سوريا الجديدة بين الممكن والمأمول.. تحديات لا حدود لها

الحدث السوري ينبغي له أن يُعاد ترميمه عبر حياة سياسية حقيقية، والأهم أن لا يتم الإنفراد بالحُكم.

يفرض الواقع السوري بمعطياته وعناوينه الحالية تعقيدات ناظمة لمرحلة ما بعد الأسد. هذه التعقيدات ليست ذات منشأ سياسي بحتّ، فسوريا تاريخياً تملك تجارب سياسية غنية ما قبل حُكم البعث وآل الأسد. لكن ما ينتظر سوريا الجديدة من تحديات نشأت بُحكم ما فرضه نظام البعث من سياسات ألغت الكثير من الأفعال السياسية المؤثرة على مدى أربعة وخمسين عاماً. نتيجة لذلك فإن إلغاء العمل الحزبي وإقتصاره على الحزب الواحد جعل من المجتمع السوري طيفاً واحداً بحريات معدومة. وإن ظهرت أحزاب وتيارات سياسية خلال الأزمة السورية، إلا أنها نشأت بحكم الأمر الواقع، وجراء سياسات النظام السوري السابق تُجاهها لم تتمكن من وضع الملف السوري على الطُرق السياسية الصحيحة. وهنا لسنا بصدد تقييم ومراجعة ما سبق، لكن هذا الأمر قد يكون له تأثيرات كثيرة تُعيق إلى حد ما رؤية سوريا الجديدة كما يريدها السوريون.

الحدث السوري لا يمكن إختزاله بفصائل خلعت زيّها العسكري وإرتدت ثياباً مدنية وتعمل في إطار وضع الأسس والتصورات لسوريا الجديدة. فالمرحلة القاسية لم تبدأ بعد، ولعل أسوأ السيناريوهات المتوقعة حيال سوريا ما بعد سقوط الأسد، تتمثل في فرض نظام رئاسي على قاعدة من حرر سوريا يملك القرار والخيار السياسي بكل مفاصله، وتالياً فإن الإمساك بالسلطة هو مرض مزمن لكن علاجه بالطرق السياسية قد يحتاج وقتاً طويلاً بناءً على تجربة حُكم آل الأسد. وبين هذا وذاك فإن المشهد يبدو أن هناك من يُمسك بزمام السلطة تزامناً مع حالة من اللاإستقرار التي تفرض نفسها على عموم الجغرافية السورية. وهنا يجب التأني والنظر إلى الطريق المتعرج الذي بدأت تتضح معالمه، وقد لا يستوي هذا الطريق عبر عقد مؤتمراً للحوار الوطني والذي حدثون مراعاة عناوين الحدث السوري وأولوياته، ليأتي لاحقاً الإعلان الدستوري والذي لم يكن بذات السياق كما يرغب السوريون، وبالتالي فإن كل ما سبق لن يكون سبيلاً للتأسيس لمرحلة إنتقالية تُختم بدستور ورئيس وإنتخابات، لكن كل ذلك بحسب تصريحات السيد أحمد الشرع قد يستغرق سنوات أربع! وربما أكثر.

زوار دمشق يحاولون تأهيل الحُكام الجُدد، لكن بالتوازي ثمة ضرورات تفرضها التجارب السابقة لنظام الاسد، وما صنعه من كوارث جراء الحُكم المُطلق على مدى عقود خمس، وربطاً بما سبق فإنه من غير المتوقع أن يكون أي مسار سياسي قادم بوابة يُفرض من خلالها على الحُكام الجُدد مرحلة إنتقالية بمسارات واضحة، كما أنه وإن تم فرض المرحلة الإنتقالية فإنها لن تكون سريعة تنقل السوريين إلى واقع جديد طالما أن من يديرها "حكومة إدلب" وهذا ما يراه غالبية السوريين، وفي العمق فإن ما يريده السوريون هي مرحلة إنتقالية يكون عمادها الرئيس جميع السوريين بتنوعاتهم ومشاركتهم في السلطة، وتالياً إنجاز الدستور والذي سيكون ناظماً لأي مسار سياسي قادم من إنتخابات رئاسية وبرلمانية.

