"ملاكي التالف" مختارات من "قصائد علي كل لون"

الشاعر جاك كيرواك من أبرز مؤسسي تيار "جيل البيت" الأميركي المتمرد.
أنتم تدعون أنفسَكم شعراء، تكتبون قليلاً من الأبيات القصيرة، وأنا شاعرٌ، أكتب فقرات وصفحات وأحياناً صفحات طويلة
شعراء النهضة الجدد في سان فرنسيسكو كانوا فضوليين، مهتمين، متأثرين، يستلهمون أحياناً عزلة كيرواك بقوة أصلية

يعد جاك كيرواك من أبرز كتّاب جيل الخمسينيات الأميركيّ (جيل البيت)، وهو شاعر وروائي متعدّد المواهب، نال الشهرة من عفوية نثره، وعرف بكونه أحد مؤسسي جيل البيت، ولُقّب في كثير من المناسبات بـ"ملك جيل الإيقاع". وتعكس أعماله فضلاً عن سيرته الشخصية، وقد ترجم الشاعر محمد عيد إبراهيم في هذا الكتاب مختارات عنونها بـ "ملاكي التالف" من ديوانه "قصائد على كلّ لون"، ثم ألحقه بترجمة ديوانه الآخر "الكتاب المقدس للأبدية الذهبية"، وهو قصيدة نثر طويلة، أنشأها وهو ناسكٌ بوذيٌّ في اليابان، ويعدّ من الأقانيم المبهرة في تاريخ قصيدة النثر الأميركية. كما يضم الكتاب مجموعة من قصائده القصيرة على نمط قصائد (الهايكو) اليابانية. وقد صدرت المختارات عن دار يسطرون في القاهرة، بالاشتراك مع منشورات أنا الآخر، بعنوان "ملاكي التالف" بمقدمة ومقال الأولى للمترجم والثاني لرفيق درب كيرواك الشاعر ألن جينسبرج. وقام بتصميم الغلاف الكاتب والفنان ناصر الحلواني.
يقول عيد إبراهيم إن "جاك كيرواك (1922 ـ 1969)، متعدّد المواهب، يكتب الرواية والشعر والنقد والتأمّلات. من أصل فرنسيّ كنديّ. انفطر قلبه بعدما مات أخوه في التاسعة. انضمّ للبحرية، لكن سُرعان ما فصلوه بتشخيص أنه مصابٌ بالفِصام. فعاش شريداً من صيد البحر فترة، وهو النمط الذي استلهمه في رواياته الأخيرة. نشر روايته الأولى "البلدة والمدينة" 1950، ثم انخرط قليلاً في الدراسة بجامعة كولومبيا. نال الشهرة من عفوية نثره غير المألوف، كأنه يحتاج لمزيد من إعادة السبك". 
ويشير إلى إن أعمال كيرواك لا تعدو كونها أعمالاً عن سيرته الشخصية، فهي تعكس علاقاته الحميمة لكن العاصفة. ويبدو أنه قد تحرّر من التوهّمات نتيجة حسّه المرح ورغبته في السخرية من الكتّاب الراسخين. علاوة على انتمائه الطويل للصوفية، حيث أمضى سنواتٍ في اليابان مع بعض الفِرَق البوذية، وهو ما منحه غاية تلقائية في استعماله الأدب، فلا أحد يرغمه على شيء، بل يملك حياته عن حقّ من "قوة الاستغناء". ويؤثَر عنه قولُه "الحياة بوّابةٌ، دربٌ إلى الفردوس، فلِمَ لا نعيش في مرح وفرح، لِمَ لا نمضي إلى الرغبة ونضحك؟". 
هكذا نرى التنوّع البالغ في عوالم قصيدته، حيث لا يرسو على شطّ، ولا قيمة ينوي إيصالها للقارئ، بل لُمعٌ وتلقائية وخيال وتهكّم من خيال، مع اغتصاب براءة الكلمات. قال: "ألَمٌ يطعنُ قلبي كلّما رأيتُ فتاةً عشقتُها تمضي في الجهة المقابلةِ نحو هذا العالم الشاسع". 

