"معلمي الأخطبوط" .. لماذا فاز بالأوسكار؟

هذا الفيلم الآسر قد يُغيِّر جزءًا من تفكيرك، وقد يبعث في نفسك الكثير من الأطروحات والنقاشات.
الفيلم يتناول قصَّةً حقيقيَّة لصانع الأفلام الوثائقيَّة "كريج فوستر"
فوستر يروي قصة الفيلم بنفسه مع أخطبوط أنثى أطلق عليها "روزيتَّا" 

في قائمة الأوسكار لعام 2021 فيلم وثائقيّ بعنوان " My Octopus Teacher" أو "مُعلِّمي الأخطبوط"، وقد فاز مؤخرا بجائزة أفضل فيلم وثائقيّ طويل، بعد جوائز أخرى كثيرة تُوِّج بها أو رُشِّح لها. ومع رؤية المُشاهد لهذا الفيلم الذي لا يتعدَّى الساعة وخمسًا وعشرين دقيقةً سيدرك واضحًا ما الذي جعله محلّ اهتمام الآخرين. هذا الفيلم الآسر الذي قد يُغيِّر جزءًا من تفكيرك، وقد يبعث في نفسك الكثير من الأطروحات والنقاشات؛ لكنَّه يقينًا سيلمس نفس مُشاهده، ويبثُّ جرعات من الأمل والجمال والمحبَّة والاختلاف.
إنَّ "الصورة الذهنيَّة" المرسومة للأخطبوط من واقع الأفلام تنقسم إلى شكلَيْن: الأوَّل مُخيف مُرعب؛ حيث كان مادة مُغذِّية لأفلام الرعب التي تتعلَّق بالبحر، واعتمدت هذه الأفلام على التركيز على شكل جسده المُنتفخ وأذرعه المُتعدّدة لترسِّخ في أذهاننا صورة الوحش، وتلصق بنا شعور الخوف - أو التوجُّس على الأقلّ - بمُجرَّد رؤية الأخطبوط.
أمَّا الصورة الأخرى فتكون في الأفلام الوثائقيَّة الاعتياديَّة التي يكون فيها الأخطبوط مجرَّد "شيء" يُدرَس ويُحلَّل، وتسمع الكثير من الإحصاءات عن دورة حياته وتزاوجه، وطعامه، وكونه هو طعامًا من غيره. وهكذا يُعرض أمامك بهيئة "الشيء". فلا تشعر حياله بشعور مُميَّز معيَّن. أمَّا في الفيلم الذي كتبه وأخرجه الثنائيّ بيبا إيرلش وجيمس ريد فيقدَّم لك الأخطبوط بشكل مغاير تمامًا، حتى يزول عنك العجب من اسم الفيلم "مُعلِّمي الأخطبوط".
يتناول الفيلم قصَّةً حقيقيَّة لصانع الأفلام الوثائقيَّة "كريج فوستر"، يرويها هو بنفسه فهو بطل الفيلم، مع أخطبوط أنثى أطلق عليها "روزيتَّا". وقبل الحديث عن العوامل التي جعلت هذا الفيلم مُختلفًا مُغايرًا فلنتعرَّف قليلاً على قصَّته. 
الفيلم يبدأ بفوستر هذا الصانع للأفلام الوثائقيَّة المتعلِّقة بالطبيعة، والذي يمرُّ بالكثير من الضوائق في حياته بين عملٍ مُرهق شاقٍ استمرّ لعامَيْن مُتتاليَيْن، ومشاكل أسريَّة مع زوجته وابنه.
تدفعه تلك الضوائق للذهاب بعيدًا بعدما صار عقله لا يحتمل كمَّ الضغط الواقع عليه، فيذهب إلى "جنوب أفريقيا" على شواطئ المحيط عند منطقة تُسمَّى "رأس العواصف". وبدأ فوستر بالغوص مع أنبوب غوص فقط - الذي نراه مع السابحين في حمَّامات السباحة والغوص غير العميق - وهذه الأداة لا تناسب المنطقة العميقة التي ذهب إليها. وهُنا أحسَّ فوستر بالسعادة؛ حيث يتيح له ذلك التعامُل كحيوان بَرِّمائيّ - أيْ حيوان يعيش على البر وفي الماء على السواء -. والماء أيضًا بارد جدًّا ويحكي لنا كيف يتأقلم جسدك شيئًا فشيئًا مع الماء البارد، حتى تشعر باحتياجك إلى جرعة منه.
