مصر بين نارين

لم تفتح مصر حدودها لفلسطينيي غزة وكذلك للسودانيين لأنها لا تريد أن تكون ضحية لحروب الآخرين ولأنها تدرك أن جماعة الإخوان المسلمين انما تريد التسلل إليها ثانية تحت غطاء إنساني.

حرب في السودان وحرب في غزة. في الأولى يتقاتل أبناء النظام فيما بينهم ولا تخلو الحكاية من أصابع للاخوان المسلمين وفي الثانية تزيح إسرائيل فلسطين عن طريقها بعد أن صار الغرب على مقربة من اعتبار الفلسطينيين مجرد إرهابيين وما تفعله إسرائيل هو نوع من الحرب على الارهاب بعد أن تزعمت حركة المقاومة الإسلامية الجبهة المناوئة لها. ومصر التي تمردت على المخطط المرسوم لها يوم تخلصت من حكم الاخوان تقف بين الحربين وهي التي حكمت السودان زمنا طويلا وكانت غزة تابعة لها لسنوات.

مصر تقف بصلابة بين نارين بعد أن أبعدت النار الليبية عن حدودها. الخيال وحده هو صانع سيناريوهات المستقبل في ظل عدم توفر المعلومات المؤكدة. ولأن مصر تعرف حقائق كثيرة عن طبيعية الصراع وما يهدف إليه في الجبهتين المشتعلتين على حدودها فإنها ليست في الوضع الذي يؤهل الآخرين لتوجيه اللوم لها إذا اتخذت مواقف صارمة وحاسمة لحماية وجودها. فقد يكون كل شيء مبيتا ضدها. وقد تكون هي الهدف غير المباشر. هناك جهات كثيرة في الغرب لا تزال تنظر بعدم الارتياح لغياب جماعة الإخوان عن المعادلة السياسية في مصر.

فلو استمر حكم الاخوان لما كانت هناك مصر التي هي مفتاح العالم العربي. ومن المؤكد أن إسرائيل مستفيدة من التطبيع مع مصر أكثر من أي بلد عربي آخر طبع علاقته معها. فلو لم يكن التطبيع مع مصر لما كان هناك معنى للتطبيع مع دول عربية كالمغرب أو البحرين. مصر هي الأساس. ولكن هل ترغب إسرائيل في مصر قوية؟ ذلك هو السؤال الذي يضعه الغرب على طاولته وهو يخطط لحصار مصر بالحروب. وليس خفيا الأمر الذي يشبك مصالح الغرب بالدفاع عن جماعة الإخوان. معظم المؤسسات المختصة بالدفاع عن حرية التعبير في الولايات المتحدة تستند على رؤية واحدة لا تميل عن خط الهجوم على الأنظمة السياسية العربية التي تخلصت من وصاية الإخوان. ذلك ما نراه جيدا فيما يتعلق بالموقف من تونس والسعودية ومصر بشكل خاص.

مصر هي البلد العربي الوحيد الذي يتعرض أمنه للتهديد بسبب حربي السودان وغزة وليست الحرب في اليمن بعيدة عن ذلك المعنى. وإذا كانت الدولة المصرية وقد تمتعت بقدر هائل من الصبر والحكمة ضبطت أعصابها في مواجهة تهديدات مصيرية فليس ذلك إلا دليلا على ثقتها بقوتها. مصر التي تملك الجيش النظامي القوي الوحيد في العالم العربي المحيط بإسرائيل أثبتت أنها قادرة على تحدي المؤامرات التي يُراد من خلالها دفعها إلى السقوط في فخ الأخونة التي تحيط بها من كل جانب. لقد قُدر لمصر بحكم موقعها الجغرافي وتاريخها السياسي وعدد سكانها أن تكون ضابط إيقاع الأمن القومي العربي. وكان من الممكن أن تفقد تلك المكانة لو انتصر الإخوان عليها. وفي ذلك نهاية لكل أمل عربي.

إسرائيل التي فقدت صوابها في غزة مدفوعة وراء رغبة الثأر لكرامتها التي هُدرت يوم 7 أكتوبر الماضي لا تنظر جيدا إلى مستقبلها في المنطقة حين تستمر بحرب الإبادة في حق المدنيين الفلسطينيين الذين هم في الحقيقة ليسوا مادة لحماس بل هم مجرد سكان فلسطينيين ضمنت لهم القوانين الدولية حق البقاء على أراضيهم. تحارب إسرائيل حماس غير أنها في الحقيقة تضغط على مصر التي هي واقعيا صمام أمان سلامها التي أفقدها جنونها إمكانية القدرة على التفكير فيه. ومصر تقاوم التحديات. لا رغبة منها في الحفاظ على أمن إسرائيل، بل لأنها تدرك أن المؤامرة تستهدف وجودها السيادي بما يمكن أن تحمله من أخطار إلى داخلها.

لم تفتح مصر حدودها لفلسطينيي غزة وكذلك للسودانيين لأنها لا تريد أن تكون ضحية لحروب الآخرين ولكنها في الأساس تدرك أن جماعة الإخوان المسلمين بكل ما تحظى به من دعم غربي انما تريد التسلل إليها ثانية تحت غطاء إنساني. لقد أنهت مصر حكاية جماعة الإخوان وهي حين فعلت ذلك انما افتتحت عصرا عربيا جديدا، لن يكون بأفكارهم الظلامية سادته. ربما سيتأخر الكثيرون في فهم تلك الفكرة غير أن الأهم من ذلك أن تبقى مصر قوية. في قوة مصر قوة للعرب. وهو ما سيفيد الفلسطينيين إذا ما استقلوا بقرارهم بعيدا عن التصنيفات العقائدية التي أدخلت قضيتهم في متاهة تقع بعيدا عن حلمهم في الوصول إلى وطن مستقل.