مصلح النجار يضع تخطيطا إجرائيّا للتفكير النقديّ بالرواية التفاعليّة

النجار يطرح عدة أسئلة في ضوء حضور الروايات التفاعلية، وانتشارها، والرغبة العارمة في أن تكون رواية الواقعية الرقمية إضافة جديدة أضافها الأدب العربي.
الرواية الرقمية تضحّي بأجيال من المتلقين الذين لا يتقنون استعمال التكنولوجيا الحاسوبية
هناك نصوص عن شخوص عاديين كالذين في الروايات العادية، وهناك نصوص تنذر نفسها للمجتمع الرقمي

يرى الناقد الأردني د. مصلح النجار أنه ربّما يجدر بنا الولوج إلى الرواية التفاعلية من مدخل "نظريّة الأدب"، ذلك أنّ هذا النوع الكتابيّ / التأليفيّ ما زال قيدَ التحديد الأنواعيّ، وفي المصطلحات وحدودها، والفروق بينها، بما يترك الباب مفتوحا للمداخلات النقديّة، والإبداعيّة. هذا فضلا عن الحالة الديناميكيّة التي يعيشها نوع تأليفيّ حيّ كالرواية، ما يزال قيد التداول، وطزاجة الحضور. 
ويؤكد في بحثه الذي شارك به في ملتقى الشارقة للسرد الذي عقد في العاصمة الأردنية عمّان خلال الفترة من 17 – 19 سبتمبر/أيلول 2019 ـ أن هناك كثرة في المصطلحات من رواية تفاعلية، ورواية افتراضية، ورواية إلكترونيّة، ورقمية، وهايبر فكشن، ورواية الديجيتالية، ورواية المعلوماتية، ورواية إلكترونية، ورواية شبكيّة، وسواها مما يجمع مصطلح "رواية" إلى مفردة أخرى من الحقل الحاسوبيّ.
وبالعودة إلى الأصل – يوضح النجار - أنّ الرواية نوعٌ سرديّ يتناول الحياة موضوعا له، ويعتمد في الأصل النموذجيّ منه تعدد الشخوص والأماكن والأزمنة، وعلى تشابك العلاقات والمصائر والحيوات، من منطلق يطرح إشكاليات الحياة والمجتمع والناس، ضمن تصور اجتماعيّ، ورؤى جمالية حريصة على التطوّر. ولكنّ الرواية أثبتت عبر مسيرتها الطويلة أنها اتسعت لأنواع وأجناس وتقنيات وخيارات من خارج الأصل الروائي، حتى يظل فنّ الرواية فنّا يتسع لحياة الناس دائمة التطوّر. 
ويرى د. مصلح النجار أنه في ضوء هذه المهمّة لم يكن غريبا أن يستمرّ فنّ الرواية بممارسة مرونته ليتحسّس الحضور القويّ للتكنولوجيا في حياة الإنسان المعاصر خلال العقود الثلاثة المنصرمة على أدنى تحديد، بل اعتماد كثير من جوانب حياة الناس وعلاقاتهم وتطوّر شؤونهم على وسائط حاسوبية كان أهمها الكمبيوترات الشخصية، والهواتف المحمولة، والحواسيب اللوحية.

الجمهور صار أكثر عددا بما يناسب المهتمين من مستعملي وسائل التواصل على شبكة الإنترنت، مقارنة بعدد قراء النسخ الورقية للروايات العادية

وفي البحث الذي قدمه في الجلسة التي رأسها الشاعر الإماراتي عادل خزام أوضح النجار أن الرواية الرقمية ظهرت في الغرب منذ منتصف ثمانينيات القرن العشرين مع "المساء" Afternoon  لميشيل جويس 1986، والسعي لبرمجيات خاصة للكتابة بما سمّي آنذاك "فضاء القصّ" storyspace. ثمّ برمجيات مثل newnovelist وكل ما يقدّم وصلات وإحالات وهايبرتكست، أي النصوص الغنيّة، أو المتفوّقة أو المخبّأة في فضاء ما من جهاز الكمبيوتر أو شبكة الإنترنت.
