مصرع المتنبي.. آل بويه أم اللُّصُوص؟!
بقلم: رشيد الخيُّون
احتفلت أبوظبي(23/9/2019)- دائرة الثَّقافة والسِّياحة الموسوعة الشِّعرية- بمناسبة مرور(1054)عاماً، حسب التَّقويم الهجري، على مصرع أبي الطَّيب المتنبي، فقيل قُتل في (27 رمضان354هـ) المصادف(30/9/965م)، فتوافق الذكرى(1087) حسب الميلادي. إنها ليست المرة الأولى الذي يحضر فيها المتنبي بأبو ظبي، أحيت له عدة مناسبات، في معارض الكتب والندوات الثَّقافيّة، وطباعة ديوانه محققاً، مع صورة مخطوطته في مجلد خاص، وحسب متابعتي أجد أبا الطَّيب الشَّاعر الأكثر حضوراً، مِن الأوائل والأواخر، في مناسبات أبو ظبي الثَّقافيَّة والأدبيَّة، فليس دافع هذا الاحتفاء بحاجة إلى توضيح فالمتنبي "مازال مالئ الدُّنيا وشاغل النَّاس"، وكان هذا هو عنوان الاحتفال بذكرى مصرعه.
كانت مجلة "المقتطف" احتفلت بمرور ألف عامٍ على مصرع المتنبي(1935)، ونشرت كتاباً للمحقق والأديب المصري محمد محمود شاكر(ت1997)، بعنوان "المتنبي"، وكان مِن أبلغ مَن كتب مِن المتأخرين عنه، وبعد حين حصل الكتاب على جائزة "الملك فيصل العالميَّة"(1984). يأتي بعده، في النّشر، كتاب الشَّاعر والأديب البحريني إبراهيم العَريَض(ت2002) "فن المتنبي بعد ألف عام"(نُشر1962).
تزامناً مع "المقتطف" احتفت مجلة "الرِّسالة" المصريَّة بألفية المتنبي في العام نفسه، واستكتبت أبرز أدباء وشعراء ذلك الوقت، وبينهم جميل صدقي الزَّهاوي(ت1936)، والذي وصف المتنبي بعبارة: "مثل بحرٍ رحيب"(مجلة الرِّسالة). بحثتُ في المجلات العربية، منذ(1935) وما قبلها، وحتى يومنا هذا، عن طريق "موقع "أرشيف المجلات"(عن مؤسسة صخر لصاحبها الأديب الكويتي محمد الشَّارخ)، ما استطعت إحصاء البحوث والمقالات التي كُتبت في أبي الطَّيب!
ليس بين الأوائل، مَن أسس لسيرة المتنبي أكثر أهمية مِن أبي منصور الثَّعالبي(ت429هـ) في "يتيمة الدَّهر"، فيبدو لم يسبقه أحد بنقد شعر المتنبي، وما تضمنه مِن كنايات وأمثال. قال فيه: "نادرة الفلك، وواسطة عِقد الدَّهر"(اليتيمة). كذلك لا يتجاوز مَن أراد دراسة المتنبي مِن السابقين واللاحقين، ما أرخه القاضي المُحَسّن التَّنوخي(ت384هـ) في "نشوار المحاضرة وأخبار المذاكرة". فعلى ما يبدو معظم المؤرخين، نهلوا منهما في هذا الشَّأن، فهما مِن مجايليه، خصوصاً صاحب النّشوار.
لا ينتسب المتنبي لقبيلة أو مذهب، وقصة والده عيدان السَّقا، واسم المتنبي أحمد بن الحسين الجعفي، يشوبها الغموض، لهذا وجد البعض مجالاً في نسبته إلى العلويين، على أنه تعلم في كتاب الأشراف بالكوفة، وفي شبابه إدعى أنه قائد ثورة علويَّة ببادية السّماوة، فاستنفر عليه والي حمص للإخشيديين واعتقله ثم استتابه.
