معالم المستقبل الطريف في قصص 'الهيدرا الرقمية'

القاص الفلسطيني الأصل د. عمادالدين عيشه يقدم مجموعة قصصية برحابة في التفاصيل وخصوبة في الخيال، ويدرج مشرعات إزاحة الزمن نموذجًا عبر فكرة التاريخ البديل مخبرا عن مقدرة ونفس روائي تستدعيه قصة الخيال العلمي.

قدم القاص الفلسطيني الأصل د. عمادالدين عيشه، مجموعته القصصية "من أدب الخيال العلمي والمستقبل"، للقارئ العربي -كما أشار العنوان الموازي لعنوان المجموعة- عبر بوابة ترجمة النصوص القصصية التي كتبها القاص في اللغة الإنكليزية، بواسطة الأديب والمترجم/ أحمد صلاح المهدى، وهو أيضًا أحد كتاب الخيال العلمي، مما جعل لترجمتة شفافية ورقي في استيعاب سمات الأدب النوعي في نسيج القصص.

وطبقا لعنصر المتعة الفنية التي تذوقتها في القصص، نجد قصة "زمن الأبطال" والتى قدمت فكرة الإنتقال في الزمن للماضي، والتي طالما طرق بابها كتاب الخيال العلمي، لكن الجديد هنا هو نسجها في ضوء ثقافة تاريخية، تتصل بالواح ملحمة كلكامش السومرية، والمدونة بالخط المسماري، والتى عدها البعض أقدم قصة مكتوبة في تاريخ الإنسانية.

وتحتوى تحرير لتفاصيل حول مقارنات الحياة بين الحضارتين القديمة والحديثة للعرب، ثم الانتقال للقرن الثاني والعشرين، وتضفير هذه الخيوط جميعًا لتقديم الحكمة، واستقرار سنن العطاء الكوني، وجدل الأجيال، ومن الحكمة الراقية في القصة والتى أراها مفتاحًا للفهم والنصر المبين: "أول قاعدة في القتال هي ألا تواجه عدوًا تعرف أنك لا تستطيع الانتصار عليه؛ لا يوجد أي عار في الانسحاب من ساحة القتال".وحيث العبرة أن الإنسان يجني على نفسه، فهو الجاني والضحية معًا: "حماقة البشر هي هوة بلا قاع".

ويعود الكاتب ليؤكد أن الحق الذى لا تحميه أشواك هو حق مضاع: "وأنقذوا العالم القديم قدم التاريخ .. ليس عن طريق العنف بالمناسبة، بل بالتوازن بين العنف والإبداع".ثم الخاتمة المعبرة للقصة عن التغيير الممكن: "أنه يحمل هذا في دمائه، أن يصنع قدره بنفسه"

والتعبير في القصص يقتني أسلوب المشهد التصويري، فعندما وجد "مصطفي" بطل "ملحمة كلكامش" الهيكل المعدني الغريب أصر أن يمتطيه، ومفتاح المشهد التصويري قائم على تشبيه المسخ  المعدني بالحوت: "كما أنه حرص على أن تظل الحبال ملتفة جيدًا حول الجسم المستطيل طيلة الرحلة، كشبكة صيد تجذب حوتًا رماه الموج على الشاطئ، وبدا ابنه كنسخة مصغرة من النبي يونس عليه السلام".

ويشتغل هذا المجاز دائما علي طول القصص وعرضها، والشواهد النصية كثر، نجتزئ منها:

"كانوا محاطين بالكهنة، والسحرة، يطوقونهم مثل أنشوطة حبل مشنقة بشرية"

"أشجار النخيل تزين المدينة مثل المآذن في عالمهما، والحقول الخضراء تصافح أعينهما في الأفق"

"..عندما رأى البوابات الخشبية العظيمة تفتح، كوحش فاغر فاه لابتلاعهم"

والإنتماء للتراث العربي لم يتمثل فقط في الشواهد النصية الشريفة التى يبثها القاص في قصصه، بل بتمثل القص السحري العالمي في ألف ليلة وليلة، فيصور مرحلة الإنتقال عبر الهيكل المعدني الغريب بطريقة تنتمي لفكرة القص العربيالشهيرة بخروج الجني من المصباح: "تسللت هالة مضيئة من شقوق جسد الشيء المعدني، ثم اجتاحهما دوامةُ من ألوان قوس قزح قبل أن تتحول إلى زوبعة من ضوءٍ ساطح يعمي الأبصار"

