معركة استنساخ النظام الجزائري

اذا كان عبدالعزيز بوتفليقة رجل مرحلة 1998- 1999، فان احمد قايد صالح يبدو رجل السنة 2019 التي ستكون سنة مصيرية للجزائر والنظام فيها.

استهدفت الثورة التي وقف وراءها الشعب الجزائري منذ مطلع السنة 2019 تغيير النظام وليس الاكتفاء بمنع عبدالعزيز بوتفليقة من الحصول على ولاية خامسة. في الواقع، كان مجرّد التفكير في ولاية خامسة لرجل يعاني من عجز كامل على كل صعيد بمثابة استخفاف بعقول الجزائريين لا اكثر. انتفض هؤلاء بطريقة حضارية وحالوا دون تمكن رجال الحلقة المحيطة ببوتفليقة من الاستمرار في حكم الجزائر عبر رئيس عاجز عن قول ولو كلمة واحدة لابناء شعبه. كان عبدالعزيز بوتفليقة طوال ست سنوات مجرّد غطاء لمجموعة صغيرة حكمت الجزائر من خلاله منذ صيف العام 2013 عندما تعرّض لجلطة عطّلت دماغه وجعلت منه رجلا مقعدا.

هل انتهت الثورة الجزائرية الثانية واستطاع النظام الذي اسسه هواري بومدين في العام 1965 استعادة المبادرة؟ يبدو ان هذا النظام الفريد من نوعه استطاع إعادة استنساخ نفسه بعدما هدأ الشارع الجزائري واكتفى بانهاء عهد بوتفليقة والتخلص من رموز هذا العهد. على رأس هؤلاء شقيق الرئيس السابق سعيد بوتفليقة الذي استطاع ممارسة دور رئيس الجمهورية منذ العام 2013 وارتكب كلّ الأخطاء التي يمكن ارتكابها من اجل الحصول على براءة ذمّة له وللمستفيدين من السنوات العشرين التي أمضاها عبدالعزيز بوتفليقة رئيسا لجمهورية ليس لديها شيء من اسمها. فالاسم الرسمي للجزائر هو "الجمهورية الجزائرية الديموقراطية الشعبية".

اذا استثنينا كلمة الجزائر من هذه التسمية، نكتشف ان الجزائر ليست جمهورية اوّلا. انّها اقرب الى نظام امني اكثر من ايّ شيء آخر. في مطلع العام 1979، بعد أسابيع قليلة من وفاة هواري بومدين، قرّر الجيش من يكون رئيس الجمهورية. كان الخيار بين وزير الخارجية عبدالعزيز بوتفليقة ورجل الحزب الحاكم محمد الصالح يحياوي. اختارت المؤسسة العسكرية – الأمنية ضابطا لا يفهم سوى القليل في السياسة، هو العقيد الشاذلي بن جديد، رئيسا للجمهورية. وجدت في عبدالعزيز بوتفليقة رجلا طموحا لا بدّ من استبعاده كونه يعتقد ان في استطاعته التباهي بشرعية ما تستند الى انّه كان من اقرب الناس الى بومدين. امّا يحياوي، الضابط السابق، فكان رجلا صادقا يؤمن بشعارات عهد بومدين، وهي شعارات ذات طابع اشتراكي. لم تكن تلك الشعارات في واقع الحال سوى غطاء استخدمته مافيا عسكرية – سياسية استفادت الى ابعد حدود من ثروات الجزائر، في مقدّمها النفط والغاز ومن الاجراءات الاقتصادية المبكية التي حولت الجزائريين الى فقراء.

في العام 1998، وجد النظام الجزائري انّ من مصلحته الاستعانة بعبدالعزيز بوتفليقة بعد فقدانه كلّ خياراته السياسية نتيجة إصرار ضابط يمتلك حدّا ادنى من الوعي السياسي اسمه اليمين زروال على ترك موقع رئيس الجمهورية. كانت العودة الى خيار بوتفليقة مجازفة، خصوصا انّ لدى الاخير حسابا قديما يريد تصفيته مع العسكر الذين حرموه من الرئاسة في 1979. امضى عبدالعزيز بوتفليقة عشرين عاما رئيسا بعد انتخابه في نيسان – ابريل 1999. عمل يوميا على اضعاف النظام الأمني – العسكري. لكنّ الذي تبيّن بعد مرور كلّ هذا الوقت وعلى الرغم من تمكن جماعة بوتفليقة في العام 2015 من عزل الجنرال محمّد مدين المعروف باسم "توفيق"، الرجل القوي في البلاد بصفة كونه يمتلك كلّ الملفات الخاصة بكلّ الشخصيات، انّ السلطة الحقيقية ما زالت حيث هي. ما زالت لدى العسكر والمؤسسات الأمنية. خرجت هذه السلطة من يد هؤلاء من دون ان تخرج منها.

