مقالات دوّنت في مناخات وأزمنة وأمزجة مختلفة

مجموعة قراءات كتاب "المعنى والظل في الأدب والفنون والمعرفة" لجمال حيدر عبارة عن رؤى وتحليلات لعدد مهم من الأعمال والشخصيات والأحداث الثقافية العربية والغربية.
سجل لأحداث ثقافية شهدها عدد من مدن وعواصم عالمية خلال مسار طويل من الزمن، باعتبارها فواصل متميزة في أحوال الثقافة
ما تُرجم من الشعر الإنكليزي، في مختلف مراحله المتقدمة والمتأخرة، إلى العربية، قليل جداً مقارنة بالشعر الفرنسي مثلاً

تحمل مجموعة قراءات هذا الكتاب "المعنى والظل في الأدب والفنون والمعرفة" للكاتب جمال حيدر، رؤى وتحليلات لعدد مهم من الأعمال والشخصيات والأحداث الثقافية العربية والغربية التي شكلت منعطفا مهما أو أحدثت صدى عالميا واسعا، وقد قسم الكتاب إلى أربعة أقسام: نصوص، معرفة، قراءة، رؤية، تندرج تحتها هذه الرؤى والتحليلات التي تعددت مهامها للولوج في رحلة متعددة الأبعاد وقراءة بدلالة متقاطعة مرة ومتوازية مرات أخرى لملامسة حواف المعنى، على اعتبار استحالة الوصول إلى جوهر المعنى المكتمل. مؤكدا أن المعنى أفق لا نهائي من المحال الإمساك بأطياف أسراره وطبقات ظلاله، بدون الادعاء في الوقت ذاته أنه يمتلك الرؤية الأوسع والإدراك الأعمق لكل ما تناولته بحثاً عن معطى مفتوح على كل الاحتمالات، أنه ينبض باكتشاف اللحظة في التقاطاتها وتعكس الرؤية والذائقة للكاتب والكتابة في آن.

مواد الكتاب المختارة اختزنها حيدر "طوال أربعة عقود من مغامرة الكتابة، ونفض الغبار عنها اليوم بفعل متجدد يمثل بالنسبة لي، على الأقل، تأويلاً متواصلاً لقراءات ماضية ورؤية مغايرة لاكتشاف ما تركته كل تلك الأعوام على ماهية المعنى وقيمة ظلاله التي تفاعلت معها في لحظة الكتابة، لهذا حافظت على هيئة المقالات من دون المساس بجوهرها، برغم تجدد عوالمي وتغير رؤيتي وتعدد طبقات مخيلتي وذاكرتي، إضافة إلى انعطافات لامست مساري على صعيد الوعي والفكر، والاعتقاد بأنها ولادة جديدة لنصوص استلت من زمنها ودفعها إلى واجهة قراءة متفاعلة (ربما) لاستدعاء قارئ جديد من عمر مغاير ووعي ومعرفة وتأمل مختلف تماما عن تاريخ كتابتها الأولى، كذلك لردم الهوة بين ماضينا وما تبقى من أعمارنا،  باعتبار أن من دون قراءة ثانية للمعنى وظلاله ستدفع بها إلى النسيان.. والإهمال تالياً.

جين أوستن دوّنت رواياتها في عصر اتسم بالاضطراب السياسي الحاد: الحرب مع فرنسا، الحرب في أميركا، اندلاع الثورة الفرنسية، لهذا كان ينظر لأي انتقاد بمثابة تهديد للسلم الأهلي

في تقدمته أوضح حيدر أن ليس للمعنى وظله دلالة ثابتة، فهويتها قابلة للتأويل، ودون ذلك التأويل يضع النص - أي نص - حداً لروحه ومعانيه، وهنا تكمن أهمية الولوج في المعنى لاختراق معانيه والكشف عن أسراره المخبوءة. في هذا الشأن لا بد من الاعتراف بأن مقالات الكتاب دوّنت في مناخات وأزمنة وأمزجة مختلفة؛ فالكتابة بنت شرعية تخضع لتلك الشروط، وليس من نص.. أي نص، خالد على الإطلاق وفقاً لرؤيتي وتجربتي المتواضعة. ويكمن تمييز جودة المقال في تداخل روحه مع القارئ واحتياجاته المعرفية لسد فراغات الأسئلة التي تولدها انزياحات حياتية عدة، وتكمن أهميته في حضوره ضمن حياتنا اليومية، فالمعنى المعزول وغير المتوشج مع تفاصيل القارئ غير قابل للحياة.   