ونتلمّس استجابة الرواية الرقميّة والتفاعلية ورواية الواقعية التفاعلية (الروايات الإلكترونيّة) لحياة الناس العاديّة والافتراضيّة معا في عصرنا هذا، هذا فضلا عن الحفاظ على الأصل السرديّ الروائي القارّ في نظريّة الأدب، وتفاعلات التجريب الروائيّ، ومماحكات النوع مع فضاءات ما بعد الحداثة، والحفاظ على أصل الفن الروائي بوصفه تعبيرا عن علاقة إشكالية بين الفرد والمجتمع. فما زال السرد هو الأساس الأجناسيّ العريض للنصّ الروائيّ الرقميّ بأنواعه وتطوّراته اللاحقة، وما زالت الأحداث فيه مربوطة بأزمنة، ولكنّ "الوسائط" التي يُنقَل هذا السرد من خلالها هي التي تطوّرت، فلم تعد ورقا في كتب، أو صفحات في جريدة أو مجلة، أو حتى شاشة ثابتة كما تقدَّم النسخُ الإلكترونية من الروايات بتقنيات تصوير النسخ الورقية وPDF والبرامج المشابهة، أو من خلال برامج الكتب الإلكترونية وشاشاتها. إنها الاستجابة المتوقّعة للمرحلة، فمثلما تطور التواصل الاجتماعيّ في الحياة، والتواصل في الأعمال من التعميمات الورقية، وكتاب رقم كذا، والرسالة المؤرّخة التي تحمل التوقيعات الكثيرة إلى الإيميلات والتعميمات الإلكترونية، ومثلما تحوّلت الدواوين إلى دواوين خالية من الجلود والغلاسورات والملفات؛ تقبّل التواصل الأدبيّ تطوّرا موازيا في النصوص الأدبية والأعمال الأدبية ومنها الروايات.
ويطرح النجار - في ضوء حضور الروايات التفاعلية، وانتشارها، والرغبة العارمة في أن تكون رواية الواقعية الرقمية إضافة جديدة أضافها الأدب العربي لخريطة الأنواع الأدبية في الآداب العالمية - عدة أسئلة، منها: 
1: هل أرست هذه الأعمال الجديدة خبرة جمالية جديدة أم كانت محض مغامرة جمالية؟
2: هل حملت هذه الأعمال قيما جمالية جديدة للمتلقين؟
3: ما هي الملامح البراغماتية للرواية الرقمية؟
4: هل كانت الروايات الرقمية تقنيات جديدة للتأليف الروائيّ فحسب، أم أن تبدُّل الوسيط صنع نوعا أدبيا جديدا؟ وهل هي بنية ذات علاقات عضويّة، ولا يمكن استبدالها، أم أنها محض تغيير في الوسيط مع ثبات المحمول؟
5: هل اختلف قوام الرواية، ومادّتها، ولغتها بين العاديّ والرقمي؟
ويعود الباحث الأردني هنا إلى السرد الذي في الرواية (العاديّة) ليثبّت حقيقة أنه سردٌ لغويّ، وبالإضافة إلى ذلك تضمّنت الروايات الرقمية سرودا إلكترونية، أي إنها سرود غير لغويّة. ويبين أنه في الحالة الأولى كانت اللغة تحمل الأحداث المتلاحقة، وفي الحالة الثانية أضيفت روابط، وهايبرتكتس لصور، ورسوم، وتخطيطات، وفيديوهات، وخرائط، وإيميلات، وتشات وحوارات، ووثائق مرفقة، وأغان، وجداول، ورسوم بيانية، وربّما نصوص لغوية عادية فحسب. 
ولكنّه يرى أن معظم السرود الإلكترونية، إن لم نقل كلَّها، يمكن تأويلها بسرود لغوية، أو يمكن (ترجمتها) إلى سرد لغويّ، ولكنّ وسيطَ التقديم وسيطٌ غير لغويّ في الأصل، فربما كان مقروءا، أو مسموعا، أو مرئيا، كلمةً، أو لحنا، أو أغنية، أو صوتا، أو مشهدا، أو صورة، أو جدولا...إلخ.
