"مرايا" سعيد الرضواني في مرمى النقد

المجموعة القصصية تمتاز ببراعة السارد المتمثلة في بناء عالم فني قائم على لغة سليمة ناضجة، مستخدما في جل القصص ضمير المتكلم أسلوبا في سرد أحداثها.
اللغة تمتزج مع رصد الواقع والتقاط عناصره وجزئياته الفاعلة في الحياة
لم يشر الكاتب إلى الليل ولم يشر لمؤشر ذلك

المبحر في محيط المجموعة القصصية "مرايا" لكاتبها الشاب سعيد رضواني سيلاحظ أنها تمتاز ببراعة السارد المتمثلة في بناء عالم فني قائم على لغة سليمة ناضجة، مستخدما في جل القصص ضمير المتكلم أسلوبا في سرد أحداثها وما تحمله من تناقضات وسخريات ومفارقات تكشف (سيميائيا) جرأة السارد في الإفصاح عن نفسه وعن هواجسه وعن أحلامه بلغة قصصية حيادية تمتزج مع رصد الواقع والتقاط عناصره وجزئياته الفاعلة في الحياة (إنسان، حيوان، جماد...) لينبثق عنهما عالما يشكل رؤية القاص الخاصة به .
ولنتمعن في قصة "ذهاب وإياب".
المتن الحكائي :
إذا أردنا أن نعيد ترتيب النص زمنيا نجده يتلخص في كتابة قصة تدور أحداثها حول رحلة شاب صوب البادية قصد تفقد إرث هناك، هذا التفقد يصطحب معه استباق الزمن فيستحضر مرحلة الشباب لدى البطل ثم مرحلة الكبر وانتظار نفس المصير الذي لحق الأب المفترض سابقا وتهيمن تيمة الموت من البداية إلى النهاية، فيكون النص دائريا أو جاء بلغة باختين نص مبنين أي مغلق، بدايته موت ونهايته موت.
فضاء النص: 
يؤثث النص فضاء متنقلا، منعرجات الطريق وتراجع الأشجار السريع وقرص الشمس المسافر، أيضا مدخل درب يتجه مباشرة إلى الضيعة، ثم صفين من الصبار، هذا الفضاء يحيل على المجال الأخضر وكما قلت سابقا، تدور معظم الأحداث في البادية سواء على مستوى الاسترجاع flash back  أو على مستوى الاستباق الزمني الذي عجل بالنهاية التي بدأ بها النص.

الكاتب اعتمد في مجموعته هاته على الحلم والواقع والواقعية الرمزية والسخرية في البناء الفني

أزمنة النص : 
هذه النقطة تقودنا مباشرة لأزمنة النص والتي رسمت بشكل مباشر(الثانية عشرة - الرابعة بعد الزوال – سن العشرين - السابعة والخمسين - ثم العودة إلى سن السابعة والثلاثين أي عمر القاص أثناء كتابة القصة) والتي تفيد التدرج في الحياة والتي ستكون نهايتها الموت، لم يشر الكاتب إلى الليل ولم يشر لمؤشر ذلك، لأن الموت سينوب عن حضور الليل ليعلن النهاية، وقد لعب الزمن دورا مهما في بلورة الأحداث إذ بين الجانب العبثي لقيمة هذه الحياة التي تجتر نفسها وتعيد نفس الريتم ونفس التعاقب، حياة ثم موت، شباب ثم شيخوخة. وفي الأخير العودة إلى نقطة الانطلاق أي كتابة القصة.
الرؤية السردية : 
نحن بصدد نص سردي يدخل ضمن السير ذاتي، فالسارد هو الكاتب، ولذلك فالرؤية من الخلف طبعا فالسارد يعرف الكاتب والكاتب ينوب عن السارد في شرح الدواخل التي تستعصي عن سارد عادي.
ثم نحلق عبر الأثير لنستمتع بقصة البيت المهجور لنرى أين موضعها ومكانتها:
يدخل هذا النص السردي ضمن السير ذاتي وهذا يبدو واضحا من خلال ضمير المتكلم أنا (ألمح – فأمد - أفتح باب الحوش – أبعث - أصرخ...) وإذا أردنا أن نلخص المتن الحكائي نجده يتلخص في أزمة تفرد ووحدة يعيشها البطل، أزمة بيت مهجور إلا من صاحبه وبعض الكائنات الحية التي تعبر عن استمرار الحياة ببقاع منعزلة (الحمائم والغربان - الدجاجات والبط والديوك...) يحكي هذا النص قصة الإنسان في عزلته ويمثلها هذا الشيخ الهرم الذي تسنده عكازته وتصاحبه .
لغة النص : 
كانت لغة النص مثيرة إذ اعتمدت الانزياح والخرق، كما اعتمدت صورا استقتها من مجال الشعر فبدا الحكي حالما يداعب المتلقي، ومن أمثلة ذلك "وأمضي مكسرا أعناق الشيح والخبيزة. أبعث بنظرة فضول إلى أفراخ السنونو الصفراء الصغيرة التي تطل من العش الطيني) واللغة أيضا لعبت دورا كبيرا في الاستحواذ على عاطفة المستهلك الذي تجاوب إيجابا مع البطل في وحدته.
الخطاطة السردية: 
إذا أردنا أن نرسم خطاطة سردية لهذا النص نجد أن وضعية البداية وفيها يبين السارد الحالة الإجتماعية والصحية فهو كبير في السن يعاني الوحدة والعزلة والهجر.
العنصر المخل: 
يبدو العنصر المخل في هذا النص نفسيا يتعلق بالحالة المتدهورة التي يعيشها البطل فهو لا يجد إنسانا يكلمه وبدل ذلك يوزع البسمة على الحشرات "أبعث نحو الأسفل بابتسامة إلى نملة تنوء".
وضعية الوسط: 
يستمر فيها البطل في رسم الوحدة "تطالعني صورتي المائية وهالة ضوء".
عنصر الانفراج: 
يبدو الانفراج حين نجد السارد يقول: "أروي ظمئي بالماء وأروي فرحي بوجودي بتأمل صورتي التي تتأملني"، وهو الأمل الذي يراود البطل فيدرك أنه ما زال على قيد الحياة وأن العزلة لم تفلح في القضاء عليه نهائيا.
وضعية النهاية: 
لم تأت وضعية النهاية بجديد وإنما ظل البطل في وحدته لكن بحدة أقل وهكذا نلاحظ أن النص يراهن على البعد النفسي أكثر من أي جانب آخر، يراهن على العامل النفسي لهذا الإنسان الكبير السن الذي يتخلى عنه الواقع اللهم إلا بعض الجمادات المخلصة كالعصا مثلا التي ظلت سندا لهذا الوحيد، هذا النص يراهن على المستوى الفني أيضا وذلك بتوظيف شاعرية اللغة.
أما الحبكة المعتمدة في نسج الأحداث، فكانت تقليدية تعتمد مبدأ السبب والنتيجة.  ثم يعرج بنا السارد نحو قصة أخرى ليبرهن لنا - نحن القراء - كيفية علاجه للوقائع والأحداث ولنقرأ معه قصة دمية السيليكون:  