واعتبر مواد كتابه الصادر عن مؤسسة أروقة سجلاً لأحداث ثقافية شهدها عدد من مدن وعواصم عالمية خلال مسار طويل من الزمن، باعتبارها فواصل متميزة في أحوال الثقافة، أغلبها نشرت في الصحافة العربية ضمن ملفاتها الثقافية، واستلت من أرشيف كبير، جمعته خلال مسار مهني طويل. ورغم ارتباطي الروحي بالنصوص التي دوّنتها بتأن وحرص ومحبة، فإنني قد استبعدت الكثير منها لسبب لا أعرف جوهر حقيقته. بشفافية انحصر همي في استعادة تلك السعادة التي غمرتني في زمن كتابتها، كذلك استثارة الأسئلة التي طرحتها في محاولة جادة لملامسة المعرفة والكشف عما هو مخفي بعيداً عن أي التباس. في هذه المقالات لست معنياً باعتراف بقدر ما كنت معنياً بكتابة المخبوء، وغير المرئي والمقروء عادة لدى المتلقي.
حاول حيدر "تلمس المعنى وظلاله المخفية في حالات من أحداث ثقافية فاعلة شكَّلت منعطفاً حينها، وما زالت على ما أعتقد، بعيداً عن الادعاء بالوصول إلى معناه الأخير. في هذا الإطار لا بد من الاعتراف بأن مقالات الكتاب لا تمنح الأجوبة بهيئتها الكاملة، إنها تستدعي المتلقي للبحث والاستقصاء والغور في الباطن لإكمال المعنى والكشف عن حدسه ومكنونه المخفي والتعرف على وميضه السحري بصورة جلية، ومن دون استدعاء تلك المغامرة تبقى معرفة المعنى ناجزة وناقصة ومختلة أيضاً.
في قسم النصوص تطرق حيدر لتجربته ثم رؤيته لفنان الكاريكاتير الفلسطيني ناجي العلي، والروائية العراقية زهور حسين، كاشفا عن وجع تجربتهما مع الحياة والفن والكتابة، وعن حزن عميق لرحيلهما المأساوي.
وفي قسم معرفة يسرد ويحلل حيدر مسيرة تجربة الشاعر يانيس ريتسوس (1909- 1990) الذي ربطته به علاقة طويلة، وقد قام بترجمة أعماله الكاملة لتصدر عن مؤسسة أروقة للدراسات والترجمة والنشر، مؤكدا أن ريتسوس أكثر شعراء اليونان المعاصرين سطوعاً، شكّل الشعر لديه فعلاً حياتياً يومياً، لذا فلا غرابة أن يكون من أغزر شعراء القرن الماضي، مكثفاً الكتابة وموسعاً مداها، لتشمل التفاصيل اليومية المهملة التي أقام عليها فضاؤه الشعريّ الواسع. 
هنا أيضا يقدم حيدر مشهد الرواية والشعر في بريطانيا لافتا إلى أنه من الملاحظات التي يمكن تسجيلها عن الشعر الإنجليزي غياب "الشعر الأسود" مقارنة بالشعر الأميركي مثلاً بعكس الرواية، لكن ثمة سمة لافتة ميَّزت الشعر الإنجليزي في الأعوام الأخيرة، وهي حضور غير عادي لشعراء من أصول غير بريطانية، خصوصاً باكستان وبلدان أفريقية، مما سيترك بلا شك تأثيره على المشهد الشعري البريطاني مع مرور السنين.
