ملعون دوستويفسكي: الجريمة وانتحار المعنى

ما يمر به راسكويلنكوف من أزمة نفسية خانقة بعد قتله لشخصية المرابية هو ما يتكرر لدى رسول بطل رواية الكاتب الأفغاني عتيق رحيمى.
تتوالد من جريمة القتل ألغاز غياب الأثر لوقائع مقتل نانا عليا حيث لا يوجدُ ما يثبت وجود الفعل الإجرامي
رسولُ لا يتحملُ وزر الجريمة كما لا يقتنع بأي تبرير لها

وصف الفيلسوف الألمانى نيتشه، دوستويفسكي بأنه كان إنسانياً أكثر مما ينبغي. هذه الخصال انتقلت من الكاتب إلى شخصيات رواياته، وأكثر من يجسدُ هذا الإفراط في الإنسانية هو راسكولينكوف الذي صار اسمه ملازما لدوستويفسكي .
ما يمر به راسكويلنكوف من أزمة نفسية خانقة بعد قتله لشخصية المرابية هو ما يتكرر لدى رسول بطل رواية الكاتب الأفغاني عتيق رحيمى الموسوم بـ "ملعون دوستويفسكي" حيث يعيش رسول منفصلاً عن واقعه عقب قتله نانا عليا المرابية التي تشتغل عندها خطيبته صوفيا، وهو قد أراد بذلك إنقاذ حياة صوفيا وأمه وأخته بما يأخذه من المجوهرات والأموال. لكن لا يخلص رسول بجريمته عائلته ولا صوفيا بل يقع في وهدة تأنيب الضمير، يرومُ صاحب "حجر الصبر" إيقاع القارىء في دوامة التساؤلات مع بطل روايته إذ أحيانا يتصور المتلقي أن رسول لم يتورط في جريمة القتل فعلياً بل كل ما في الأمر هو أن الأخير كان يحاكي شخصية راسكولنيكوف في تخيلاته.
جريمة بلا أثر
تتوالد من جريمة القتل ألغاز غياب الأثر لوقائع مقتل نانا عليا حيث لا يوجدُ ما يثبت وجود الفعل الإجرامي. مع أنَّ الراوي يستعيدُ تفاصيل ما أقدم عليه الجاني مصوراً تتبعه للعجوز إلى غرفتها ولحظة وقوع المرابية على الأرض مضرجةً بالدماء التي تُصَبغ الأموال الممسوكة بيدها ويعمدُ الكاتب من خلال هذه الصورة المشحونة بالدلالات ربط كل الجرائم والصراعات الضارية بالعامل الإقتصادي إذ تتأكد هذه القناعة لدى المتلقي عندما يكتشفُ بأنَّ صورة مقتل العجوز هي جزء من مشهد واسع للإقتتال الدائر في مدينة كابول حيثُ تحولت هذه المدينةُ إلى مسرح لحرب الكل ضد الكل، وعندما يغادرُ رسولُ هارباً منزل نانا عليا بعد ما تناهي إليه صوت ينادي العجوز، لا يحملُ معه شيئا حيثُ يختلط بالمارة مُتعقباً امرأة ترتدي شادوراً أزرق ظناً منه بأنَّ الأخيرة هي التي دخلت منزل نانا عليا آخذة مجوهراتها.

الرواية تنتهي بحضور رسول في مكان عام لتنفيذ الحكم بالإعدام عليه. ولا تنفع توسلات قريبه رازمودين بأنَّ رسول ليس قاتلاً إلا في تهويماته