قيل الكثير في سبب لقبه بالمتنبي، هل كان لبيت شعر شبه نفسه ببعض الأنبياء، أم لادعاء النّبوة فعلاً؟! فقيل كان له كتاب "يُعارض به القرآن"، ولما سئل عنه في الكبر، قال ذاك كان زمن "الحداثة"(التَّنوخي، نشوار المحاضرة). تاه البعض فيه، وأظهر مِن شعره دلائل بأنه ابن شخصية علوية بارزة، ابن المهدي المنتظر مثلاً، وبهذا يكون الإمام الثَّالث عشر للإماميَّة، مما سيربك نظريَّة الإمامة إذا صح ما جاء في كتاب عبد الغني الملاح(ت2002) "المتنبي يسترد أباه"(1973-1974).
كان اعتزاز المتنبي بموهبته طافحاً في شعره: "أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي/وأسمعت كلماتي مَن به صممُ". قالها قبل وجود أبي العلاء المعري(ت449هـ) أشد المعجبين به، والذي عنون تفسيره لديوانه بـ"معجز أحمد"؟! هناك مَن لا يُشمئز مِن غروره، وكأنه هو هكذا، فإذا قال محمد مهدي الجواهري(ت1997):"كلما حُدثتُ عن نجمِ بدا/حدثتني النَّفس أن ذاك أنا"، فليس هذا بغرور إنما تعبير عن موهبة عالية في الشّعر؟! فالمتنبي نظر الأعمى في أدبه والجواهري شبه نفسه بالنَّجم، فما الغرور في ذلك، طالما الأمر يخص موهبتهما؟!
تغنى الجواهري في أكثر من قصيدة بعظمة المتنبي. جاء في قصيدة "يا ابن الفراتين"(بغداد1969)، بما يُشير إلى مصرعه: "ناشدته وعلى أثوابه عَلَقٌ/مِن الدِّماء، ومِن حباتها زردٌ"، ويؤكد أنهما مِن دوحة واحدة: "أنا ابن كوفتك الحمراء لي طّنبٌ بها/ وإن طاح مِن أركانه عمدٌ/ فكن أبا الطَّيب الجبارَ لي مدداً/ولي بما صُغتَ مِن جبارةٍ مددُ"(الدِّيوان). شارك أيضاً بـ"فتى الفتيان" في افتتاح مكتبة "المتنبي" الوطنية ببغداد(1977)، وضمن احتفال بألفيته، ومنها: "أراب الجنَّ أُنسٌ عبقريٌ/بوادي عبقرٍ افتَرَشَ الجِنانا/تطوف الحورُ زِدْنَ بما تَغَنّى/وهنَّ الفاتنات به افتتانا". أتذكر كان الشَّاعر السوري سليمان العيسى(ت2013) حاضراً، فخلع (جاكيته) وأخذ يلوح به في الهواء إعجاباً بالاثنين.
كان المتنبي عائداً مِن شيراز، حيث اللّقاء بعضد الدَّولة البويهي(ت372هـ)، وقال فيه: "ولو أني استطعتُ حفظتُ طرفي/فلم أبصر به حتى يراك"، وكان عضد الدَّولة سخياً معه، وأراد سماع ما يرجحه به على سيف الدَّولة الحمداني(ت357هـ)، فدس مِن سأله، فقال: "هذا أجزل إلا أنه عطاء متكلف، وكان سيف الدَّولة يعطي طبعاً"، وهذا ما قتله وهو في طريقه إلى بغداد، وكان أحد وزرائها حشد الشّعراء لهجائه فيها، لأنه رفض مدحه، فردَّ قائلاً: "أرى المتشاعرين غُروا بذمّي/ومَن ذا يحمل الدَّاءَ العضالا"(النَّشوار واليتيمة).
أما الرّواية الأخرى في قتله فأن لصوصاً خرجوا عليه عند النَّعمانية أسفل بغداد، حيث دير العاقول، وقتلوه وولده، ولم يعلم اللّص فاتك الأسدي قَتل مَن. أما أنه قتله لأنه هجا والده فهذا اختلاق القصاصين. هذا، ولا يمنع أن يكون الأمران معاً: إشارة مِن البويهيين بقتله نكاية بغرمائهم الحمدانيين، وجرأةً مِن اللّصُوص.