هذا نظام قادر على إعادة استنساخ نفسه في كلّ وقت. انّه الجزائر الحقيقية في شعار اسمه "الجمهورية الجزائرية الديموقراطية الشعبية". لا وجود لجمهورية ولا وجود لديموقراطية ولا وجود للشعب الجزائري. كلّ ما هو مطلوب من هذا الشعب هو القبول بما يقرّره العسكر. هؤلاء قرروا ان تكون هناك انتخابات رئاسية في الرابع من تمّوز – يوليو المقبل. سيكون هذا التاريخ عنوانا لمعركة يخوضها الشعب الجزائري الذي سيترتب عليه اثبات انّه ليس عبدا لا لدى العسكر ولا لدى الاجهزة الأمنية التي باتت تمتلك قادة جددا، ليست أسماؤهم معروفة، بعد ادخال "توفيق" الى السجن مع خليفته عثمان طرطاق المعروف باسم "بشير". من هم هؤلاء الضباط الجدد الذين يسيطرون حاليا على الاجهزة الأمنية ويسيرون شؤون البلاد من بعيد؟

يقود الجنرال احمد قايد صالح (80 عاما) والذي استطاع تثبيت نفسه واجهة للمؤسسة العسكرية وللاجهزة الامنية، والذي اختار اللحظة المناسبة للانقضاض على جماعة بوتفليقة، معركة استنساخ النظام الجزائري لنفسه. تأتي هذه المعركة في وقت يبحث الجزائريون عن الجمهورية الثانية التي تعني اوّل ما تعني التخلّص من النظام الذي صنعه هواري بومدين والذي أوصل في نهاية المطاف عبدالعزيز بوتفليقة الى الرئاسة في 1999.

من سينتصر في نهاية المطاف؟ الشعب الجزائري ام النظام؟ هذا هو السؤال الذي سيطرح نفسه في الأشهر القليلة المقبلة، اللهمّ الّا اذا كان الحراك الشعبي الذي حال دون تمكن جماعة بوتفليقة من الحصول على ولاية خامسة له، بدأ يفقد زخمه.

لا شكّ ان الوضع الجزائري دخل مرحلة جديدة بعدما تبيّن ان اجراء انتخابات رئاسية صار امرا واردا. تحوّل اجراء هذه الانتخابات هدفا بحدّ ذاته للمؤسسة العسكرية والأجهزة الأمنية التي تصرّ على احترام نص الدستور ومواده من اجل تنفيذ اهداف سياسية محدّدة.

لا شكّ أيضا انّ لدى المؤسسة العسكرية والأجهزة الأمنية ما تحمي به منطقها وإصرارها على اجراء انتخابات رئاسية في موعدها. هناك تذرّع بانّ أي تأخير في اجراء الانتخابات ستكون له انعكاسات سلبية على الاستقرار في بلد يخشى فيه المواطن العادي انفلات الوضع الأمني.

لا يزال المواطن الجزائري يتذكّر العشرية السوداء او "عشرية الجمر" بين 1988 و1998. لا يوجد مواطن جزائري واحد يريد عودة الاحداث التي شهدتها تلك السنوات العشر التي استخدمت فيها المؤسسة العسكرية كلّ ما تملكه من أدوات قمعية للقضاء على جماعات إسلامية متطرّفة ولدت من رحم الاخوان المسلمين. ارادت تلك الجماعات الاستيلاء على السلطة بكلْ بساطة وجعل الجزائر "امارة" إسلامية على الطريقة الطالبانية.

عاجلا ام آجلا، سيظهر هل سيتمكن الحراك الشعبي في الجزائر من الذهاب الى ابعد من التخلص من عبدالعزيز بوتفليقة... وسيكون قادرا على وضع الأسس للجمهورية الثانية. سيتقرّر ذلك في الرابع من تمّوز – يوليو المقبل. أي في الموعد المقرّر للانتخابات الرئاسية. اذا أجريت تلك الانتخابات في ظل مقاطعة شعبية وفي ظلّ غياب الفرق المفترض ان تنظم تلك الانتخابات وتشرف عليها، يكون النظام الجزائري نجح مرّة أخرى في استنساخ نفسه. معنى ذلك انّه يمتلك قدرة فائقة على القيام بعملية الاستنساخ هذه. فاذا كان عبدالعزيز بوتفليقة رجل مرحلة 1998- 1999، فان احمد قايد صالح يبدو رجل السنة 2019 التي ستكون سنة مصيرية للجزائر والنظام فيها.