ولم يكن الإهتمام بطاقة التعبير المستوحى من التراث منبت الصلة عن الإحساس العروبي، فتشتغل أكثر من قصة بفكرة المكون الثقافي للأمة، وفكرة البحث عن الهوية وتأكيد الأصالة ووسائل مقاومة الآخر العداوني وليس الآخر الحضاري، الذي يسعي للقضاء علي الثقافة من خلال القضاء علي اللغة، يقول المستخرب في القصة التى اتخذت المجموعة اسمها "الهيدرا الرقمية": "لقد استأصلنا لغة هؤلاء القوم، وعاداتهم وملابسهم، لقد قضينا على قيادتهم بأكملها، سحقناهم عسكريا..."، وأنه–المستخرب- يمارس فى سبيل ذلك عملية مسح الذاكرة، كما يمارس آلية سحق الإرادة الإنسانية الحرة، ويتضح في القصة أنه يبحث كي يقتل أى روح تلوحللمقاومة.

وكانت التفاصيل الدقيقة في القصة تساهم في تخيل المستقبل، حيث تدور الأحداث من خلال مشاهد تبادلية بين مشهد المستخرب، وهو المحتل العداوني ومساعده، وبين وسيلة المقاومة والتي تمثلت في ألعاب الفيديو في السوق السوداء، حيث أن المستقبل في القصة يتخيل أن المحتل يقوم بتركيب أقراص مدمجمة وحشرها في جماجم الناس، بتعبير القصة: "لمحو الذكريات وتسهيل إدخال اللغة"، كطريقة لتحقيق خضوع الشعب المبتلى بنكبة الإحتلال، وباعتبارها تقنية لبتر الإرادات الحرة، ويراها طريقة مانعة حاكمة، لكن ظهرت تلك الألعاب والتى احتوت لغتها والتى ُتحمل نفسها تلقائيًا لعقول الشباب، وحققت التنوير للتثوير وتبصير الفتيان لحقيقة الاحتلال وخبثه، وكان السبيل للنصر فكرة التوريث من خلال مسار هذه الألعاب الرقمي، حيث يرى الشباب من خلال لغة الإلعاب الخاصة: "تاريخ شعبه بأكمله، أن يلعب دور كل أبطالهم، أن يعيش المعارك والانتصارات وأن يتعلم من الهزائم. تعلموا إدارة شؤون المدينة ودبلوماسيتها واقتصادها وعلومها. تشريع القوانين الجديدة. إعادة تشكيل مجلس الشيوخ ليمثل الشعب. كل شيء"، هنا نجد الملمح المهم بالمقاومة عن طريق العلم والتاريخ.

ثم تأتي العبارة المضيئة والتى تحمل الخلاصة، وتصف أن المقاومة رحلة مجيدة تنبع من اليقين الذاتي: "أنت تحمل شعبًا معك أينما ذهبت، في قلبك وروحك. وبما أن جمجمتك لا يمكن اختراقها، فلن يشعر أحدًا بشيء"

وقد استهل القاص قصتين من قصص المجموعة بنصين استهلاليين الأول لجلال الدين الرومى، يتحدث عن ناى يشكو آلام غربته بعد اغترابه بقطعه من منبته في الغابة، وينشد صدرًا مزقه الفراق، ويقدم هذا النص الحكمة: "فكل إنسان أقام بعيدًا عن أصله / يظل يبحث عن زمان وصله". فالاختيار هنا يصب في فكرة الهوية ورعاية "اللغة" باعتبارها المكون الثقافي الأهم في الهوية القومية وضرورتها في ظل اجتياح الإنسان العربي برياح العولمة العاصفة.

أما معالم المستقبل الطريف في القصص، فتتضح فى وعي القاص المهموم بهذا المستقبل وتخيله، وفطنته لفكرة العودة للبدائية، مع مزجها بتقنيات حديثة، ليبدو هذا العصر العجيب، الذى يتسربل تقدمه العلمي بالتخلف والوحشية، فسكان المدن يفرون للصحراء، ويجرون أشيائهم بالجمال، والطعام الوفير لهم رفاهية، ويحيون حياة هجينة بين تقدم علمي وحياة بداوة، فالأقراص المدمجة شبه مجانية، من نوع بحجم الجيب، تحشر في الرؤوس. كما تشتغل الإدارة العامة في المستقبل علي فكرة ترميز المعلومات في الأدمغة وابتكار جهاز المسح الدماغي للمواطنين، واستعماله في نقاط التفتيش الحدودية، وتطور أسلحة الفتك فالأباتشي موضة قديمة، وابتكار بنادق الطاقة الطبيعة، واللوح الهولوغرامي ذاتي الشحن، ودوره في التواصل في المستقبل، والعلاقة بين اللغات، وتقنية الترجمات التقنية الفورية بينها،ونفي التخصص الإدراي، والجيل الجديد ونحر الآداب والرومانتيكية، فمرتكز التفوق الرياضيات والهندسة وليس الشعر والخطابة مثل الآباء.

