مستقبل القصة القصيرة في زمن التحولات المتسارعة

القصة القصيرة تظلّ أحد فنون الكتابة الأدبية التي وصفها الروائي العالمي نجيب محفوظ بأنها "شعر النثر الحديث".
القصة القصيرة تُواجه الآن تجاهلا أو حربا في ظل التهافت على الرواية ونشر عدد قليل منها مقارنة بالأشكال الأدبية الأخرى
القارىء يجب أن يتخيّل الشخصية وهي تتحرّك في القصة، وأن تُوضح بعض مشاعر وأحاسيس وخلجات أبطالها وهم يفعلون شيئا ما

 بقلم: هدى الهرمي

تظلّ القصة القصيرة أحد فنون الكتابة الأدبية والتي وصفها الروائي العالمي نجيب محفوظ بأنها "شعر النثر الحديث"، وكان يقصد بذلك السرد أو النثر الأدبي مقابل القصيدة.
وفي النص الأدبي ككل تتدرج وتنصهر الحدود الفاصلة بين الأجناس الأدبية ويصبح الهدف هو إيصال الفكرة إلى المتلقي، والسرد ما هو إلا عرض الأحداث المتوالية حقيقة كانت أم خيالا باستخدام اللغة في ظل تفاعل إنساني يُنتج الحياة نفسها. 
فأي معادلة اختزلتها القصة القصيرة في تقنية السرد وآليات الإبداع لتكشف عن أسرارها وهل تصبح مُرشّحة بقوة لصدارة المشهد الثقافي المُقبل؟
لُوحظ عزوف النقد الأكاديمي عن الاعتراف بالقصة القصيرة حتى بدايات القرن العشرين. هذا على الرغم من أن بعض كُتابها برعوا في نقد القصة والتنظير لها ومن هؤلاء نذكر ادغار الان بو القاص والناقد الأميركي وقد عدّ بعض مؤرخي الأدب مُؤسّسا أو مبتدعا لنظرية القصة القصيرة، ويُعتبر مخترع خيال التحرّي أيضا، مثلما عدّ بعض الأوروبين موياسان أبا للقصة الغربيّة.
وقد شهد هذا الفن اهتماما في أواخر القرن التاسع عشر وأوئل القرن العشرين على الرغم من أنه شهد سلسة من التغييرات أدت إلى ظهور أشكال نمطية مُتعددة منه.
وتكوّن لدى النقاد انطباع مهم، وهو ذلك التقارب بين القصة القصيرة والقصيدة كاستخدام الأساليب الشعرية والاتكاء على الأسطورة، والتوسّع في استخدام المجاز والصور والاقتراب أكثر فأكثر من لغة القصيدة.
يقول الناقد الأدبي د. حسين حمودة: خلال العقود الثلاثة الماضية، تصاعدت أشكال قصصية وذهبت في ذلك مذاهب شتّى، تمثّلت خلالها القصة القصيرة لغة الشعر وأدواته أو استلهمت روح (الأمثولة) أو الخاطرة أو اللوحة القصصية. 
وخوض هذه الأشكال القصصية الجديدة قد بدأ في الأدبين العربي والغربي في فترات شبه متقاربة، ويردّها أغلب الباحثين إلى العقود القليلة الماضية، وقد انتشر انتشارا واسعا في الأدب الإنجليزي قبل ذلك بوقت قصير.
لكن رغم كل هذا، تُواجه القصة القصيرة الآن تجاهلا أو حربا في ظل التهافت على الرواية ونشر عدد قليل منها مقارنة بالأشكال الأدبية الأخرى، وتباينت آراء عدد من النقاد والكُتاب وأيضا الناشرين حول مستقبلها وهذا يجعلنا في تقصّي عن وجهة بوصلتها في ظل الحداثة وتنامي الإبداع.
هل تعتبر الرواية أول مُرشّح في الأدب النثري وما هي حظوظ القصة القصيرة؟ 

