مصر.. وهم الإخوان قراءة في آخر مشاهد الجماعة

حفل الإفطار السنوي للجماعة كان طقسًا تنظيميًّا غرضه إظهار الوجود ربّما استفاد من أجواء رمضان في نزع إقرار ضمني من مؤسَّسات الدولة بهذا الوجود لكنه في حقيقته لم يكن حفلاً روحانيًّا ولا إفطارًا مُجرّدًا بقدر ما كان مَحفلاً للإقرار بالبَيعة والولاء.

بقلم: حازم حسين

على مدى العقود الأخيرة، لم تنقطع فعاليات الإخوان العامة، وتلك مُفارقة مُثيرة للسخرية، إذ في الوقت الذى كانت فيه الجماعة تنظيمًا محظورًا وفق اصطلاحات نظام «مبارك» وتوصيفاته، سمح لها النظام نفسه بالظهور العلني، والمشاركة في فعاليات اجتماعية وسياسية، وتنظيم حملات تبرّع لصالح فرعها في قطاع غزة الفلسطيني «حماس»، وتأجير صحيفة «آفاق عربية» من حزب الأحرار؛ لتنطق باسم الجماعة، وإطلاق عدد من المواقع الإلكترونية والجمعيات الأهلية، وتأسيس عشرات الشركات والسلاسل التجارية، وسمح لها أيضًا بمناسبة سنويّة مُوسّعة خلال شهر رمضان، يستضيفها أحد فنادق القاهرة الكبرى، تحت سمع الدولة وبصرها.

كان حفل الإفطار السنوي للجماعة طقسًا تنظيميًّا غرضه إظهار الوجود. ربّما استفاد من أجواء «رمضان» وروحانيته في انتزاع إقرار ضمني من مؤسَّسات الدولة بهذا الوجود، لكنه فى حقيقته لم يكن حفلاً روحانيًّا ولا إفطارًا مُجرّدًا، بقدر ما كان مَحفلاً للإقرار بالبَيعة والولاء، وتأكيدًا لسيطرة القلب الصلب في مكتب الإرشاد على مفاصل الجماعة بكل مستوياتها التنظيمية، جغرافيًّا ونوعيًّا.

عقب الإطاحة بـ«مرسى» وحكومة الإخوان، لم يعد مُمكنًا التعبير عن الوجود، وتجديد الولاء من خلال طقس احتفالي سنوي. فمن ناحية خرجت الجماعة من المشهد السياسي والاجتماعي في مصر خروجًا خشنًا ومصحوبًا برفض شعبي واسع المدى، ومن ناحية أخرى غيّبت السجون، المُرشد العام محمد بديع، ونائبه الأول خيرت الشاطر، وأغلب الكوادر الكبرى: محمود غزلان وعصام العريان ومحمد البلتاجي وسعد الكتاتني وغيرهم، بحزمة جرائم واتّهامات لا يُرجى الفكاك منها في مدى قريب، وتنازع طابور طويل من الحرس القديم وقيادات الوسط، على الإمساك برأس السلطة فى التنظيم، إضافة إلى أن تلك الأجنحة المُتنازعة نفسها لم تكن مُشتبكة فى حلبة واحدة، وإنما تشتَّت شملها فى مسارات ومسالك ومجتمعات نزوح عدّة.

 وسط تلك التركيبة، كان فريق النازحين إلى تركيا الأسبق في ترتيب الصفوف، ووضع أُطر تنظيميّة ومالية وإعلامية تكفل له الظهور المُتّزن وسط تلك الفوضى، فبفضل تركيبة الفريق التي ضمّت رجال أعمال ومراكز مالية، إضافة إلى أن تركيا نفسها كانت مركزًا اقتصاديًّا لحزمة كبيرة من أموال الجماعة، وأيضًا ما تمتَّعت به تلك الكتلة من دعم مباشر من النظام وحزب «العدالة والتنمية» المحسوب على التنظيم الدولي، تمكَّن الأمين العام محمود حسين، وتابعه أحمد عبد الرحمن مسؤول المكتب الإداري بالخارج، من تخطيط صورة سريعة، تبدو مُتماسكة نوعًا ما، وتوظيف هذا التماسك المظهري في استعادة جانب من طقوس الولاء والبيعة.

