبح النظام الإيراني قاب قوسين أو أدنى من دخول حرب ربما لا يستطيع تحمل عواقبها؟ وما هي الأوراق المتبقية للجانب الإيراني بعد خسارة نفوذه في سوريا ولبنان؟ وبعد التقارب الأميركي الروسي في محاولة لإنهاء حرب أوكرانيا التي أستمرت لفترة أطول مما يحتمل الجميع. فصارت أولوية على الأجندة الروسية والأميركية على حد سواء مع توافق الرؤى بينهما.

من جانبها كشفت إيران عن مدينة صاروخية  كاملة تحت الأرض تابعة للقوات الجوفضائية للحرس الثوري الإيراني، تعيد للأذهان المقاطع المصورة التي أعلن عنها حزب الله في لبنان، وبعدها بأيام اغتيل أمينه العام السيد حسن نصر الله، ثم خليفته السيد هاشم صفي الدين.

الاعلان الإيراني جاء من قبل وكالة مهر للأنباء مصحوب بتصريحات لرئيس الأركان محمد باقري والذي أعلن أن المدينة واحدة من مئات المدن الموجودة تحت الأرض في إيران وتحوي صواريخ باليستية تعمل بالوقود الصلب وقادرة على الوصول إلى أهدافها بسرعة فائقة ودقة عالية.

فهل أتخذ قرار بالمواجهة في إيران وأوصد الباب أمام الدبلوماسية في وجه رسائل ترامب بغير رجعة ؟ هل هو الرد الأخير بعد إعلان المرشد علي خامنئي أن أميركا ستتلقى صفعة إيرانية إذا ما حاولت التلاعب بإيران أم أن النظام الإيراني مازال يناور للحصول على شيئا ما ؟

وسط هذا الجدال المحتدم في هذا المشهد المتسارع، نلقي الضوء على أسباب العداء بين الجانبين والذي قارب على نصف قرن من الزمان وإن كانت جذوره تمتد إلى ما هو أبعد من ذلك. لنستشرف المستقبل ونقيم الموقف على ضوء ما حدث وما يمكن أن يحدث في الأيام القليلة القادمة.   

في كتاب محمد حسنين هيكل "مدافع آية الله قصة إيران والثورة" والذي كتبه باللغة الإنكليزية للقاريء الغربي، ذلك القاريء الذي كان متلهفا بعد قيام الثورة في إيران لمعرفة حقيقة ما حدث في يناير/كانون الثاني 1978 واستمر بالتصاعد حتى بلغ ذروته في فبراير/شباط من العام التالي. ليتبادر إلى الذهن سؤال ملح. ما الدوافع والأسباب التي حولت بلاد فارس الحليف الإستراتيجي للولايات المتحدة الأميركية والمعسكر الغربي إلى دولة معادية، ترفع شعار الموت لأميركا ؟

يأخذنا هيكل مباشرة إلى بؤرة الحدث وحوار مطول أجراه مع الإمام آية الله الخميني بمنفاه في فرنسا ديسمبر/كانون الاول 1978 قبل أن تنتصر الثورة وتطيح بالشاة بعدها بثلاث شهور. كي يسأله عن الأسئلة الصعبة وقد رأى أن الإمام يقوم بدور المدفعية البعيدة التي تدك الحصون من بعيد، لكن كما هو المتعارف عليه في العلوم العسكرية يحتاج إلى جنود المشاة ليبسط نفوذه وسلطته على الأرض، وهو ما لم يكن قد تبلور بعد في ذلك الوقت. والعجيب أن الإمام لم يكن لديه ردا مقنعا بالنسبة للعديد من التساؤلات. فوسط كل هذا الصخب الدائر، كان هناك العديد من التناقضات بدت واضحة وتحتاج إلى أجوبة.

فما بين رجال الدين ورجال السياسة مسافات شاسعة في الرؤى والافكار، وما بين من يناضلون من الخارج ومن يتحملون الطغيان بالداخل لابد من طرح سؤال من له الحق والاولوية في تصدر المشهد بعد نجاح الثورة ؟

كان هناك تناقض ما بين فكرة الدين وهي شاملة، وفكرة الوطنية وهي محدودة. وتناقض آخر بين ما يحدث في إيران من بركان على شفا الانفجار وما يدور في دول الجوار التي تنظر لما يحدث بكثير من الشك والريبة. التناقض بين الأحلام وواقع الحال على الأرض في وجود أقليات في إيران تستحق نظرة اهتمام واحترام. وتناقض آخر بين فكر الجماعات الثورية، والمؤسسات الحكومية والاجهزة الأمنية والقوات المسلحة التي تسيطر على الأرض بشكل تام.