وربّما ذكّرنا ذلك بتقنيات الإحالات في البحث العلميّ، فهناك متن، وهنالك حاشية، ويُعتمد معيار الجدارة للمميز بين ما يكون في المتن وما يكون في الحاشية والهامش، وربّما كانت الهوامش بالغة الأهمية، حتى تنازع المتون أو تتفوق عليها، ولكنّ المقصود هو "صناعة السياق، وتوجيه القراءة". فالإحالات الإلكترونية كالهوامش في البحث العلميّ. 
وجدير بنا أن نتذكر أن الأنواع الأدبية تقبّلت الهوامش والحواشي والشروح والتعليقات التي شكّلت حِيَلا للكتّاب للتوجيه أو التشتيت أو المراوغة، أو لصناعة السياق أو لكسر فكرة الثبات في سياق التلقّيّ للنصوص الأدبية. كما لا ننسى هنا الاقتباسات والتضمينات من أساطير وقصص وحكايات وأغان شعبية، بما تملكه من طاقةٍ إحالية إلى نصوص أخرى وسياقات أخرى، وتفاعلات مع النصوص الجديدة التي استعانت بها.
فإذا تذكّرنا الهوامش في النصوص الأدبية – يقول النجار - أصبح لزاما علينا ألا ننسى القصائد البصريّة مثلا وما تضمّنته من فن تشكيليّ ورسوم ولوحات، وسيمفونيات، ونوتات موسيقية، وسجاد، وصور، وخطّ عربي، وخط باليد، وسكتشات، وأشكال هندسية، وزخارف، ومنمنمات، وكلام بلغات أخرى، وأرقام، إلى آخر ذلك.

وهنا نجد حالات من النصّ الثريّ الذي يلتقي مع المفهوم المعجمي للهايبرتكست، وهي تكسر السياق الذي داخل النص الجديد، وتحيل إلى سياقات أخرى، أو تُدخل في السياق الجديد عناصر من خارجه، سواء في ذلك ما هو من إبداع المؤلف الحاليّ أو سواه، وما هو كتابيّ أو سواه.
إن صفة النص ما بعد الحداثي كانت دائما عدمَ القطيعة، وعدم القطعية والنجوزيّة الأنواعية، أو القياسية أو الاطّراد المطلق، بل كان ديناميكيا، يمد بيدٍ نحو فضاءات الفنّ، والإبداع، والإنتاج الإنساني الممكنة كلّها، من دون تحفّظات وحدود وإقصاءات.
ولنتذكر هنا في حيّز تغيّر الوسائط تجربةَ الشعر العربي بين الشفهيّة والكتابية (التدوين)، مما أملى تبدّلات في تكوين اللغة، ونحوها، وبلاغتها، وعلاقاتها، ومعجمها، وليس ذلك بعيدا عن طروحات القصيدة المسموعة والقصيدة المقروءة عند شعراء الحداثة وكُتّاب قصيدة النثر. فهل تَغَيّر قوام الرواية الرقمية من حيث مادّتُها، وهل أُنجزَ تحديد عمليات التلقّي وآلياته، من حيث هي مفتوحة، أو بصريّة فحسب، أو سماعية، أو سوى ذلك.

يشير مصلح النجار إلى إشكاليات وتداخلات للمسألة، ويقول: نحن حين نطالع الروايات الرقمية ننطلق إلى فضاء "النصّ الأدبيّ" دون "العمل الأدبيّ"، وفاقا لرولان بارت، فنحن نتكلّم على نصّ ثريّ، وديناميكيّ، وغير ناجز، ويحمل خطابا، وخفايا، وتكمن ماوراء النص كوامن، وثمة متلقّون يسهمون بالكثير والقليل في مجموع النصّ. وأما التقنيات أنفسها فتنتمي إلى حيّز العمل، أي الحيّز المادّيّ الذي به خرج هذا التأليف الجديد، من هايبرلنكس وإحالات، وروابط، ومؤثرات... إلخ.