ومشيرا إلى أن ما تُرجم من الشعر الإنكليزي، في مختلف مراحله المتقدمة والمتأخرة، إلى العربية، قليل جداً مقارنة بالشعر الفرنسي مثلاً، باستثناء شكسبير، الذي ترجمت معظم أعماله، وقصائد للشعراء الرومانتيكيين، ومن الشعراء المعاصرين: تي. إس. إليوت. فقلما نجد شاعراً إنجليزياً ترجمت أعماله بصورة كاملة، ليس سوى قصائد متفرقة، لذا لا يعرف القارئ العربي إلا القليل عن الشعر الإنجليزي بعد الحرب العالمية الثانية، واقتصرت المعرفة على وليم تبلر، ييتس، إزرا باوند، وتي. إس. إليوت، ثم ستيفن سبندر ودبليو إتش أودن.
ويتحدث حيدر عن الثقافة والمثقفين العراقيين ودورهم في إسقاط صدام حسين، لينتقل إلى "جيل "البيت" الأميركي" موضحا أنه لم يعرف تاريخ الأدب المعاصر، جيــلاً مثيراً للجدل مثل جيل الستينيات الأميركي، الهيبي الفكر والتصور، الذي تمخّضت عنه الحداثة الغربية، ويتمحور ضمن هذا الجيل حركة "البيت" تحديداً، التي فرضت عناصر تجديدها على مساحة الثقافة الأميركية من خلال تفكير مغاير على صعيد الثقافة والفن والفكر والأدب، لتحدث موجة جديدة في الوعي السياسي والاجتماعي لدى شرائح واسعة من الأميركيين، خاصة الشباب، إذ أشعل جيل "البيت" النيران في عقول الكثير من خلال التساؤل حول جدوى الثقافة في التعبير من خلال الشعر، وأنواع أدبية أخرى.

وقال إن شعراء هذا الجيل بدأوا ناقمين على معطيات الواقع الثقافي المتهرئ، والأطر الأدبية  التقليدية شكلاً ومحتوى، تلك التي شاعت في أميركا بعد الحرب العالمية الثانية، كذلك على القيم الزائفة التي روَّج لها الأدب الكلاسيكي، محاولين غرس رؤية جديدة تتميز بالتعبير الذاتي كوسيلة لإدراك الحقيقة. هجر جيل "البيت" المعايير الأدبية التقليدية، وجربوا الشعر النثري، والتأليف خارج الهيكلية المعروفة، واستخدام اللغة المحكية، والنثر التلقائي، بمصاحبة موسيقى الجاز للتعبير والإفصاح عن كل المكنونات الذاتية، مستخدمين التقنيات الأدبية بطريقة جديدة للتعبير عن أفكار غير تقليدية.
وختم حيدر هذا القسم بقراءة المشهد العراقي مشيرا إلى "أعلم تماماً أن انتفاضة متوقعة للعراقيين ضد كل ما يعيق إنسانيتهم، ضرب من المستحيل، نتيجة الانقسامات الطائفية والعرقية والإثنية، فالجميع تحت وهم الانتظار. العنف اليومي الذي يحاصر العراقيين لا يميز بين مواطن وآخر، ولا يعترف بالفوارق السياسية والطبقية والمذهبية، فالجميع تحت رحمته، باستثناء السياسيين وقوات حماياتهم المجحفلة، فهؤلاء هم الذين في بإمكانهم أن يمرروا الزمن في إلقاء التهم وتوزيع مسؤولية التردي، وتعليق الاتهام على مشاجب الغير. أمام هذا المعطى يتوحد العراقيون، رغم مفاعيل الاصطفافات السياسية والطائفية، فالكوارث تجمع الناس تحت خيمة فواجعها، على العكس من السياسيين الذي يعجزون تماماً عن إيجاد مبادرة تنقل حياتنا إلى مستوى آخر من الانتظار. 