كان الإمام الخميني في العقد الثامن من عمره في ذلك الوقت، فلم يقدم لهيكل إجابات شافية عن هذه التساؤلات وبعد نجاح الثورة، تحولت هذه التساؤلات إلى هم إيراني يتصاعد ومشاكل لا حصر لها في الداخل وفي محيطه الإقليمي أثرت على أهداف الثورة وربما جعلتها تخرج عن مسارها الصحيح. 

يخرجنا الكتاب من الحيرة والدهشة من سقوط النظام رغم كل هذه التناقضات، إلى حدث يعود لفترة زمنية أبعد، يعيد ترتيب المشهد بطريقة أكثر وضوحا وسلاسة. 

بدأت القصة عندما عقدت كلا من بريطانيا وروسيا إتفاقا عسكريا لدخول إيران في أغسطس/آب 1941 من خلال تفاهمات بينهما تسهل حركة النقل خلال الحرب العالمية الثانية التي كانت على أشدها، فتحولت انظار العالم إلى إيران ذلك البلد الفقير في ذلك الوقت والذي لا يملك سوى موقع فريد يعد جسرا وممرا هاما لنقل البضائع، فتحولت إيران بين ليلة وضحاها إلى بؤرة صراع خاصة مع تحليق النسر الأميركي الذي تحول إلى قوة عظمى بموارد لا تنضب وهو يريد فرض سيطرته على النقاط الساخنة في هذا العالم.

ظهرت الولايات المتحدة الأميركية في هذا الوقت العصيب بوجه بريء سوقت له سينما هوليوود فاحسنت صنعا، كحامية للحريات ومبشرة بعصر جديد. بينما الروس غارقون في وحل ستالينجراد والإنجليز في رمال صحراء العلمين.

تحركت الولايات المتحدة نحو إيران في وقت كان فيه محمد رضا بهلوي ملكا بلا خبرة ويعلم جيدا عداء شعبه للإنجليز والروس على حد سواء. أعتقد الملك الشاب أن الرهان على أمريكا، رهان على جواد رابح. استغل الأمريكان حماسه واستمعوا إليه باصغاء واهتمام شديد من خلال سفيرهم ليلاند . ب . موريس ودعموا وجودها في إيران ب 28 ألف جندي، الظاهر أنهم يمدون يد المساعدة للقوات الروسية في الحرب، لكن هذا لم يكن كل شيء. كانت القوات الأميركية تقوم بالعديد من الخدمات على الأرض من تعبيد للطرق وإنارة وخدمات طبية. وتعيين عدد من المستشارين في مناصب تخص الاقتصاد والجيش والخدمات الأمنية. وسط قبول شعبي واسع.

عقد مؤتمر طهران في ديسمبر/كانون الاول 1943 برعاية بريطانيا وروسيا وأميركا وصدر اعلان وقع من تشرشل وستالين وروزفلت يمهد للانسحاب في ستة أشهر بعد انتهاء الحرب. وضعت الحرب أوزارها في الثامن من مايو/حزيران 1945 واعلن الحلفاء انتصارهم فبدأت الحكومة الإيرانية في مناقشة مسألة الجلاء لقوات الحلفاء، والمح السفير الإيراني لدى واشنطن أن القوات الأميركية مازال مرحب بها نظير ما تقدمه من خدمات عظيمة للدولة والشعب. دب الخلاف بين الحلفاء فالاتحاد السوفيتي لديه حدود مشتركة مع إيران تصل إلى ألف ميل، ويعتبر إيران منطقة نفوذ طبيعي له. ظهرت خلافات أخرى حول حقوق استغلال حقول النفط في الأراضي الإيرانية. كانت الولايات المتحدة تستعد لتحتل مكانة بريطانيا في الشرق الأوسط. وملف النفط في المنطقة على رأس أولوايتها. دخلت في شراكة مع الجانب البريطاني منذ العام 1928 إلا أنها بعد نهاية الحرب أرادت أن تبسط نفوذها بشكل فاعل على الأرض.