كل شيء حسن، الهيئة هي الفراغ والفراغ هو الهيئة، ونحن هنا للأبد، بهيئة أو بأخرى، وهي فارغة. كل شيء حسن، ونحن لسنا هنا، ولا هناك، ولا بأي مكان. كل شيء حسن، وتنام القطط

من أعمال كيرواك: دواوين "ألحان مكسيكوسيتي، الكتاب المقدّس للأبدية الذهبية، قصائد منتثرة، ملاك منتصف الليل العجوز، كتاب الهايكو، كتاب الصور القلمية"، روايات "البلدة والمدينة، على الطريق، أهل الباطن، دكتور ساكس، كتاب الأحلام، مسافر وحيد، أورفيوس منبعثاً". 
وقد ألحق عيد إبراهيم ترجمته لمختاراته من "قصائد على كلّ لون"، الذي نُشر بعد وفاة كيرواك المفاجئة، وهو في الأربعينيات من عمره، ديوانه الآخر "الكتاب المقدس للأبدية الذهبية"، وهو قصيدة نثر طويلة في ستة وستين مقطعاً، وهي تجربة صوفية عالية، أنشأها وهو ناسكٌ بوذيٌّ في سفرياته باليابان، مع عدد من أصحابه الشعراء من "جيل البيت"، الذين قاموا بثورة إبداعية مدمرة في الشعر الأميركي، فترة الخمسينيات من القرن العشرين، ويعدّ هذا الديوان من الأقانيم المبهرة في تاريخ قصيدة النثر الأميركية، والتي أخذت منحىً مغايراً كلياً عن تاريخ قصيدة النثر الفرنسية.
أما رفيق درب كيرواك وشريكه في تأسيس "جيل البيت" ألن جينسبرج، فكتب في مقاله "كان شاعراً ــ قال كيرواك مرةً "أنتم تدعون أنفسَكم شعراء، تكتبون قليلاً من الأبيات القصيرة، وأنا شاعرٌ، أكتب فقرات وصفحات وأحياناً صفحات طويلة"، قال هذا خلال فترة الخمسينيات، في رسالة كتبها من مكسيكو سيتي، تضمّ مجموعة من قصائدهِ. أطلق عليها وليم بوروز "قصائد نثر عارية"، كان يكتب أحياناً عبارة لا يدرك معناها، لكنه يدرك موسيقاها، مستفيداً من توماس وولف، هيرمان ملفيل، شكسبير، رابيليه، شيلي، إدجار ألن بو، وغيرهم على النمط الرومانسيّ. ومن الحداثيين: ويتمان، إليوت، إزرا باوند، سيلين وجينيه. كما كان يكتب بروحٍ من دوستويفسكي وجوجول. ولا ننسى أنه استفاد من روحانية موسيقى باخ". 
وأضاف "ذاع تأثيره عبر العالم، ليس روحياً فحسب، من ثقافة شبابية كونية، بل من تقنياته الشعرية. لقد نبّه بوب ديلان فقد سألته مرة: "كيف تعرفتَ إلى شِعر كيرواك؟"، بعدما راجعنا بعض الأغاني وقرأنا ألحاناً على قبر كيرواك عام 1976، وكانت الكاميرات حولنا، جنباً لجنبٍ، تحت أشجار عالية، وسُحب متقلبة، ونحن نختفي حول شواهد القبور في جزيرة بعيدة. ردّ ديلان: "سلّمني أحدهم قصائده التي كتبها في مكسيكو سيتي عام 1959، ففجرت دماغي". قال هو أول شِعر كان يتحدث لغته هو. كنتُ أحاذي تجربة كيرواك الشعرية بل وأفكاره وأصواته مباشرة على الصفحة. فالشعر "يكتب العقل"، كما صرّح شوجيان ترانبا، شاعر الهايكو البوذيّ من التبت، كلازمة لشعاره "الفكرةُ الأولى، هي أفضلُ فكرةٍ"، فهي تتوازى مع صيغة كيرواك "العقل تشكيل، والفنّ تشكيل". ولدى قراءة قصائد كيرواك على ذلك المعلّم البوذي الكبير في طريق طويل يسميه "ذيل النمر"، ضحك طيلة الطريق وهو ينصت "لا يشبه الغضب أن تتذكّر القبضات.. العجلة ترنّح مفهوم اللحم.. بطريقة الدمية وهي تقف، ساقاها محنيتان بأحلامي، وتنتظر خدمتي.. فلا تتجاهل أجزاء العقل الأخرى..". وحين خرجنا من السيارة وقف على الرصيف قائلاً: "إنه استعراضٌ كامل للعقل". 