ثمَّ يكتشف فوستر منطقة مميزة جدًّا، بعيدة عن المياه الهائجة، تمتاز بإحاطتها بغابة من أعشاب البحر مما يجعل الأجواء في الداخل هادئةً، ولا تأثير للتيَّار البحريّ فيها. وفي أثناء تأمُّله وتجواله في المخلوقات من حوله يرى شيئًا غريبًا؛ شيئًا غير معروف جوهره مُكوَّر تلتصق به قواقع. ثمَّ فجأةً تظهر بطلتنا الفاتنة؛ الأخطبوط الذي غيَّر رحلة فوستر، بل غيَّر حياته كلَّها. ويستمرُّ الفيلم لقُرابة العام من الأيام يستعرض صداقة قامت بين فوستر وبين أخطبوطه، وما حدث فيها من تأرجُحات وتحوُّلات في إبداع صادق.

الفيلم "الوثائقيّ" - وتحتها خطوط كثيرة - قد يذكرك بأفلام الرومانسيَّة، بل قد يذكِّرك بأفلام علاقات الصداقة المتينة. فقد قُسِّم على حسب علاقة فوستر بالأخطبوط فعلاً. الدقائق العشر الأولى تشرح البداية في فصل تمهيديّ، والدقائق العشر الأخرى تتناول أوَّل علاقة فوستر والأخطبوط حتى الوصول إلى مرحلة الثقة، ثمَّ تتحوَّل الثقة إلى شكّ، ثمَّ إلى إعادة ثقة، ثمَّ رؤية وتأمُّل بعيد في التجربة، وإكمال مع الأخطبوط حتى النهاية.
ومن هُنا نرى أوَّل العوامل - وهي خمسة عوامل في نظري - التي غيَّرتْ تكوين هذا الفيلم عن كونه فيلمًا وثائقيًّا اعتياديًّا عن الطبيعة، إلى فيلم بديع في تكوينه وصناعته. العامل الأوَّل هو النجاح في إدخال ظهير "الدراميَّة" على الفيلم؛ فبعض سطور هذا المقال قد تشعرك أنَّنا نتحدث عن محمود ياسين ونجلاء فتحي، لا عن أخطبوط ومُخرج. ولمْ تبدأ عناصر الدراميَّة في التكامُل مع العمل، أو صناعة بنائه منذ التقائهما، بل قبل ذلك اللقاء؛ حيث يُعرض لنا الفصل التمهيديّ بطريق دراميّ تمامًا. في صورة هذا الرجل الهارب من حياته وضغوطه والذي يخوض تجربةً تغيِّر حياته.
ثمَّ نلحظ دراميَّة التفكير بشكل آخر فيما حوله من حياة جديدة، والأدوات التي يمتلكها، بل مراحل استكشاف البحر هناك. ثمَّ تأتي دراميَّة العلاقة بينه وبين الأخطبوط لتتوِّج هذا البناء الدراميّ. وهُنا نرى النجاح في إدخال التأثير "الدراميّ" وإبعاد المُشاهد عن التأثير "الوثائقيّ" الذي يتعلَّق في الغالب بمستوى الحقيقة، لا بصناعة الدراما وفعلها في النفس البشريَّة. ثمَّ نجد الفيلم يتجوَّل بنا في كامل تطورات "دراميَّته" في مراحل قصَّة الصداقة إلى نهايتها.
ولعلَّ العامل الثاني من عوامل اختلافه هو "شاعريَّة" العمل؛ فلمْ يكتفِ العمل بتقديم وجه دراميّ لعلاقة صداقة غير اعتياديَّة، بل أضاف لها الكثير من الشاعريَّة في التناول من حيث التعمُّق في هذه الصداقة وأبعادها، ومن حيث رهافة هذا التعمُّق. وأضاف الكثير من الشاعريَّة في التقديم صورةً وصوتًا. ولعلَّ عامل الشاعريَّة قد أضاف للتكوين الدراميّ عنصر التأثير الراقي. فليست الشاعريَّة شرطًا لوجود الدراما، بل هي عنصر يُضاف في موضعه ليحدث أثرًا ويشكِّل العمل تشكيلاً خاصًّا.
