مكتبة أنطوان.. رئة بيروت الثقافية تتوقف

المدن العربية على موعد مع تجريدها من عمقها الحضاري والمعرفي والفكري.
على مواقع التواصل معرفة مضللة غالباً وفي أفضل الاحوال معرفة عرجاء غير مكتملة النمو
المكتبات باتت تئن تحت وطأة عدم قدرتها على تأمين جميع الكتب والإصدارات الجديدة

في الوقت الذي لا تزال تروس المطابع تدور في أوروبا، ورائحة الورق والحبر تلامس الحواس الخمسة للناس، والكتب "خير جليس" للأوروبي، والمكتبات العامة والخاصة تنمو وتكبر وتتمدد، في هذا الوقت نُصدم كل فترة بأخبار حزينة قادمة من الشرق الحزين عن إغلاق مكتبات في عواصم ومدن عربية مختلفة شكّلت مع الزمن حاملاً حضارياً لهذه المدن، وكانت موئل مَنْ يزورها.

هذا الصباح خبر حزين من بيروت يزيد من مرارة القهوة الصباحية: "مكتبة أنطوان تغلق أبوابها". حيث أعلنت إدارة المكتبة إقفال الفرع قائلةً إنّ "بيروت تقرّحت بكلّ مكوّناتها جرّاء حادثة انفجار المرفأ، وها هي تبعاتها تتناسل لتمتدّ إلى مكتبة أنطوان"، ومعتبرةً أنّ "فرع أسواق بيروت أحد معالم الثقافة اللبنانية الأدبية الذي حضن القرّاء والكًتّاب والكتب ونوادي القراءة والندوات والتواقيع".

رئة بيروت الثقافية تتوقف ومن قبلها عدة مكتبات في دمشق وعدة مدن سورية، في مؤشر أن ما يحدث هو نتاج حقيقي لسنوات الجمر والعتمة التي مرت في تلك البلاد وأن الكتاب والكلمة المطبوعة لم يدفعوا الثمن وحسب، بل كانوا ثمن تنميط مختلف لمصادر المعرفة والثقافة لدى المواطن العربي الذي كان متعطشاً لفضاء رحبٍ من الحرية يمارس فيه فضوله المعرفي، لكن للأسف كان هذا الفضاء عبر مواقع التواصل الاجتماعي التي تمنح معرفة مضللة غالباً وفي أفضل الاحوال معرفة عرجاء غير مكتملة النمو.

قبل مكتبة انطوان أغلقت مكتبة ميسلون في دمشق أبوابها وتحولت إلى مركز “صرافة”، ودار ومكتبة اليقظة العربية والتي أسست عام 1939، وتحولت إلى متجر للأحذية، ومكتبة الزهراء اقتسمت حيزّ مكانها مع مقهى انترنت، ومكتبة العائلة التي كانت تشرف عليها الأديبة الراحلة مهاة فرح الخوري فقد تحولت إلى صيدلية، ومكتبة الذهبي تحولت إلى محل لبيع الفلافل، ومكتبة الحرية في مدينة الحسكة لصاحبها إدوار كنج تحولت إلى محل جزارة وبيع اللحوم. ومكتبة نوبل العريقة في وسط دمشق لصاحبيها إدمون وجميل نزر.

المكتبات باتت تئن تحت وطأة عدم قدرتها على تأمين جميع الكتب والإصدارات الجديدة من دور النشر العربية إما لأسباب تتعلق بغلاء أسعارها، وعدم قدرة القراء على شرائها، أو لأنها ممنوعة. إلى جانب ازدهار سوق الكتب الإلكترونية والكتب الصوتية. 

التحولات الكارثية التي حلت بمنطقتنا العربية في السنوات العشر الفائتة يجد البعض أن إغلاق المكتبات فيها هو جزء من سياق تدمير الذاكرة والهوية الثقافية والإجتماعية لمدننا. فالمواطن الذي يعيش ليتجنب حقل ألغام أزماته اليومية (الكهرباء - الماء - الانترنت - الخبز - الغلاء – القمع) قد لا يجد في غياب مكتبة في شارعٍ ما أن شيئاً قد اختفى فهو يبحث عن لقمة عيش مريرة باتت الحصول عليها أشد مرارة. وينظر بألم لأوطانٍ تنهار ولا أمل بإيقاف سيل الإنهيار هذا. وهنا نتذكر ما جرى في بريطانيا أيام الحرب العالمية الثانية حيث أصدرت الحكومة البريطانية تعليمات بضرورة إبقاء جميع المسارح والسينمات والمكتبات مفتوحة أمام الناس، لكي يحافظ اللندنيون على توازنهم النفسي والفكري في ظلّ تساقط القنابل الألمانية اليومي عليهم وعلى مدينتهم.

أما نحن فلا أحد يكترث بالحفاظ على التوازن النفسي والفكري لدى سكان مدن رسمت ملامح ثقافة أجيال متعاقبة، ولعل من اجترح كل هذا الخراب وشارك فيه يجد أن دمشق وبيروت ليستا بحاجة لمكتبات ولا لشعراء وكتّاب وفنانين، بل لمزيد من فكر ظلامي يملأ الفراغات البيضاء بسواده المدلهم. فكما كان الغزاة الهمجيون يحرقون الكتب والمكتبات، كذلك فعل المستبدون والطغاة بكراهيتهم المزمنة للكتب والمكتبات لأنهم يريدون تجريد المدن العريقة من عمقها الحضاري والمعرفي والفكري.