بدأ انتاج النفط في إيران يتعاظم فأصبحت تنتج أربع أضعاف انتاج العراق. ومصفاة عابدان في الجنوب الإيراني التي تقع تحت سيطرة الإنجليز تضخ نصف النفط القادم من الشرق الأوسط ما دفع الأميركيين للتحرك بسرعة والتفاوض مع رئيس الوزراء الإيراني لأخذ نصيب الأسد في عمليات التنقيب، بينما أراد السوفيت الاحتفاظ بنفوذهم في الشمال الإيراني والضغط على إيران لإبرام اتفاقات طويلة الأمد للتنقيب عن النفط في الشمال.

كانت الحكومات في إيران غير مستقرة مما زاد من إرباك المشهد، وتكالبت الدول الكبرى التي تريد إقتناص الصيد الثمين الذي لا يمكن الإستغناء عنه أو التفريط فيه. تولى محمد مصدق رئاسة الوزراء رغم معارضة الشاة فنال ثقة البرلمان الإيراني كان الرجل معارض للوجود الأجنبي وقد وجد فيه إهانة لشعب له تاريخ وحضارة عريقة يتم إستنزاف ثرواته من قبل الأجانب. قام مصدق في الشهر الأول من توليه المنصب بتأميم قطاع النفط، فخطط للإنكليز للانقلاب عليه باستخدام الجيش في العام 1952. وفشل الإنقلاب وأغلقت السفارة البريطانية فتوجه الإنكليز للحليف الأميركي الذي قام بعملية إستخباراتية سميت "أجاكس" أفرج عن وثائقها السرية في العام 2013 شملت كافة وسائل الاعلام، ورجال دين، وسياسة الذين تكاتفوا جميعا للإطاحة بمصدق واعتباره يمثل فكرا شيوعيا مدعوم من لإتحاد السوفيتي. مرت إيران بفترة عصيبة وهرب الشاة خارج البلاد وكاد مصدق أن يحكم قبضته إلا أن السفارة الأميركية قررت أن تشعل الأرض من تحت قدميه وأستخدمت كل عملائها لاخراج الوضع عن السيطرة حتى انتهى الأمر بعودة الشاة وتقديم مصدق للمحاكمة وتعيين فضل الله زهيدي خلفا له، بحلول 22 أغسطس/آب من العام 1952 كان كل شيء قد انتهى، حلفاء مصدق وأعوانه تم التنكيل بهم، ومن ساهموا في الانقلاب المضاد تم ترقيتهم.

حدث شرخ كبير في المجتمع الإيراني منذ ذلك الحين. تم معاقبة مدن كاملة على تأيدها لمصدق من قبل السافاك، قم، تبريز، شيراز وأصفهان. قام الشاه المنتشي بالانتصار والعودة إلى قصره بعقد صفقات مع الشركات الأميركية ليبدأ عهد جديد أصبحت فيه أميركا هي من تملك فيه زمام الأمور في إيران دون منازع.

حركة مصدق التي لم تكتمل أبدا كانت الوقود الذي فجر ثورة الخميني بعدها بعقود. لم تتوقف السفارة الأميركية عن لعب دور الناصح الأمين للشاة الذي أصبح أكثر خبرة بعد سنوات طوال أمضاها في الحكم. وسيطرت أجهزته الأمنية بشكل مطلق على كل شيء. فبدأ يتمرد بعدما ثبت سلطانه لدرجة أنه زرع جاسوس داخل السفارة الأميركية دون حساب للعواقب. ما جعل وليم سيمون وزير الخزانة في حكومة نيكسون يصفه أمام لجنة العلاقات الخارجية بالمهووس المصاب بجنون العظمة. هذا الخلاف ربما ساهم في سقوط الشاة الذي تأخر لأكثر من خمسة وعشرين عام.

كانت الثورة في إيران رد فعل طبيعي ضد استعمار استغل ثروته وبدد أحلامه في تأسيس دولة حرة وديمقراطية تحت ظل حكم طاغية. لكن النظام في إيران تحول إلى طوق يخنق كل من يحاول إظهار رأي مخالف لرأي المرشد السلطة الأعلى في البلاد، والذي يمثل سلطة فوقية لا يمكن المساس بها، حتى رئيس الجمهورية المنتخب من قبل الشعب لا يستطيع فرض إرادته، ظهر ذلك جليا في خطاب الرئيس بزشكيان الذي كان في أول الأمر منفتحا على حوار بلا سقف مع الغرب يستطيع فيه العبور ببلاده إلى بر الأمان، لكنه مع الوقت أصبح يدلي بتصريحات متناقضة وقد بدا أن ليس له من الأمر شيئا.