والعامل الثالث هو بكارة الصورة؛ فما يراه المُشاهد هو صورة بِكر بريئة واضحة نقيَّة، وكلُّها تختلف عن الصفات المُرتبطة بعالَم المدينة الخانق الذي يعيش فيه. ولا شكَّ أنَّ الاختلاف الكُلِّيّ هذا داعٍ للانبهار، بل داعٍ للوقوع في الحبّ؛ فلا يعتمد فقط على أنَّ النفس متطفِّلة لاكتشاف المُختلِف والنظر إليه، بل يضيف العنصرَيْن السابقَيْن ليُكمل المنظومة الباهرة. وشقّ آخر في بكارة الصورة هي "البكارة اللَّونيَّة"؛ حيث تجد في هذه الطبيعة منظومةً لونيَّةً بديعةً الخلق والتشكيل والتضافر بأصل وجودها، وهذا لا يعني عدم وجود مُعالجة لونيَّة للشريط الفيلميّ.
أمَّا العامل الرابع فينشأ عن مجموع العوامل الثلاثة السابقة وهو الإشعار بالساحريَّة. وأعني هنا بالساحريَّة هو إحساسك بالانتقال من عالَم الواقع إلى عالَم السحر والحكايا القديمة، الذي يصنعه هذا العالَم المُغاير من جهة، وتلك القصَّة الدراميَّة من جهة أخرى. وكأنَّ تأثيره يشبه تأثير تيار "الواقعيَّة السِّحريَّة" في الأدب؛ حيث تدخل عالَم السحر مع بقاء واقعيَّة العلاقات.
والعامل الأخير هو الموسيقى. وقد تُشعرك كلمة "موسيقى" في عمل فيلميّ بشعور الاعتياد، لكنَّ العمل الجادّ والشاقّ الذي بذله "كيفين سموتس" في صناعة موسيقى الفيلم قادر على نقل أداة الموسيقى الفيلميَّة من خانة الاعتياد إلى خانة الإبداع المُغيِّر. فموسيقى الفيلم الثريَّة والمُعقَّدة كانت قادرة على مواكبة العمل في مراحله كافَّة لتصنع التأثير الصائب، وتوجِّه المُشاهد إلى تفاعُل كامل مع ما يراه أمامه.
ومن عناصر فيلم وثائقيّ قائم على رواية الراوي صوتُ الراوي نفسه. ولمْ يكُن صوت فوستر هذا الصوت الذي يجاري عملاقة التعليق الصوتيّ القادرين على انتشال انفعالك من صدرك، بل صوته صوت رقيق أقرب إلى السطح منه إلى العُمق بالمقارنة بالمُعلِّقين المُحترفين، أو هؤلاء الذين يُختارون للبطولة المُطلقة لأفلام طويلة. (فكَّر في صوت مورجن فريمان مثلاً أو صوت أنتوني هوبكنز).
ولكنْ عوَّض هذا العنصر صدق التجربة الشعوريَّة وحقيقيَّتها؛ فمَنْ يروي ليس مُستأجَرًا ليروي لك، بل هو الشخص نفسه الذي خاض التجربة بانفعالاته وتأثير الذكريات الحقيقيَّة عليه والتي أخرجتْ صوتًا مُلائمًا ينتقل بطبيعيَّة بين مفاصل المعاني. وقد أثَّر أيضًا أنَّ أداة التعليق الصوتيّ لمْ تكُن كاملة، أو ليس توصيفًا صحيحًا لما حدث في الفيلم. فالرجل يظهر بجسده في مشاهد تمثيليَّة، ثمَّ يظهر جالسًا يروي لنا الأحداث. ولظهوره بجسده تأثير مُضاف على الصوت وحسب.
إنَّ فيلم "مُعلِّمي الأخطبوط" فيلم يستحقّ أنْ يراه المُشاهد بكلّ حواسه، وينسى تمامًا الفكرة الاعتياديَّة عن "الفيلم الوثائقيّ". فهذا الفيلم البارع يستطيع أنْ يغيِّر في مُشاهده الكثير، فضلاً عن رُوحه التي سيُنعشها حتمًا بما يحمله من صدقٍ وخلقٍ.