وتابع جينسبرج "في اليوم التالي بلّغني: "لقد ظللتُ أسمعُ صوت كيرواك طيلةَ الليل..."، إنه منحني فكرة جديدة عن الشعر الأميركي، من شاعريته الخاصة. وبعد عامين، تأسست "مدرسة كيرواك لتمزيق أوصال الشعرية"، وذلك لعمل نمط من الوفاق بين ممارسة تأملات الحكمة الشرقية الكلاسيكية مع الفكرة الصريحة النشطة والتلقائية الغربية، وهي فرَضية صحية بين العقل الشرقي والغربي. لكن بالعودة إلى أميركا الخمسينيات، فقد ألهمت قصائد كيرواك كثيراً من الشعراء خاصة شعراء أميركا السورياليين، وأيضاً بمزاجه الروائيّ. واستعدّ جاري سنايدر للذهاب إلى اليابان، تأسياً بمبادرة كيرواك الشعرية التي تأثر فيها بالصوفية البوذية هناك. 
يقول سنايدر "حين رأيت ديوان كيرواك أُخذتُ على الفور بسهولته، بالطريقة العفوية التي سعى إليها ــ تبدو عفوية ظاهرياً ــ في الوقت نفسه كانت هناك إشراقات مفاجئة مستمرة في الكلمات، ثمة شيء يحدث مع الكلمات، قد ترى العقل في عمله، لكن انظر ما فعله به، كل قصيدة كانت كاملة في حد ذاتها، ولكلّ منها مزاج مشابه من الحركة، كلّ منها يحبّ أن يستولد مقاطع صغيرة، وفي هذا العام (1955) توصلتُ لمعرفة كيرواك، ولمسني بعنف ديوانه مثل ويتمان، فلهما التأثير نفسه في ذلك الوقت". أما مايكل ماكلور فقد استلهم الكثير من كيرواك".
ويرى جينسبرج أن شعراء النهضة الجدد في سان فرنسيسكو كانوا فضوليين، مهتمين، متأثرين، يستلهمون أحياناً عزلة كيرواك بقوة أصلية، في آذانهم كان صوت كيرواك، يتلمّسون لغته الأميركية دون عوائق. وكان روبرت دانكان مندهشاً من "الإيمان بقصيدة النثر المعاصرة وتقنياتها". كما تحدث روبرت كريكي في ذلك الوقت عنه: "لكيرواك أُذن فائقة الحساسية، أُذن معصومة من الخطأ، قد تسمع أنماطاً مختلفة وتخلق أنماطاً مختلفة، ضمن أصوات اللغة وإيقاعاتها، مثل لغة الحديث المنطوق، أُذن فائقة الحساسية، بالطريقة التي يستطيع بها أن يعيش ويبني شعره باستمرار بصورة طبيعية". 
وأوضح "قبل كيرواك، كانت المعايير تتراوح ما بين كمنجز إلى بريفير، لكن كيرواك جعلها صوتاً بشرياً، لا كمحاكاةٍ، بل كحقيقة أنه صوت يتكلم. ذلك ما فعله في كلّ من الشعر والنثر، وهو ما أثرّ بي. وقد حدث خلط لدى النقاد بشأن كيرواك، كما حدث مع د. هــ. لورنس، وهي المشكلة الأزلية في السقوط بين أداتين: الشعر والنثر. وقد تم تصنيفه كروائيٍّ على الرغم من قصائده في ديوانه عن المكسيك، ورؤاه التي ميزت بين الصيغتَين كانت من صنعة الكاتب وهما متلازمتان. إن قدرة كيرواك المتزامنة على النثر والشعر، مثله مثل هاردي ولورنس وجويس وجان جينيه وبوروز، تطرح أسئلةً مثمرة علينا تأملها أكثر من نبذها. 
كان كيرواك كاتباً، كما علّق بوروز، لأنه "يكتب"، وتمرن على الكتابة، وكانت الكتابة بالنسبة له تمريناً مقدساً، كما وصف هو بنفسه "قدّمتُ ابتهالات في هذا الحلم". وكانت رؤاه المجمّعة القدسية عن الوجود الفاني ذات منظور كلي عن العذاب والزوال من عاطفة بوذية وعاطفة كاثوليكية معاً، تمنح حافزاً سامقاً ولعوباً على الدوام، وهي للعقل أقرب شعرياً. وقد سابقه أولسون وليو ويلش في كتابة الهايكو على النمط الأميركي. 