 بدأ الأمر بالإعلان عن برلمان للجماعة في اسطنبول، ثم إعلان عدَّة حركات فرعيّة، أبرزها «المجلس الثوري» بزعامة مها عزام ومساندة حلفاء من الإسلاميين والناصريين، منهم عمرو عبد الهادي وأحمد حسن الشرقاوي وسليم عزوز، ثم إطلاق حزمة قنوات ومواقع، واستدعاء أيمن نور من بيروت إلى تركيا، ومنحه إحدى القنوات بدون مقابل، وصولا إلى حلقة السلطة الكاملة بتنظيم طقس احتفالي سنوي، ليكون مظاهرة للتعبير عن السيطرة، وإقرارًا ضمنيًّا من الحضور بالولاء والإذعان، وهكذا بدأ إفطار الجماعة السنوي في تركيا منذ 2014.

 فى الجولات الثلاث الأولى من الإفطار، سعى محمود حسين لإثبات تسيّده وهيمنته على مشهد الجماعة بالخارج، فحرص على دعوة مُمثّلين من كل التيارات الإخوانية والحلفاء. بين 2014 و2016 لم يغب رموز المكتب الإداري بالخارج، والمجلس الثوري، وقُضاة من أجل مصر، والتنظيم الدولي، والجماعة الإسلامية، والحلفاء من الناصريين والليبراليين، عن موائد «حسين» التي استضافها فندق «أكغون اسطنبول» الفاخر، بل إنه نظَّم رحلات كثيفة لاستقدام مُمثّلين عن مجموعات السودان وجنوب أفريقيا وماليزيا وقطر ولندن وبرلين وواشنطن، وفتح أبواب حفله الضخم لمُمثِّلي كل القنوات والمواقع المحسوبة على الجماعة، مع توجيه دعوات رسمية للرئيس التركي وقيادات حزبه، ورغم اكتفاء «أردوغان» و«العدالة والتنمية» بإيفاد مُمثّلين ثانويين من بلدية اسطنبول وأمانة الحزب بالمدينة، إلا أنهم دعموا تظاهرة الجماعة بقوّة، وهو ما استغلَّه «حسين» وقتها لتصوير الأمر كما لو كان قبولاً رسميًّا من تركيا لهيمنته على مركز التنظيم الجديد.

 لم تتغيَّر الصورة حتى رمضان 2016. انتهى الشهر فى يوليو، ولم تكن قواعد اللعبة قد تبدّلت بعد، لكن الشهور التالية حملت مفاجآت مُزعجة وضربات قاسية للأمين العام ورجاله، أولاً بمقتل قائد الجناح المُسلَّح محمد كمال في اشتباكات مع الشرطة خلال أكتوبر، ثم فشل دعوة «ثورة الغلابة» التي دعمها بقوّة خلال نوفمبر، وقتها بدأ رجال المجلس الثوري والتنظيم الدولي يُبدون ضيقهم من تسلّط محمود حسين وإدارته السيئة، ويُسجّلون ملاحظات مُشينة على ملفّاته المالية، وانحاز لهم جمال حشمت؛ طمعًا في القبض على مقاليد الأمور، ودخل العاملون في قناتي «وطن» و«مكمّلين» على الخطّ، مع تقليص ميزانيتيهما لصالح قناة «الشرق»، واعتقادهم أن «حسين» يُحابى أيمن نور على حساب أبناء الجماعة، خاصة بعد طرده عددًا منهم وقطع رواتبهم، وتعامله كما لو كان يُنفق على القناة وموظَّفيها من ماله، بينما هو يستعبدهم بأموالهم.. وقتها تعاظم الشِّقاق، وبدأ الأمين العام تنقية قوائم المدعوّين لحفله السنوي، متجاهلاً أثر ذلك على اكتمال مشهد السيطرة والولاء.

 فى الموسمين التاليين، 2017 و2018، تجاهل محمود حسين عشرات من خصومه ورافضي إدارته من أعضاء التيارات والأجنحة الأخرى، وبينما تخيَّل أن الدراما دانت له والأمور تسير كيف يشاء، كانت تركيبة الصورة قد تغيَّرت بعد أربع سنوات من الوجود في تركيا، ونجحت أطراف أخرى في التواصل مع مسؤولي نظام أردوغان وقيادات «العدالة والتنمية»، وتأمين الجنسية أو الإقامة لمئات من الأعضاء، وتوفير وظائف لعشرات آخرين، وتسويق مُعادلة جديدة لا يبدو «حسين» مركزها ولا بطلها الأوَّل، وبفضل تلك التطوُّرات كان الأمين العام على موعد مع مفاجأة قاسية فى إفطار 2019.

نُشر في اليوم السابع المصرية