كما اشتغل وعي القاص علي أخطر مشكلات الإنسان الآنية والتى ترسم معالم المستقبل الكئيب، وهو فكرة التلوث البيئي، وخطورته الداهمة: "هل سيظل هناك هواء لنتنفسه في المستقبل البعيد؟ ألن يكون قد استُهلِك حينها؟ وبالتأكيد ستصير الأرض مجدبة حينها ويتبخر الماء في الهواء، وتصير التربة مالحة، والقشرة الأرضية هشة، وُتمسخ الحيوانات والنباتات و... البشر إلى أقزام"

وتحضر البيئة في عالم المستقبل في أكثر من قصة من خلال فكرة التدوير للمخلفات، وكيف تكون عمادًا للاقتصاديات المستقبلية.

وفي الشأن الإداري نجد الوزير ثلاثي المهام، يتولي حقائب وزارات ثلاثة "الطيران / الأمن / مصائد الأسماك" حيث نفي التخصص الذي سجن العقول، والقضاء علي الروتين الممرض للإدارة العامة.

وفي قصة "استبدال الخواطر" حكي حول الطاقة كمورد بيئي، ونضوب مورد طبيعي وهو النفط، وما ترتب علي هذا الشان بإلغاء تخصصات دراسية جامعية، وبيع كتبها لليونسكو باعتبارها تراثًا منقرضًا، لكن لا تتركنا القصص دون شعاع من الأمل مرة بالمقاومة ومرات بالعلم، فطريقة الحل بتوصية قصة الاستبدال: "نحن بحاجة لعقول جديدة منفتحة".

والحل العلمي كان متن قصة "مخلب القط" أيضًا حيث تحفيز طريقة التفكير العلمي في علاج مشكلة البيئة، وتقدم معارف حول الطاقة النظيفة، ومعارف عن الشجرة ودورها البيئي المهم، وتقدم القصة مقابلة بين صور سلبية حول تضييع الناس أوقاتهم، وصور أخرى إيجابية تمثلت في تنمية ملكة التفكير والحل العلمي المرتب، وآليات انتاج هذه الحلول، وتقدم رأيين مختلفين: الأول: "الأشياء الحية تعتني بنفسها"، والرأي الآخر مثل الخلاصة في خاتمة القصة: "لا يوجد شيء مثل الطبيعة، شريطة أن تمد لها يد العون من وقتٍ لآخر!".

وفي القصة أيضًا ملمح مستقبلي طريف حول افكار الابتكار البيئي، فالمخترع يزرع (شجرة متوهجة بالمصابيح الكهربائية التي تعمل بالطاقة الشمسية، ولكنها لا تستمد طاقتها من الألواح الشمسية الباهظة المستوردة من الخارج وتحتاج إلى الصيانة الدورية، بل تستمدالطاقة مباشرة من أوراق الشجرة نفسها!).

هذه المعالم والأسلوب القصصي، ونسيج القصص ذاتها، يبنئ باتجاه أظنه قريبًا من القاص، وهو كتابة الرواية، فرحابة التفاصيل وخصوبة الخيال، وادراج مشرعات إزاحة الزمن نموذجًا عبر فكرة التاريخ البديل، او بتعبير قصة كلكامش "مستقبلكم ماضينا"، وفي قصة الهيدار، عن الجسم المعدني الرسول الذى يقاوم وحشًا، وغيرها تخبر عن مقدرة ونفس روائي تستدعيه قصة الخيال العلمي، وإذا كان د. عبدالمنعم تليمة يتحدث أن أضعف قصة قصيرة هي التي عبارة عن رواية ملخصة، لكن ارى الإستثناء الوحيد من هذه المقولة هو قصة الخيال العلمي، لأنها تحتاج باستمرار لبناء عوالم جديدة بتفاصيل كثر، وإشباع لمعالم هذا المستقبل الطريف المخيف في آن واحد، لذلك أدعو قاصنا للاتجاه لكتابة رواية خيال علمي اعتقد أنها ستكون مثيرة وممتعة ومنذرة في آن واحد.