ولا شكّ في أنّ خطة الكتابة لإنجاز إنشاء أو تأليف ينتمي إلى هذا النوع ينتهي بالمنتج المعلَن في صورة "العمل"، نصوصِه وروابطه، وإحالاته. ويتضمّن ذلك من جانب استجابة لحالة دكتاتورية يقوم بها المؤلّف، إذ يؤلِّف وهو يتوقّع أو يوجّه نحو طريقة في التلقّي أو مخطط  للتلقّي، يَصنع من هذا العمل نصّا، وربّما يحاول فرض واحديّته المتوقّعة. أو هو يتعمّد، من جانب آخر، التضليل، ومحو إشارات العلاّم من الحيّز الأدبي، فتتحقق فكرة عدم نجوز هذه التآليف، أي بقاءها قيدَ التأليف، ما دامت قيدَ التلقّي، وتَجدد التلقّيات، فهي نصوص مستمرة، وبخاصّة حين تتعدّد أنواع المتلقّين.
هنالك متلقّ مثاليّ سيسير على الخريطة التي أرادها المؤلّف، وسيكون مزودا بثقافة تناسب تلقي هذا النص، وهناك متلقّ لن يسير على الخريطة المرسومة، ولن يلاحق الروابط، والإحالات، أو لن يلاحقها جميعها، وثالث لن يكون مؤهلا ثقافيا أو لغويا لتلقي النص. وهناك نصوص مفتوحة سيظل المتلقّون، وربما معهم المؤلف، يضيفون إليها. وهناك روايات يشارك المتلقون في تأليفها، وروايات يشارك في تأليفها أكثر من كاتب، وذلك لعمري جوهر الرواية التفاعلية interactive novel . 
ونأخذ بعين الاعتبار الحالة الديناميكية لهذه النصوص ذات الروابط، فربما بقيت هذه الروابط فاعلة، وربما حُذفت، أو تطوّرت، وربّما جُدّدت، وربما غيرت لأي سبب لا يتعلق بالرواية قيد القراءة، أو يتعلق بها.
هناك نصوص عن شخوص عاديين كالذين في الروايات العادية، وهناك نصوص تنذر نفسها للمجتمع الرقمي، وشبكة العلاقات الافتراضية التي تبنيها شخصيات افتراضية، كما في رواية الواقعية الرقمية التي طرحها محمد سناجلة. وهناك نصوص تجمع بين النوعين مثل رواية "عين الهر" لشهلا العجيلي 2005 والمبنية على فكرة تبادل الإيميلات في ضوء غلط في تهجئة العنوان الإلكتروني، مما يصنع علاقات بديلة للعلاقات الروائية المتوقعة، وكذلك رواية إبراهيم عبدالمجيد "في كل أسبوع يوم جمعة" 2010، والمبنية على شكل منتدى إلكترونيّ، يتفاعل رواده في علاقات افتراضية ويلتقون افتراضيا كل يوم جمعة، وفي أثناء الأسبوع يُسقطون العلاقات الافتراضية على الواقع الحقيقي، وكانت هذه الرواية من الروايات الاستشرافية لثورة 2011، وجُمَعِها المتلاحقة.
وهنا يظهر أن العمليات الأدبية من (إنشاء، وتلقٍ) قد تطورت، فإذا التفتنا إلى التقانات فقد طورت على مستوى العمل الأدبي، وإذا التفتنا إلى المجتمع الافتراضي، وشبكة العلاقات الافتراضية، فقد تغيّر الموضوع، وتغيّرت المنظومة الجمالية بالضرورة، وظهرت قيم جديدة، وصراعات من نوع جديد.
وأما الإشكالية الأخيرة فهي الجمهور المحتمل من المتلقين، فربما كانت الرواية الرقمية تضحّي بأجيال من المتلقين الذين لا يتقنون استعمال التكنولوجيا الحاسوبية، وآليات التفاعل والاستجابة المتوقعة، أو مَن لا يتزوّدون بالمعرفة الحاسوبية ليواكبوا المستجدات، ويتفاعلوا مع النصوص الجديدة. ولا نُغفل هنا أن الجمهور صار أكثر عددا بما يناسب المهتمين من مستعملي وسائل التواصل على شبكة الإنترنت، مقارنة بعدد قراء النسخ الورقية للروايات العادية. كما تتجاوز الروايات الرقمية عنصر المكان الجغرافي للمتلقين، والزمن المطلوب لوصول الروايات الرقمية إليهم، والكلفة المالية، وتفتح منبرا للاستجابة النقدية أو التذوقية، أو حتى الإطرائية والشتائمية لتلك الروايات الرقمية.