مقاربة الحدث السوري وفق مصطلحي المواطنة والأقليات
لم يعتد السوريون خلال حُقبة حُكم الأسد على إستخدام المصطلحات بشقيها السياسي أو الإجتماعي في أي طرح يتعلق بالملف السوري، ويعود ذلك في الأصل إلى تغييب وتهميش أي مسار سياسي يُمكن أن يؤدي إلى حياة سياسية يرتكز عليها السوريين في مناقشة واقع بلدهم. لكن الحدث السوري والذي طويت من خلاله صفحة حُكم آل الأسد، فُتحت بموجب ذلك صفحة جديدة في تاريخ سوريا. هي صفحة تختزن الكثير من الهواجس والتحديات في رؤية سوريا الجديدة، فضلاً عن أن الحدث السوري الجديد طفت على سطحه مفاهيم ومصطلحات جديدة كانت حتى وقت قريب من المُحرمات السياسية في الخطاب السياسي السوري، وأبرز هذه المصطلحات هو مفهوم المواطنة والأقليات. فالنظام السابق لطالما إدعى حماية الأقليات وعمل على توظيف هذا الأمر في ترسيخ وجوده السياسي، الأمر الذي كان له تأثيرات واضحة على مفهوم المواطنة، وأدى بشكل مباشر إلى خلق مسار الانتماءات الضيقة والإحتشاد الفئوي.
بهذا المعنى فإن إعادة إستخدام مصطلحي المواطنة والأقليات، يحتوي الكثير من الإشكاليات في الرؤية والمفهوم حتى الآن، وبذات السياق فإن الحديث عن الأكثرية والاقلية يجب إقصاءه عن المسار الأهم المُتعلق ببناء سوريا الجديدة، وإستبدال ذلك بمصطلح المواطنة الذي بات اليوم وبحكم الأمر الواقع محل نقاش واسع بين السوريين الذين تتعالى أصواتهم حيال رفض إستخدام مصطلح الأقليات. فالأخير وبحسب كثيرين يُعد عائقاً في بناء سوريا الجديدة التي يجب أن تُبنى على أسس المواطنة وليس على أساس التقسيمات الطائفية أو القومية. ولا بد من القول في هذا الإطار، أنه في الحالة السورية لم تُشكل التنوعات الطائفية أو المذهبية اي تأثيرات سلبية على حالة المجتمع السوري ما قبل حُكم آل الأسد. لكن ثمة عوامل كثيرة ومتعددة أسهمت في إحداث حالة من الشرخ بين المكونات السورية بفعل سياسات النظام السابق التي دمرت التنوع السوري سياسياً واجتماعياً.
ما يُطرح اليوم حيال مسألة المواطنة يُعد من أهم الصيغ التي يُعول عليها لتجاوز ومعالجة ثنائية الأكثرية والاقلية، وبطبيعة الحال فإن مسألة المواطنة تُمثل بُعداً وطنياً متكاملاً، وتضمن العدالة والمساواة والحقوق الإنسانية، وأعمق من ذلك فإن ترسيخ مسألة المواطنة يؤدي تلقائياً إلى إنصهار السوريين أقلية وأكثرية في المجتمع، ويصبح لجميع السوريين حق المشاركة في جميع مفاصل الحُكم في سوريا الجديدة. لكن ضمن ذلك فإن سقوط الأسد مثّل في واقع الأمر تحدياً لا يُمكن تحييده بسهولة عن المسار السوري. هذا التحدي ليس وليد لحظة سقوط نظام الأسد، بل يعود إلى بداية تولى حزب البعث مقاليد السلطة لتبدأ بعد ذلك النزعات الطائفية، وقيام حافظ الأسد "بعلونة سوريا"، وإقصاء باقي الطوائف والأقليات عن مفاصل الدولة، وهذا ما تابعه بشار الأسد إبان وراثته الحكم، حيث عمل على تطبيق سياسات أبيه مع إستثناءات طائفية محدودة بغية إيهام الجميع بأن حامي الأقليات.
لكن قبل حُكم البعث وآل الأسد، كانت سوريا عبارة عن نسيج إجتماعي مُكون من طوائف قوميات متعددة، وكل هذه الطوائف والأقليات كانت متجانسة وتعيش في حالة من السلم الأهلي والمجتمعي، وهذا ما ترجمه تعايش الأقليات مع جميع المكونات السورية، حيث إنصهر الجميع في المجتمع السوري، ولم يُكن هناك أي تميّز عرقي أو طائفي، بل ما كان سائداً هو مفهوم المواطنة الذي ألغى ظواهر التكتل وفق صبغات طائفية وقومية. فالسوريون كانوا حين ذاك يُديرون سوريا بناءً على تكريس مفهوم المواطنة واقعاً. ولنا في ذلك مثالاً حقيقياً عندما تسلّم فارس الخوري الرئاسة بعد الاستقلال وهو من الطائفة المسيحية، ولكنه كان يؤمن بالمواطنة، وقاد الدولة فترة من الزمن ومثّلها في جميع المحافل الدولية، وهذا دليل واضح على إنصهار الأقليات في مفهوم المواطنة.
حقيقةً فإن السؤال الأكثر أهمية بالنظر إلى سوريا المستقبل، يكمن في إمكانية تحييد مفهوم الأقليات وتعزيز الخطاب الجديد الذي يقوم على مسألة المواطنة التي تضمن المساواة بين جميع السوريين. وهذا ما يجب على النُخب السورية التركيز عليه في أي نقاش يخصّ الواقع السوري الجديد، خاصة أن المواطنة كمفهوم وممارسة تلقى صداً واسعاً بين السوريين الذين ينظرون إلى الطائفية كعامل تهديد يطال سوريا التي ينتظرها أبناؤها، مع الإدراك بأن القوى الإقليمية والدولية تعمل في سياقات مختلفة هدفها الرئيس تعزيز الطائفية بغية تحقيق مصالحها. وهذا ما يجب على السوريين في هذا التوقيت التنبه إليه، والحرص على نبني مفهوم المواطنة على إعتبار أنه الخطوة الأهم والرئيسية لبناء دولة العدالة والديمقراطية.
مع إسقاط نظام الأسد تمر سوريا بمرحلة يُمكن تسميتها بالإنعاش السياسي، وتمكن خطورة هذه المرحلة بأن مناعة سوريا والسوريين ضعيفة حتى الآن بفعل سياسات آل الأسد على مدى عقود خمس، وثمة من خلال هذا الواقع جاذبية للتدخلات الخارجية لإقتناص الفرص السياسية والعمل على تقسيم سوريا، وهذا ما يُحتم على السوريين كافة تعزيز الوحدة الوطنية عبر تفعيل المواطنة. فمستقبل سوريا يعتمد في العمق والمضمون على قدرة السوريين لجهة الإنتقال إلى عقد إجتماعي جديد ركيزته الأساسية "المواطنة" التي تضمن حقوق السوريين بعيداً عن طوائفهم وإنتماءاتهم، وهذا ما يقطع الطريق على أي محاولة خارجية لعرقلة مسار السوريين نحو سوريا المستقبل.