مراسلات أومبرتو أيكو ومارتيني من أجل عالم أكثر إنسانية

الرسائل المتبادلة بين الكاتب والفيلسوف الايطالي اومبرتو ايكو والكاردينال كارلو ماريا مارتيني تحمل دفء العاطفة الإنسانية والاسئلة الوجودية المشتركة عن مصير الإنسان وعن حريته وخياراته والأسس الأخلاقية التي ينطلق منها كل من المؤمن والملحد للعيش المشترك.

هناك انطباع ربما يكون خاطئاً في أذهاننا عن الحوارات التي تجري بين رجل دين وكاتب علماني بأنها تحمل الكثير من الأفكار المفخخة التي تلغي الآخر وجوديا ً وإنسانيا، لكن السؤال هنا كيف يمكننا أن نقترب أكثر من الأخر المختلف لنرى أنفسنا، كيف يمكن لثقافة الإختلاف أن ترسخ وجودها الحقيقي لتبحث عن قيم إنسانية مشتركة تنهض بواقع الإنسان من البؤس واللاجدوى؟ 
قد يرى البعض إن فحوى الرسائل  المتبادلة بين الكاتب والفيلسوف الايطالي اومبرتو ايكو والكاردينال كارلو ماريا مارتيني ستتضمن إشكالات عنيفة في قلب الاختلاف الفكري بين كاتب يتبنى وجهة نظر علمانية، ورجل دين له ماله من اليقينات الراسخة في الماورائيات  واللاهوت.
 تحمل هذه المراسلات التي اقترحها فيرناندو ادورناتو مدير تحرير مجلة ليبرال عام 1995 دفء العاطفة الإنسانية، والاسئلة الوجودية المشتركة عن مصير الإنسان، عن حريته وخياراته في هذا العالم، عن الأسس الأخلاقية التي ينطلق منها المؤمن والملحد على حد سواء في رسم منظومة متكافئة للعيش المشترك. لم تكن مجرد مراسلات عابرة بين شخصين، بل أن الكثير منها تضمن أسئلة مستفزة للتفكير مثل سؤال الكاردينال مارتيني في رسالته أين يجد العلماني نور الخير؟
يتساءل مارتيني هنا عن المصدر الأسمى للأخلاقيات الذي يستند إليه الشخص العلماني  مالذي يحفزه بأن يتحلى   بمبادىء أخلاقية عظيمة، كالتضحية بالنفس؟

النهضة العلمية والفكرية للمجتمعات تتمخض عنها نهضة دينية ورؤية مختلفة للواقع البشري خارج مفهوم الغيبيات والمقدسات التي تخلق العنف

ما هو الدافع العميق الذي يؤسس السلوك الأخلاقي للعلمانيين دون وجود فكرة عليا متمثلة بالعقاب والثواب والحياة الأبدية 
يندهش الكاردينال مارتيني بأن الآخر يتجلى جزئيا ً في تفكيرنا، بغض النظر عن شعورنا تجاهه. وإننا قادرون على إيجاد أخلاق علمانية تكون صالحة لصناعة قيم مشتركة في الفضاء الإنساني، ثم يعبر عن رغبته العميقة في التعاون المشترك بين المؤمنين وغير المؤمنين لتطوير الطبيعة الإنسانية ومن ثم الوصول إلى العدالة والسلام متجاهلين أسباب التناقض والخلافات والمضي نحو أسرار تمنحنا الطمأنية والثقة للوصول إلى عالم أكثر إنسانية .
يجيب ايكو على سؤال الكاردينال أن الأخلاق تولد عندما يدخل الآخر المشهد دون أن ينسى البصمة الدينية التي أثرت فيه شخصيا ً عندما كان شابا.
 ويقترح مفهوم التدين العلماني الذي لا يقتصر على الدين فقط، وإنما على كل نوع مقدس، على شيء يتجاوز الطبيعة البشرية ويجعلها في موضع السؤال والمراقبة في غياب الإيمان بإله شخصي.
فحسب ايكو هناك دلالات شخصية وتعريفات أساسية مشتركة للنوع الإنساني تجعله أمام مسألة وجودية، فوجود الآخر ضمن نطاق حياتنا الشخصية وفي ذاكرتنا تبتكر لنا تعريفات حول المتعة والألم والخوف والحزن، وفي نفس الوقت توجد مفاهيم عالمية حول القيود.
 فنحن لا نرغب في أن يمنعنا أحدهم من الكلام أو الرؤية أو السمع، ونتألم عندما يجبرنا أحد على العزلة أويجرحنا، وتتقلص قدرتنا على التفكير عندما نتعرض لعذاب جسدي أو نفسي.

تؤسس لعقل تواصلي  يصنع مفاهيم ابداعية للاختلاف والتعدد داخل نسيج المجتمع وقوانين الدولة

هذه الدلالات يمكنها أن تصبح أساسيا ً أخلاقياً، إذا كانت مسبوقة باحترام الحقوق الجسدية للآخرين، ومنها حق التحدث والتفكير، وإذا كان بنو جنسنا قد احترموا الحقوق الجسدية للآخرين كما يقول امبرتو ايكو لما وقعت مذابح الابرياء في التاريخ وفي عصرنا الحديث.
إن المشهد الذي يرسمه امبرتو ايكو هو ليس آدم الحيواني الوحيد المقذوف في العراء وإنما هناك الآخر الذي يشكل أفكارنا وأراءنا أيضا ، فمثلما لا يمكننا أن نحيا دون أكل أو نوم لا يمكننا معرفة ذواتنا وفهما دون نظرة واستجابة من الآخر، حتى المجرم الذي يقتل ويغتصب  ويسرق يطلب من ضحاياه الاعتراف بالخوف والخضوع لكنه يعيش لحظات استثنائية يحتاج فيها للحب والاحترام والقبول من الآخرين.
إن إنسان الغابة الذي يقترحه أيكو يفقد انسانيته دون أن ينظر إلى الآخر،أو ربما يموت أو يصاب بالجنون.
تضمنت المراسلات أفكارا عميقة شكلت مساحة حوارية بين الطرفين، فنجد امبرتو ايكو يتحدث عن الكهنوت العلماني المهووس بنهاية العالم، من خلال الحروب والأمراض، والآيدولوجيات العرقية، والكوارث البشرية التي أصابت كوكب الأرض وستعجل في نهايته، ففكرة نهاية الأزمنة أصبحت أكثر شيوعاً اليوم في الدوائر العلمانية منها في الدوائر المسيحية.
 والحركات العلمانية لم يكن هدفها بلوغ ملكوت الله،وإنما بتحقيق ملكوت جديد على الأرض من خلال التعجيل بنهاية الزمن، وهي لا تفرق كثيرا عن الرؤية الدينية ليوم الحساب أو الدينونة في سفر الرؤيا
فكل ينبىء بالكارثة الوشيكة لكوكبنا، وكل لديه حربه في النهايات.  
تكشف لنا رسائل اومبرتو ايكو والكاردينال مارتيني عن فكرتين عميقتين، وهي أن النهضة العلمية والفكرية للمجتمعات تتمخض عنها نهضة دينية ورؤية مختلفة للواقع البشري خارج مفهوم الغيبيات والمقدسات التي تخلق العنف، كما أنها تؤسس لعقل تواصلي  يصنع مفاهيم ابداعية للاختلاف والتعدد داخل نسيج المجتمع وقوانين الدولة.