مفكرو اجتماع فرنسيون يناقشون 'التواصل والعمارة والمدينة'
يقتصر النقد المعماري بشكل عام على الدوريات المتخصصة، حتى وإن كانت الصحافة الوطنية والإقليمية تثير بعض حفلات التدشين مع صور المحافظ وهو يقص الشريط...ومن ثم لا ينال المكانة نفسها في وسائل الإعلام ولا لدى الجمهور. على الرغم من التصوير لم ينفك منذ اختراعه عن تقديم التحولات التي تطرأ على المدينة، وحفظ الذاكرة العمرانية وتحديد الحدث الحضري. من هنا تأتي أهمية هذا الكتاب "التواصل والعمارة والمدينة" الذي أشرف عليه تبيري باكو، ويساهم فيه مجموعة من الكتاب ومفكري علم الاجتماع والتاريخ الفني الفرنسيين من أوائل الإصدارات باللغة الفرنسية الذي يتطرق لموضوع العلاقة بين المدينة والعمران والتواصل/ الصحافة من جوانبها المتعددة.
يقول تبيري باكو في كتابه الذي ترجمه بشير زندال وصدر عن مؤسسة أروقة، أن التمدن ليس فقط هو التدفق الهائل للمهاجرين، أغلبهم ريفيون، إلى مدن يتضح أن مقياسها الديموغرافي يتعاظم ومحيطها العمراني يتمدد. إنها أيضًا عملية ثقافية تعمل على شيوع بعض القيم الاجتماعية والمواقف السلوكية المتنوعة (فيما يخص الملابس والغذاء والتعليم والجنس والعائلة... إلخ). لقد أصبحت المدن فقاقيع من الثقافات تتواصل مع ما وراء حدودها الجغرافية، وهو ما يميزها ويجعلها تدخل في مزيج من المعلومات والإشاعات.
ويرى الكاتب والمؤرخ وعالم الاجتماع ريتشارد سينيت في مقالته المأخوذة من كتابه "مدن الروح" إن تدهور فن تصميم المدينة إلى حد كبير في منتصف القرن العشرين. وبقولي هذا، أود أن أعرب عن مفارقة ما، لأن المصمم يتمتع بترسانة من وسائل التكنولوجيا (مثل الإضاءة في المناطق الحضرية أو بناء الجسور أو حفر الأنفاق أو أدوات البناء) والتي منذ قرن فقط لم يكن لدى المهندسين المدنيين أدنى فكرة عنها: لدينا الكثير من الوسائل في تصرفنا أكثر من الماضي ولكننا لم نستخدمها بما فيه الكفاية استخداما إبداعيًا. أيضا بالإمكان أن نعزو هذا التناقض إلى خطأ جوهري، وهو الإفراط في الوقت نفسه في الأشكال البصرية للمدينة ووظائفها الاجتماعية. فالتكنولوجيا التي سهلت من إمكانية التجارب كانت خاضعة لسلطة تتطلب النظام والتحكم. بشكل عام، فإن المهندسين المدنيين قد توقعوا منذ نصف قرن هيجان السيطرة التي تنظم التخطيط الحضري الحالي. وقد فقد التخيل الحضري كل حيوية جراء الضغوط والقيود الدقيقة. وهو ما شوه التخطيط الحضري الحديث، إنه الإحساس بالزمن، ليس زمن الحنين ولكن زمن استشراف المستقبل الذي يتخيل المدينة كمشروع تتغير التخطيطات فيه مع تغير الاستخدامات، وهو ما ينقصنا باختصار، إنه تصور حضري كانت التخطيطات قد توقعته ولكنه مفتوح على اللامتوقع.
ويقول "بدأ العصر الجليدي للإبداع المديني منذ بداية العشرينيات من القرن العشرين مع مشروع "بلان فوازان" للمهندس المعماري لو كوربوزييه لمدينة باريس. فقد تخيل المهندس استبدال جزء كبير من المركز التاريخي لباريس بمبانٍ متطابقة كليًا على شكل حرف X؛ الحياة الاجتماعية على مستوى سطح الأرض سيتم استبعادها؛ سيتم تنسيق استخدام جميع المباني وفق تصميم موحد. أصبح هذا الواقع المرير حقيقة في عدة أشكال. فقد أثر هذا النموذج من البناء الذي وضع بحسب هذا التصميم على الإسكان العام من شيكاغو إلى موسكو وأصبحت المساكن الاجتماعية عبارة عن مستودعات بائسة. تحقق التدمير المتعمد لكل نشاط حضري تخيله لوكوربوزييه من خلال نمو الضواحي من أجل الطبقات الاجتماعية الوسطى، ومن خلال استبدال مراكز المدن بمراكز تجارية متخصصة وأحياء آمنة ومدارس ومستشفيات صممت لتكون أبنية جامعية معزولة عن العالم. أما نتيجة هذا الإفراط في التنظيم فهي هشاشة المدينة "المدينة القابلة للتفتت". تدهورت البيئة الحديثة في المدن بسرعة أكثر من النماذج الحضرية الموروثة من الماضي. ولأن الاستخدامات تتطور فإنه يتم هدم المباني بدلاً من تحويلها؛ في الحقيقة، الإفراط في تخصص الشكل والوظيفة جعل البيئة الحضرية على وجه الخصوص عرضة للمخاطر.
