مدينتي تعدني بغيمةِ ضياء

الشاعرة مرام عطية تضعنا في مدينتها التي غمرها الخراب والموت والضياع والنفي والغربة، معتبرة أن العنوان يختزل الكثير من الدلالات.
لعبة لغوية استطاعت من خلالها الشاعرة أن تأخذنا إلى الفضاء الموبوء ورسمه بطريقة تكشف عن مقدرتها الأدبية في تصوير الواقع بهذا اللغة القريبة من المتلقي
النصّ يصوّر لنا بطريقة رائعة محنة الإنسان وصراعه مع قوى الشرّ والظلام

بقلم: كريم عبدالله 

من العنوان - الذي يعتبر العتبة الأولى في قراءة النصّ - تضعنا الشاعرة مرام عطية في مدينتها التي غمرها الخراب والموت والضياع والنفي والغربة. معتبرة أن العنوان يختزل الكثير من الدلالات وهو علامة دالّة على فضاء النصّ، فهو يلعب دورا محوريا في حركية وجمالية النصّ، فهو المفتاح الذي من خلاله سنطوف في مدينة الشاعرة لنرى ونسمع أصوات المحرومين وصور الدمار الذي لوّن حاراتها وعاث في شوراعها العامرة بالحياة وأفسد حقولها.
"مدينتي تعدني بغيمةِ ضياءٍ"، من خلال العنوان نجد عمق الظلام والجدب والقحط في مدينة الشاعرة، وفي الوقت نفسه، نحسّ روح الأمل في نفس الشاعرة باّنّ الغد سيحمل البشرى حين تمطر السماء مطراً – يبعث الحياة فيها من جديد ويعمّ الخير والإزدهار، وضياء – حيث يبدد هذا الليل الطويل والجهل المنتشر في ربوع الوطن نتيجة الحروب والفتنة والتطاحن بين أبناء الوطن الواحد. فلو تتبّعنا المفردات الدالّة على الوطن والتي من خلالها نجد هذه الرسالية الجماهيرية – الاجتماعية حاضرة وبقوّة لدى الشاعرة من خلال قاموسها المفرداتي، فمثلا نجد / مدينتي – قريتي – الصنوبر – الزيتون – المدينة – مدينة – مدينتي – الطريق – الحيّ – أشجار الحور – السنديان – التين – الأرض – المنازل – أسقف البيوت – حدائقها – دورها – الأرصفة – الخيام – الوطن / جميعها عبارة عن كائنات محسوسة أو هي عبارة عن كائنات غير محسوسة / معنوية / تدلّ بقوة وصراحة عن الوطن وتعبّر أصدق تعبير عن محنة هذا الوطن والإنسان. 
إننا أمام لعبة لغوية استطاعت من خلالها الشاعرة أن تأخذنا الى هذا الفضاء الموبوء ورسمه بطريقة تكشف عن مقدرتها الأدبية في تصوير الواقع بهذا اللغة القريبة من المتلقي. 
"امسحْ دمعتي، وضمَّني لصدركَ أيُّها المطرُ الدافئُ القادمُ من أقاليمِ الغدِ، فقدتُ آخرَ كسرةٍ من الرضى، وأوَّل حفنةٍ من الحبورِ تزوَّدتُ به من قريتي الموشومةِ بالشَّوقِ، المسيجةِ بالصنوبر والزيتون، حين وصلتُ إلى تخومِ المدينةِ الأمِّ، كأنَّ الحربَ لم تنتهِ بعد أكثرَ من سبعِ سنواتٍ، ياللهولِ! ما أطولَ ذيلها!! كأنه أفعى تنفثُ السمومَ". 
بهذه اللغة الهامسة تخاطب الشاعرة / الوطن – الحبيب – الزوج – الابن – الزمن ... لم تصرّح الشاعرة عمّن سيمسح دمعتها ويعيد إليها الدفء والرضى وحفنة حبور من بعد هذا الحرب الطويلة – سبع سنوات – ما أطول أيامها / الحرب – الأفعى / وما أقسى سمومها حين سمّمت الحياة بكل هذا الخراب! 
وفي مقطع آخر تأخذنا الشاعرة إلى عالمها:  