Literary criticism
السارد هو الكاتب

دلالات وأبعاد النص:
1 - الأبعاد الاجتماعية: 
وتتعلق برسم حياة اجتماعية لطبيب جراح وخطيبة تنتظر يوما يُدبر له في عام كامل، تتداعى الأفكار بواسطة مونولوغ داخلي لكلا الطرفين، الفتاة تفكر في يوم الخطوبة وهو لا يبالي بذلك بل يرحل إلى غرفة الجراحة المغلقة حيث المشرط ولوازم البنج، الغرفة التي يخطط فيها لتغيير شكل خطيبته. البعد الاجتماعي للنص يتمثل في نقل الهواجس التي تنتاب المتأهلين في عالم التخطيط والعولمة. 
2 -  الأبعاد النفسية: 
تتمثل الأبعاد النفسية في محاربة الكبر والترهلات إلى آخر رمق، تلميع الصورة عند المرأة ظاهرة نفسية ترافقها مدى الحياة، والدليل على ذلك عمليات التجميل التي يرسمها النص بكل أمانة التي لا تعارضها البطلة، عمليات متكررة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، ومحاولة إصلاح ما أفسد الدهر بالمشرط، تشبيب الوجه والجسد لبعث الحياة من جديد.
القوى الفاعلة التي حركت السرد:
الكل يعرف أن القوى الفاعلة لا تكون بالضرورة شخوصا إنسانية، فقد تكون جمادات وقد تكون أمكنة وقد تكون قيما وأنساقا فكرية وقد تكون مؤسسات، مثلما أن القوى التي حركت النص كانت جمادات (المشرط - الحقن - السليكون - المحفة - الشوكات - الأسنة).
وتتجسد الشخوص الآدمية من خلال ما يدل عليها من أوصاف، والأمر يتعلق بالمرأة، ومن بين ما يدل عليها (النهود النائمة - أُجمل الوجه - فيترهل البطن - أُجمل البطن فتترهل الأرداف - أُجمل الأرداف فتترهل السيقان). 
هذا النص السردي يعكس هواجس العصر الحديث، يجسد هلوسة الجسد الذي يحلم بالشباب الدائم، وقد بين النص استحالة ذلك لأن الزمن له لغته الخاصة .
وأما في قصة "المرآة" نجد أن النص نص سردي يعكس الحالة النفسية للبطل، فهو مرآة يبين صورة إنسان تعود نسيان واقعه المرير بالهروب عن طريق الشرب "كان شاردا لأن القارورة التي رأى لم تكن بالأمس هناك". القارورة مؤشر ينم على شرب إكسير النسيان، ومن بين المؤشرات التي تدل على مضرة ما في القارورة "رأى سائلا أصفر في جوفها ... رأى جمجمة وعظمتين متقاطعتين".
مرآة تعكس وضعا مزريا يتخبط فيه البطل، العزلة والوحدة وقلة السند.
البطل لم يعد يرى وجهه كالمعتاد لقد بات غريبا عن نفسه لأنه يعيش تناقضا بين الذات والواقع.
كانت اللغة مباشرة في هذا النص اعتمدت أدوات النفي بكثرة، وكأن اللغة تساند البطل الوضع المأساوي الذي يعيشه.
وختاما فسعيد رضواني اعتمد في مجموعته هاته على الحلم والواقع والواقعية الرمزية والسخرية في البناء الفني. وقد ارتأيت ترك قصص أخرى ليكتشفها المتلقي بنفسه قصد الاستمتاع والاستكشاف لمساحات أفكار جديدة وملائمة عبر تقديم فرصة لمخيلته.