ويشير إلى أن فكرة المدينة المفتوحة ليست فكرتي: استحقاقها يعود إلى المهندسة المدنية الكبيرة جاين جاكوبز التي عارضت رؤية المدينة التي دافع عنها لو كوربوزييه. حاولت أن تفهم ما الذي سيحدث عندما تصبح الأماكن مزدحمة ومتنوعة في الوقت نفسه، على سبيل المثال الشوارع والميادين التي يترددون عليها دائمًا واستخدامها من الخاصة والعامة في الوقت نفسه. وقد حاولت جاين تعريف الاستراتيجيات التخصصية لتنمية المدينة التي قد تتخلص من قيود التوازن والتكامل ولو لمرة واحدة. وهذه الاستراتيجيات تهدف إلى تعزيز التعديلات والإضافات الأصلية إلى المباني الموجودة من قبل. وبالتالي فإن دور المصمم الراديكالي يتمثل في تعزيز التنافر. ومن هنا جاءت عبارتها الشهيرة: "إن كان الازدحام والتنوع يخلقان الحياة، فإن الحياة الناتجة عنهما فوضوية". المدينة المفتوحة مثل نابولي والمدينة المغلقة مثل فرانكفورت. البناء البصري للزمن التطوري هو الخاصية النظامية للمدينة المفتوحة. لتوضيح هذا الكلام أكثر، أود أن أصف ثلاثة عناصر مؤسسة للمدينة المفتوحة:ـ أماكن العبور ـ أشكال لم تكتمل بعد ـ حكايات التنمية.
وفي مقالته "المخالطة بوصفها نوعًا من أنواع التواصل" يقول ثييري باكو "عديدون أولئك الممارسون للعمل (مهندسون معماريون ومهندسون مدنيون) المقتنعون بتعزيز التواصل بين السكان وبين تخطيط الأماكن المخصصة لهم. ما زلنا نتذكر رد مدام أربل في فيلم مون أونكل (Mon Oncle) (1959) الذي اخرجه جاك تاتي، حين زارها أخوها في منزلها وكانت تريه أرجاء المنزل: "كل جزء يتواصل مع الآخر!"، كانت هي منتشية تاركة محاورها في حيرة".
وحول العمارة الناطقة والمدينة الفاضلة، يضيف "كان يراد مسبقًا مع "العمارة الناطقة" (ظهر هذا المصطلح في نهاية القرن التاسع عشر)، أن يعبر الشكل عن الوظيفة، على الأقل أن من يمر من أمام المبنى يكون بإمكانه أن يخمن من سيرحب به. وهكذا، أعطى نيكولا لو دو في تصميمه الشهير لمشروع سالان رويال، أرك إيه سينان لكل بناية معنى رمزي. "اخترع لودو ـ كما كتب أنثوني فيلدر ـ في البداية "القبة" التي تذكرنا بشكلها المنمق بالفروع المنحنية للكوخ التقليدي. تشكلت الواجهة المثلثة للشرفات من سقف ذي انحدار ضعيف أعلى المداخل. استوحاها لودو من شكل جذع الشجرة، واستخدم للحوائط كتلًا خشبية مرتبة عموديًا والتي شكلت نظامًا جديدًا. "الوصفة بسيطة" كما يقول؛ استعار لودو هذه الفكرة من منازل الحطابين. المطابقة بين التنسيقات "الغابوية" التي يتخيلها وبين النشاط الذي يريد إظهاره ربما كانت أيضًا أكبر هنا: مسرح عمل الحطاب جلب له الأفكار الأولى. تم إنزال البلوط من الغابة ثم القيام بعملية شدها الواحدة إلى الأخرى، ثم ربطها مع الخشب المجاور. لم تكن المرة الأولى التي تكون فيها العمارة قد تشكلت مع قطع أخشاب، وهكذا فإن العمارة قد قالت ما تقدم، إنها تكرر وظيفتها بطريقة أو بأخرى من خلال مناجاة ثابتة في ترتيب المواد. رسم لودو أيضًا مكانًا للرغبات الجنسية، تدعى أوكيما بحسب مخطط يتشابه مع قضيب منتصب.