الفجر الكاذب لنجيب محفوظ
من أعمال نجيب محفوظ القصصية

لقد انتشرت مقولة "زمن الرواية" باستجلاب تسويق خاص من طرف دور النشر، التي تُقبل على الرواية أكثر من غيرها نظرا لاهتمام المتلقي بها مقارنة بالأجناس الأدبية الأخرى وتأثيرها على نسبة المبيعات، خصوصا بعد استحداث جوائز خاصة لها، مما أدّى أيضا إلى انصراف عدد كبير من الشعراء وكُتاب القصة إليها.
واستنادا إلى تسمية الكاتب والناقد الايرلندي فرانك اوكونور (الفن الخالص) للقصة القصيرة، يذكر  شريف صالح أن طبيعة هذا الفن عادة يكون عصيّا على التسويق، مُوضحا على سبيل المثال أن "نجيب محفوظ" ترك نحو عشر مجاميع قصصية متميزة، لكن وسائل الإعلام والوسائط الأخرى تهافتت على رواياته وقلّما تلجأ إلى قصصه.
وأضاف أن بظهور الصحافة المكتوبة في العصر الحديث، ومع الشغف بالقصة القصيرة، روّجت في وقت ما للنصوص القصصية، واستمرت هذه التقاليد أيضا في المجلات الثقافية، لكنها تراجعت مؤخرا وأصبحت الصحافة الثقافية نفسها تحتضر. 
لكن القصة القصيرة مازلت تمتلك جاذبيتها لكثير من الكُتاب حتى من نجحوا مع الرواية، رغم ان كتابة رواية واحدة يمكن ان تُحقق شُهرة مُضاعقة ورواجا منقطع النظير. 
وأوضح شريف صالح - وهو الناقد والقاص المصري الذي حصد العديد من الجوائز - أنه نادرا ما يكون هناك كاتب كبير لا يترك سهما في هذا الفن المراوغ، مثل بورخيس وكافكا وماركيز وتشيخوف وأيضا يوسف ادريس وزكريا تامر وسركوس بولص.
وفي هذا الصدد يذكر الناقد د. شريف الجيار أستاذ النقد والأدب المقارن أن القصة القصيرة استطاعت في الآونة الاخيرة أن تجد لها حظا مشروعا وموقفا يتناسب مع طبيعة التوهج العالمي والحراك السياسي الدولي، وأيضا مع سرعة التكنولوجيا في التواصل بين الكتاب والأفراد. في ظل كل هذا وجدت القصة مشروعية الوجود في زمن قيل عنه أنه زمن الرواية، وأضاف أن هذا يؤكد عدم وجود طفو نوع أدبي على الاخر سواء شعرا أو سردا.
لكن مع حصول الكاتبة الكندية أليس  مونرو على جائزة نوبل لللآداب 2013 وأيضا على العديد من الجوائز باعتبارها "سيدة فن الأقصوصة الأدبي المعاصر"، تجدّد السؤال حول إذا ما كان هذا التتويج ستتبعه عودة قوية للقصة القصيرة إلى زمن توهّجها وازدهارها. 
وفي هذا السياق تقول مونرو "أنا لا أفهم كيف لا يُعبّر الكاتب عما بداخله في سطور قليلة"، وقد تميزت قصصها بأنها تستكشف الجوانب الإنسانية المُعقدة بأسلوب نثري بسيط.
ويبدو رأي الكاتب والمصور الفوتوغرافي شريف عبدالمجيد مسايرا لهذا التوجه وهو الذي حصل من خلال كتاباته القصصية على جوائز عدة منها "جائزة ساويرس" عن مجموعته "خدمات ما بعد البيع" وهو يُعد من أبرز كُتّاب القصة القصيرة بمصر.
ويؤكد أن القصة القصيرة تشهد ازدهارا ملحوظا في السنوات الأخيرة وهي بالتالي مُرشّحة بقوة لصدارة المشهد الثقافي المُقبل.
ويذكر أيضا أن جائزة "مان بوكر" لسنة 2009 فازت بها كاتبة القصة القصيرة مونرو، وفاز الكاتب والروائي المصري طارق إمام بجائزة ساويرس لسنة 2012 عن مجموعته القصصية "حكاية رجل عجوز كلما حلم بمدينة مات فيها" وأيضا الصحفي والقاص شريف صالح عن مجموعته "مثلث العشق" وهذا بالنسبة إليه مدعاة للفخر وللتأمل واحتفاء بالقصة القصيرة.
أي رهان للقصة القصيرة في مسار الإبداع وفن المستقبل؟ 
لقد التفت نُقادّ القصة لحديث بو عن أثر الشخصية المُفردة في القصة القصيرة وشرعوا يأخذون بمبدأ القاعدة التي تقوم على وحدة الحدث والحبكة والشخصية، وذلك يُعدّ مغايرا لما اعتاده النقد الروائي، خصوصا من ناحية إسناد السرد للراوي المشارك في القصة باستخدام ضمير المتكلم والعناية المُفرطة بنهايات القصص. فالصور الوصفية والقصصية ليست إلا امتدادا لهذا الفن الجميل الذي برع فيه العديد، فهو يقطر شعبية وهو أشد تعبيرا عن الفئة الأدنى وعن الظواهر الاجتماعية، التي ظلت مبعث إلهام، مع اعتماد التكثيف والاختزال والبعد عن التقعر والالفاظ المهجورة. 

مشروعية الوجود
التكثيف والاختزال

وفي هذا الصدد تذكر الكاتبة القصصية احسان كمال أن القارىء يجب ان يتخيّل الشخصية وهي تتحرّك في القصة، وأن تُوضح بعض مشاعر وأحاسيس وخلجات أبطالها وهم يفعلون شيئا ما. وهذا ما تعلمته من الناقد والقاص يحيي حقي الذي يُعد ظاهرة مُهمة في تاريخ الأدب العربي الحديث، فمن سمات فنه القصصي التركيز وإثارة خيال القارىء، وأيضا التصوير من خلال صور الحياة الحسيّة، فالقصة لديه هي فن التصوير الحسيّ. 
وربما أبرز ما يُميز القصة هو الخُلاصة أو الذروة التي تنتهي بها القصة وانها تتضمن حدثا وموقفا وشخصية ترتكز في الأساس على تلك النهاية والأثر الذي ينبثق منها ويترتّب عليها.
 يُستنتج اذا من كل هذا أن القصة راهنت على الإبداع، وأن هذا الفن يُواصل الصعود بدليل استقطابه للعديد من الكُتاب الشبان، وأن مقاييسه النقدية لم تبلغ حدا من الثبوت أو الجمود الذي بلغته مقاييس الإبداع في فنون أخرى. وبالتالي فإن الثيمة المحورية  التي تنهض عليها القصة القصيرة هي الأدوات الفارقة في الاستقصاء البحثي والفني والفلسفي والاجتماعي، بحيث يبدو المُتلقي، وكأنه خبير بإحصاء مكاسب الدهشة في ذروة السرد.
فهل تتشهّى القصة القصيرة الحداثة، بهذا العمق الذي تتكىء عليه، وهذا الزخم المتواتر، لتشحذ همّة القارى في الالتفات إليها، وهل أصبحت موفورة الحضور في زمن التحولات المتسارعة؟