مدينتي الملوَّنةِ بقزحِ الحبِّ
مرام عطية

"أنا في باصٍ آخرَ ومدينةٍ لا تشبهُ مدينتي الملوَّنةِ بقزحِ الحبِّ، والطريقُ بين حيٍّ وآخرَ يستطيلُ أكثر من أشجارِ الحورِ مع قصر المسافةِ، والخرابُ يقتحمُ عينيَّ، متجذراً لا يغادرُ كالسنديان والتينِ في الأَرْضِ، نافذتي الشفافةُ تقرأُ أرشيفَ الحربِ المسجلَ على جدرانِ المنازلِ المثقوبةِ بالرصاصِ كغربالٍ بثقوبٍ واسعةٍ، وأسقفُ البيوتِ المهدَّمةُ تقصُّ عليكَ حكايةَ حربٍ عالميةٍ ثالثةٍ، وحدائقُها المقفرةُ الشَّاحبةُ تحدِّثكَ عن أناسٍ عاشوا فرح العمرِ هنا ثُمَّ غابوا".
إنها رحلة في ربوع الزمن والأيام الضائعة في هذا الوطن، حيث التجوال ورؤية ما عمّ فيه بسبب الحرب وقسوتها على الإنسان والطبيعة، على الحياة والجماد والأرض والسماء، إنها لوحة مشحونة بالألم العميق والرؤية المظلمة لهذا العالم وفي هذا الزمن الملعون واختفاء الأحبة من على مسرح الحياة بعدما التهمتهم هذه الافعي – الحرب – وغيّبتهم وغيّبت حتى ذكرياتهم وملامحهم الجميلة. 
"الأراجيحُ تنشجُ، تستوقفُ المارينَ، تسألُهم عن أطفالٍ كانوا يمرحونَ بين صفوفها، كما تنبئني دورها المتلاصقة عن طقوس الحبِّ والتآلفِ بين أبنائها على اختلافِ مذاهبهم ومعتقداتهم، تعلِّلني بالأحلامِ، تعدني بغيمةِ ضياءٍ منكَ، تعيدُ المهجَّرينَ الذين يفترشونَ الأرصفةَ وخيامَ الذلِ في بلدان العالم إلى حضنِ الوطنِ الحبيبِ، بغيمةٍ إنسانيةٍ تنصفُ العلماء والمبدعينَ، تشيدُ هرمَ الجمالِ سامقاً، يرتقي فيه العلمِ والأخلاقِ قمةَ الهرمِ فيشبعُ الجياعُ ويسعدُ الضعفاءُ". 
لقد استطاعت الشاعرة من خلال هذا النصّ تطويع اللغة واختزالها عن طريق تكثيفها وبثّ الحياة في مفرداتها، فكانت لغة إيحائية متفجّرة سردية لا بمعني الحكائية أو القصّ وإنما سرد يمانع السرد تزاح فيه اللغة كثيرا وتتشظّى بعيدا عن واقعيتها. 
إنّ هذا النصّ صوّر لنا بطريقة رائعة محنة الإنسان وصراعه مع قوى الشرّ والظلام، نصّ يحمل من الجمال الشيء الكثير. صوت الشاعرة كان مقتدرا في حمل كل هذا الجمال. إننا نقف بخشوع أمام هذا الطوفان والتجلّي الجمالي والرسالي، حملت الشاعرة على كاهلها الهمّ الإنسانيّ وأبدعت أيما إبداع في هذه الرسالة الكبيرة .
النصّ :
امسحْ دمعتي، وضمَّني لصدركَ أيُّها المطرُ الدافئُ القادمُ من أقاليمِ الغدِ، فقدتُ آخرَ كسرةٍ من الرضى، وأوَّل حفنةٍ من الحبورِ تزوَّدتُ به من قريتي الموشومةِ بالشَّوقِ، المسيجةِ بالصنوبر والزيتون، حين وصلتُ إلى تخومِ المدينةِ الأمِّ، كأنَّ الحربَ لم تنتهِ بعد أكثرَ من سبعِ سنواتٍ، ياللهولِ! ما أطولَ ذيلها! كأنه أفعى تنفثُ السمومَ، الصبرُ لا يسمع صهيلي، غشى الضَّبابُ سماءَ الفكرِ، وأصيبتْ عينُ العدالةِ بالعمى، جلسَ الجاهلُ في مقعدِ العالم، والتهمَ الغني طعامَ الأيتامِ والأراملِ، عصافيرُ تتسوَّلُ تتشبثُ بمعطفي فينفضُ آخرُ ذرةٍ دفءٍ، يئدُ الفرحَ، ويرتدي التَّنهيدِ. 
أنا في باصٍ آخرَ ومدينةٍ لا تشبهُ مدينتي الملوَّنةِ بقزحِ الحبِّ، والطريقُ بين حيٍّ وآخرَ يستطيلُ أكثر من أشجارِ الحورِ مع قصر المسافةِ، والخرابُ يقتحمُ عينيَّ، متجذراً لا يغادرُ كالسنديان والتينِ في الأَرْضِ، نافذتي الشفافةُ تقرأُ أرشيفَ الحربِ المسجلَ على جدرانِ المنازلِ المثقوبةِ بالرصاصِ كغربالٍ بثقوبٍ واسعةٍ، وأسقفُ البيوتِ المهدَّمةُ تقصُّ عليكَ حكايةَ حربٍ عالميةٍ ثالثةٍ، وحدائقُها المقفرةُ الشَّاحبةُ تحدِّثكَ عن أناسٍ عاشوا فرح العمرِ هنا ثُمَّ غابوا، الأراجيحُ تنشجُ، تستوقفُ المارينَ، تسألُهم عن أطفالٍ كانوا يمرحونَ بين صفوفها، كما تنبئني دورها المتلاصقة عن طقوس الحبِّ والتآلفِ بين أبنائها على اختلافِ مذاهبهم ومعتقداتهم، تعلِّلني بالأحلامِ، تعدني بغيمةِ ضياءٍ منكَ، تعيدُ المهجَّرينَ الذين يفترشونَ الأرصفةَ وخيامَ الذلِ في بلدان العالم إلى حضنِ الوطنِ الحبيبِ، بغيمةٍ إنسانيةٍ تنصفُ العلماء والمبدعينَ، تشيدُ هرمَ الجمالِ سامقاً، يرتقي فيه العلمِ والأخلاقِ قمةَ الهرمِ فيشبعُ الجياعُ ويسعدُ الضعفاءُ .