ويقول إن كان الطوباويون يتخيلون، أو على الأقل بعضهم، وجود مبانٍ ستعمل أشكالها على تعزيز سلوكيات جديدة تواصلية، فإن الشيء الأساسي الذي بقي هو التغيير في القيم التي تحكم المجتمع (علاقات جديدة في العمل والترفيه، والحب والجنس والسلطة والسياسة والمعرفة والتعليم... إلخ.). لا وجود لأي أوهام حول أهمية البناء بالنسبة لتنفيذ مدينة أفضل... إن كون بيوتنا مصنوعة من الزجاج لا يعني أن العلاقات بين الأشخاص تقوم على الشفافية، كما كان يعتقد الروائي الروسي نيقولاي تشيرنيشفسكي في روايته "ما العمل؟ الناس الجدد" الصادرة عام 1863، وهي رواية ستحرك قراءتها دماغ الشاب لينين، بحسب أسراره، وسيكتب لينين بدوره كتاب (ما العمل؟) والذي سيصبح أحد مرجعيات البروباجاندا البلشفية، والذي نعرف فيه هموم التحكم بالتواصل! ومع ذلك وجد رجال ونساء آمنوا بصدق بالشعارات الثورية ومنهم مهندسون معماريون، "غيروا الحياة" أو شاركوا في "تغيير الحياة". على العموم، ليس هذا الموضوع أكيدًا.
وفي مقالته "المدينة الكبيرة والمصوِّرون الفوتوغرافيون في القرن التاسع عشر:وقائع الأحداث وإحصاء التراث" ينطلق أستاذ تاريخ الفن المعاصر في جامعة إكس جيرار مونييه منالوجود السريع لأنشطة المصورين في المدينة الكبيرة منذ 1840م وتأثيرها على برامج التقاط الصور، ومن ثم يسلط الضوء على المصورين الذين احتلوا عفويًا الأحداث الحضرية ـ مواقع العمل والحوادث التاريخية ـ والذين تناولتهم الطلبيات بسرعة، كما يسلط الضوء على الخطوات الأولى نحو التراث التاريخي. وتدريجيًا سيتم إدارة هذين الجانبين من قبل المصورين والراعين لهم حول نموذج لنشاط الخدمة. يقول "كانت التجارب الأولى لرواد المصورين خلال القرن التاسع عشر خارج المدن الكبرى: وليام هنري فوكس تالبوت (1800-1877) في مبنى لاكوك آبي، ومقر إقامته في مدينة ولتشاير؛ وجوزيف نيسفور نيبس (1765 -1833) في مدينة شالون سور ساون، مسقط رأسه، حيث أدار أعماله مع أخيه كلود منذ بداية القرن التاسع عشر. إن متابعة وتكريس اختراع التصوير قد اعتمدا على إمكانات المراكز الحضرية، من جهة لأسباب عملية (توافر المواد الكيميائية الضرورية وقرب المعامل البصرية) ومن جهة أخرى لأسباب اجتماعية واستراتيجية (السوق الوليدة لتصوير البورتريهات وأماكن المعارض وإنشاء أول جمعية للمصورين، وأسباب أخرى). لقد كان تموضع التأمين الاجتماعي في العواصم من قبل السلطات العليا للولايات أمرًا عرضيًا: في عام 1839، في باريس أعلن فرانسوا أراجو رسميًا اختراع نيبس وداجيير ـ الداجييريوتيب ـ عن طريق التواصل مع أكاديمية العلوم. وقد قام فرانسوا برونيه بإبراز متابعة اختراع نيبس من قبل داجيير، ذلك الشخص المعروف جيدًا في باريس، حيث قام داجيير بذلك العمل من خلال مؤسسة بدأت نشاطها عام 1829. وفي لندن عام 1842، تسلم تالبوت ـ وهو مخترع النيجاتيف الكالوتيب ـ ميدالية رومفورد من الرويال سوسايتي، وفي عام 1844، ربما كان هو أول من قام بتصوير معلمٍ شهيرٍ أثناء الإنشاء، إنه عمود نيلسون في ميدان ترافلجار. هنالك العديد من المصورين الذين اهتموا بمناظر الأعمال الفنية أثناء إنشائها: وهكذا ولد برنامج لدورية محلية جديدة، متخصصة في شأن التصوير الفوتوغرافي. ثم سرعان ما ستعترف السلطات المحلية وتستفيد من هذه الدورية المختصة بالتصوير الفوتوغرافي.
ويؤكد مونييه أن هذه الظاهرة الإقليمية لها آثارها المعقدة: لم يتعلق تدشين التصوير الفوتوغرافي في المراكز الحضرية الرئيسية في بداياته بوجهة نظر المعلومات الوثائقية فقط، ولكن أيضًا بالتحليل التاريخي والنقدي. يباشر المصور الفوتوغرافي، وهو ناشط ديناميكي، تبادلاً مثمرًا: فهو يسكن في المدينة ويستفيد من أعماله، بعد البورتريه، أصبح لديه مناظر الورش أثناء العمل، والمعالم، والمواقع الحضرية، والصور البانورامية. أما في مجال التراث، فإن الوسط الجديد تمسك بوضوح بأن يمشى على خطى الألبومات المنشورة بطريقة الليثوجرافي (الطبع على الحجر) وهي العملية التي أرشدته إلى الطريق. تم تأجيل هذه المبادرات بسرعة بسبب الطلبيات.