American Poetry
اليقظ ليس حقا هو هو اليقظ

ورأى جينسبرج أن ثمة شيئا ضخما في كتب كيرواك الشعرية بالموازاة مع مقاطع شعره النثرية في رواياته، سواء كانت الصور الوصفية أو في رؤيته لكتابة الهايكو، ولقطاته اللعوب، واستلهاماته الناضجة التي نُشرت بعد وفاته في ديوان "قصائد على كل لون". إن كيرواك شاعر أساسيّ، وربما مَنَويّ، في النصف الأخير من القرن العشرين بأميركا، ومن هنا تأثيره على ديلان وعليّ شخصياً ضمن آخرين، وهو تأثير شعريّ قد يمتدّ إلى الكون بأسره. كان كيرواك هو شاعر الشعراء، كما كان شاعر الناس، وشاعر البرج العاجيّ، مثل رامبو الذي دارت شهرته على الشباب عبر العالم. لكن العجيب الغريب أنه لم تشمله المختارات الشعرية قياساً على ما شملت به الكثير، مثل أوهارا، آشبري، وأنا، أولون، كريلي، كوخ، لامانتيا، سنايدر، ليفرتوف، إلخ. فيا له من فقدان ذاكرة كليّ! ولا يزال تأثيره غامراً على أجيال كثيرة من بعده، بما اخترق به الحالة الشعرية التي كانت شبه راكدة قبله ومعه. لكن أين نصوص كيرواك؟ فهو لا يكاد يكون موجوداً على مقاعد الدرس في الجامعات إلا قليلاً، على رغم وجود شعراء متوسطين وأسماء مغمورة وتجريبية متواضعة هناك. وأين كيرواك وسيط الثورة الأدبية الأميركية؟ حتى الآن لا يوجد كاسم "تأسيسيّ" في المختارات الشعرية!.
مقاطع من قصيدة "الأبدية الذهبية": 
* "هل تظنّ فراغَ السماءِ قد يتقوّضُ منفصلاً؟ كلّ طفلٍ صغيرٍ يعرفُ أن كلّ امرئٍ سيمضي إلى النعيمِ. إن معرفةَ أن لا شيءَ قد حدثَ ليسَت حقاً مثلَ معرفةِ أن لا شيءَ قد حدثَ، فهو الأبديةُ الذهبيةُ. وبمعنىً آخرَ، لا شيءَ يُقارَن بما تُبلِغهُ أخاكَ وأختكَ عما حدثَ، عما يحدثُ، وعما سوفَ يحدثُ، وعما لن يحدثَ أبداً، فهو فقط الأبديةُ الذهبيةُ. لا شيءَ قد ولِدَ، ولا شيءَ سيموتُ. واقعياً، لم يحدث أن سمعتَ عن الأبديةِ الذهبيةِ من قراءتكَ العرَضية في هذا الكتابِ المقدّس. الشيءُ بسهولةٍ زائفٌ. لا تصدُرُ تحذيراتٌ أياً كانَت من الأبديةِ الذهبيةِ: فافعل ما تريد أن تفعلَ".
* "كان العالم يدور خارجا من شفرة عشب: كان العالم يدور خارجا من العقل. كان النعيم يدور خارجا من شفرة عشب: والنعيم يدور خارجا من العقل. وسيان أن تفعل خيرا، أو تفعل ضرا بالغا. فالشرقي مطمئن، لأنه هو الأبدية الذهبية". 
* "كل شيء حسن، الهيئة هي الفراغ والفراغ هو الهيئة، ونحن هنا للأبد، بهيئة أو بأخرى، وهي فارغة. كل شيء حسن، ونحن لسنا هنا، ولا هناك، ولا بأي مكان. كل شيء حسن، وتنام القطط".
* هذا العالم من دون علامات، إشارات، أو دليل على الوجود، ولا عن الضجة فيه، كمصادفة الريح أو الأصوات أو الحيوانات الصائتة، فأنت تنصت بدقة إلى الخمود الأبدي للصمت، وهو يمضي ويمضي عبر هذا كله، وقد كان يمضي، وسيمضي هلم جرا. هذا لأن العالم لا شيء غير حلم وهو مجرد فكرة ولا تعيره الأبدية الباقية أبدا انتباها. في الليل تحت القمر، أو في غرفة هادئة، صه الآن، فموسيقى السر عن غير المواليد تمضي وتمضي، ما وراء التصور، يقظة ما وراء الوجود، أتكلم عن حق، فاليقظ ليس حقا هو هو اليقظ، لأن الأبدية الذهبية لا تروح في النوم أبدا: يمكنك أن تحكي عن صوت الصمت الذي يمر قاطعا هذا العالم كماسة سحرية عبر خدعة أنك لا تدرك أن عقلك هو ما سبب العالم".