بهذا المعنى فإن تطمينات الإدارة الجديدة ودعوات حماية الأقليات والتسامح وإقرار القانون، يراها كثيرون غير كافية خاصة مع المشاهدات الكثيرة التي تُنشر وتُظهر أن التصريحات والتطمينات لا تتسق والواقع في الكثير من المناطق السورية، وهذا الأمر يقتضي عدم توظيف "السلفية الجهادية" في المسارات السياسية المقبلة، وما يجب أن يكون فعلاً وواقعاً هو تحقيق المواطنة والتي هي عماد أي سلطة. وفي السياق نفسه فإنه من الصعب على "حكومة إدلب" إدارة سوريا بعد سقوط الأسد، وما تحتاجه القيادة الجديدة هي معادلة سورية - سورية، يُشارك من خلالها السوريون في الداخل والخارج لإعادة إعمار سوريا التي هُدمت وقُسمت وفق مصالح النظام السابق وحلفاؤه.

المعادلة السابقة قد لا تستطيع الإدارة السورية الجديدة هندستها أو إدارة ما تحتاجه لتطبيقها واقعاً، وبالتوازي فإن تركيا وطموحاتها الجامحة في مرحلة ما بعد الأسد قد تسقط جراء معارضة كثير من السوريين لتركيا، وتركيا ذاتها تصطدم اليوم بأمواح التغييرات السياسية والاقتصادية في عموم المنطقة، وهذا يُحتم على الإدارة السورية الجديدة تشبيك علاقاتها السياسية والاقتصادية مع القوى الإقليمية والدولية، وأن لا تضع مفتاح الحلول ومفتاح سورية بيد تركيا أو غيرها من الداعمين. فالحدث السوري ينبغي له أن يُعاد ترميمه عبر حياة سياسية حقيقية، والأهم أن لا يتم الإنفراد بالحُكم.

قد يتسلل اليأس إلى نفوس السوريين جراء توجسهم من المرحلة القادمة، خاصة أن ما ظهر حتى الآن يكاد يكون عمل ممنهج غير مبرر، ويجب تأطيره بأحكام قضائية تطال المتورطين في قتل السوريين، وفضلاً عن ذلك فإنه يجب التنبه إلى حلفاء النظام السابق الذين قد يحاولوا إستعادة نفوذهم في سوريا، وهذا قد يدفعهم إلى تشكيل ميليشيات جديدة ترفع شعارات وطنية وتُصدر بيانات تطالب بحماية الأقليات، وضمن المناخ الحالي والذي يلائم الكثير من المتربصين بسوريا، فإنه يجب الشروع فوراً بمعادلات سياسية ومثلها قانونية تليها إعادة ترميم المجتمع السوري مدنياً، وأهم ما في المشهد القادم الإدراك بأن القوي ليس قوياً بما يملكه من سلاح، بل القوي هو القادر على السير بالسوريين نحو دولة مدنية يحكمها القانون.

بحكم طبيعة المخاض والتحولات الجديدة، فإن الضرورة التي يُمكن الحديث عنها في هذا التوقيت، هي بناء الدولة الحديثة، وهذا الأمر يتطلب تفكيك العديد من العوائق والتحديات وعلى رأسها التفكك العرقي والطائفي والذي سيكون سبباً في تفكك سوريا إلى جزر منعزلة سياسية ودينية، وتجنباً لهذا المشهد، فإن بناء دولة المواطنة التي تضمن حقوق الجميع، ودولة القانون والديمقراطية التي يتم عبرها تداول السلطة، هي الدولة التي يريدها السوريون، وهذه الدولة التي تتفاعل مع محيطها ويكون لها تأثير داخلي وخارجي، وفي العمق فإن جُل ما يريده السوريون أن يكون لهم دولة تحفظ أمنهم ويكونون فاعلين في رسم مسارها المستقبلي.