وفي قراءة يتساءل حيدر: كيف ولجت «آيات شيطانية» تاريخنا؟ ليقرأ تجربة رشدي وردود الفعل التي صاحبت الرواية، والرواية ذاتها، مشيرا إلى أن ثمة خيطا يبدأ من صفحاتها الأولى عن المسلم المهاجر الباحث بجهد عن هوية، المشتت بين عالمين وحضارتين ولغتين وسلوكين. ولعل صلاح الدين تشامشا، بطل الرواية ومحور أحداثها، حاول أن يترجم حلم والده بأن يغدو جنتلماناً إنجليزياً، لكنه مني بالفشل بعدما سقط في قاع الثنائية المقيتة الفاصلة بين عالمين، ليعود تالياً إلى بلاده ليواجه والده وهو على فراش الموت متحدثاً معه بلغته الأم، ليتحول مسار حياته إلى حلم بالكامل؛ حلم الانبهار بالحضارة الغربية، وتحول الحلم إلى الهرب صوب الجذور بعدما لامس عميقاً جذور تلك الحضارة وحقائقها المخفية.
رأى حيدر أنها عمل ملحمي طويل من الصعوبة تلخيصه، وتكمن الثيمة الأساسية في التفاصيل. إذ يستلهم رشدي الكثير من أحداثها من التراث والفقه الإسلامي، إلى جانب معرفته الدقيقة للمجتمع البريطاني، خاصة مجتمع الجاليات، مستعرضاً العلاقات التي توشج الإنجليز مع تلك الجاليات المتسمة بالتوتر والنبذ والتجاهل. وفي مجمل أعماله، يعمل رشدي على تقنية سينمائية في العمل الروائي، ثمة عدسة كاميرا تدور بين الأحداث والشخصيات والأمكنة، تسجل تلك التفاصيل بروحية مثابرة. 
في الرواية ثمة شخصيات حقيقية يطالعها القارئ بين صفحات العمل، كرئيسة وزراء بريطانيا الأسبق مارغريت ثاتشر التي يلقبها رشدي بـ "مسز تورتشر" (سيدة عذاب). إضافة إلى شخصيات حقيقية أخرى، كاشفاً في الوقت ذاته عن فاشية الشرطة البريطانية في تعاملها مع الأجانب، خاصة الفقراء، مسلطاً الضوء في فصل «مدينة موجودة لكنها غير مرئية» على تدهور الحياة وشيوع الفقر في حياة جاليات العالم الثالث الفقيرة، إلى جانب الصراع بين الجيل الأول والأجيال التالية التي فقدت بوصلة الانتماء.
ويستمر حيدر في رؤاه متناولا مأساة سيلفيا بلاث وتيد هيوز، والمسيرة الشعرية والفنية للشاعرة الإيرانية فروغ فرخزاد معتبرا أن "فروغ الشاعرة الإيرانية الأولى التي عبرت عن المشاعر الأنثوية بأسلوب واضح يمتاز بالجرأة، إذ كانت الأديبات الإيرانيات يعبِّرن بصور تخفي المشاعر النسوية الخاصة.. وهنا تكمن ريادتها في مسار الشعر الإيراني". 
ثم يقرأ حيدر الروائية الإنكليزية جين أوستن  1775 – 1817 لافتا أن أوستن دوّنت رواياتها في عصر اتسم بالاضطراب السياسي الحاد: الحرب مع فرنسا، الحرب في أميركا، اندلاع الثورة الفرنسية، لهذا كان ينظر لأي انتقاد بمثابة تهديد للسلم الأهلي، خاصة مع توسيع معنى الخيانة لتشمل أي فعل مرتبط بالتفكير والطباعة والقراءة والكتابة، وجاء ضمن السياق أنّ تحدي المعايير الاجتماعية يعتبر عملاً غير قانوني، لتنتشر الكتابة المحافظة، فيما نزع الراديكاليون نحو الطبيعة أو الغور في التراث، لتغدو أوستن في مناخ متشدد كهذا متميزة في تشخيصها لآفات الواقع الاجتماعي".