غير أنَّ ألم عُرقوبه ينال منه إلى أنَّ يُضَيّع أثر المرأة راقداً بجوار جدار يتصدق عليه أحد المارة بِمبلغ مالي إذ يحسبه شحاذاً هنا يغيبُ الراوي، ويوظف الكاتب تقنية التداعي الحر لكشف هواجس البطل، حيث يدرك القارىء وجود مزيد من عناصر متماثلة بين رسول وشخصيات دوستويفسكي على مستوى التركيب النفسي، فشخصيات دوستويفسكي تتموقع في الحدود الفاصلة بين الخير والشر، ومشاكلها الجوانية تفوق حجماً على ما يشغله من معطيات واقعية، كذلك رسول يمتحنُ هذه التجربة الداخلية، فتتنازعها مشاعر مختلفة، فهو يَكنُ كراهية لنانا عليا كونها مستغلة ًالظروف المعيشية للمعوزين، غير أن هذا جانب من شخصية رسول المركبة. إذ تجده في أطوار أخرى فهو يقدم ما عنده من المال لمن يطلب منه المساعدة. وينقذ الجرحى من تحت أنقاض خلقتها الإنفجارات، كما يبدو عدوانياً مع صاحب البيت يرموحد. ولكن تجد نقيض هذا السلوك في تعامله مع صوفيا، حيث يُعَدها مثالاً للنقاء، ولا يكون حبه لها ماثِلاً في صورة حسية، بل ينحى منحى روحيا، غير أنّ هذه الحالة الطهرانية تنقلب إلى ضدها في نظرة رسول إلى زوجة يرموحد. إذ يكون مبعث إعجابه بها دوافع غريزية. وبذلك يكونُ أُسلوب شخصية البطل أكثرُ تقارباً مع راسكولينكوف حيثُ يتهمُه بأنَّه قد سبب له المشاكل لاسيما عندما تخيله وهو يرفع الفأس ليضرب العجوزَ.
تكفير عن الذنب
لا يتحملُ رسولُ وزر الجريمة كما لا يقتنع بأي تبرير لها، من هنا يريدُ أن يسلم نفسه لكن قبل ذلك فهو يُعتقل بعدما يتأخر في دفع إيجار البيت، ويتم العثور على الكتب باللغة الروسية مما يُصعب موقفه أكثر لكن هو يتوهم أن اعتقاله يأتي بعد اكتشاف هويته كقاتل المرابية، لذلك يفقد القدرة على النطق ويصبح أبكم. ويلجأ إلى كتابة إجاباته لأسئلة المتحاورين معه. 
هنا يتماهى الراوي أحياناً مع الشخصية الإساسية إذ يصور الكلام المتخيل بينها وبين المقابل. كما يتوغل في أحلامها وكوابيسها ومظهراً قلقها على صاحبة شادور الأزرق كاشفاً خشية رسول عن احتمال معرفة ابنة المرابية نازيغول بهوية الجاني. 

novel
أحداث الرواية تدور داخل مدينة كابول 

يحاول رسول التخفيف عن عبئه الثقيل باعترافه لصوفيا بأنّه قاتل نانا عليا حيث يعطيها الدفتر الذي كتب فيه تاريخ ارتكاب الجريمة، وهذا الدفتر هو نفسه ما سقط من يد صوفيا عندما كانت طالبةً أخذه وما رجعه لها بجانب جملة الإعتراف بالقتل يَضم عبارات وأشعار رومانسية.
وتأتي مرحلة أُخرى في فصول اعترافات رسول بالتوجه نحو ولاية كابول، وذلك بعد أن يفقد أثر صوفيا حين يصاحبها لزيارة ضريح شاه دوو شمشير. وهناك يلتقي بكاتب المحكمة ويبوح له بسره كتابياً لكن الأخير يسخر منه لأنَّ كل شيء صار بلا معنى في البلاد بما فيه القتل. وأنَّ الأنسان لم يعدْ بإمكانه إضفاء المعنى على ذاته وكيف يمكنه إرداء المعنى على الجريمة، هنا الرصاصة وحدها مكلفة بالعثور على هدفها. هكذا يتواصل الجدلُ بين رسول والقائد برويز أيضاً إذ يتفق الجميع على أن قتل قوادة لا يستحق أن يتعذب الضمير من أجله. وعندما تبدأُ محاكمة رسول ليس بتهمة القتل، بل بتهمة سرقة المجوهرات التي رهنها أحدُ أمراء الحرب عامر سلام لدى المرابية تمنى كاتب المحكمة لو ظل المتهم أخرس. وينعته بالمجنون كأن من يريدُ أن يحتفظ بعقله عليه أن يتجاهل صوت الضمير في زمن الحرب. 
يدين الكاتب من خلال عمله زيف الشعارات والسلوكيات الإجتماعية وإساءة من يتوسل بمسوحات دينية إلى رسالة الدين، والتفنن في القتل. 
يتمثلُ زمن الرواية في حقبة ما بعد إنسحاب الإتحاد السوفيتى من أفغانستان مع التبني لإسترجاعات داخلية وخارجية، كما يتوزع العنصر المكاني بين المقاهي والبيت والفنادق حيث تدور أحداث الرواية داخل مدينة كابول مع إشارات إلى مزار شريف حيث تقيم أسرة رسول.
تشابك الحكايات
ينفتح هذا العمل على عدة حكايات بجوار القصة الأساسية وذلك من خلال إستعادة القصص المرتبطة بماضي رسول كقصة "حقل قصب"،أو ما يسردهُ كاكا سور في ساقي خانه قصص من قصص دينية ومقاطع من منطق الطير. كما يوظف الكاتب تقنية السخرية المستمدة من وقائع معينة تجمع بين الكوميديا والرعب. ويعتمد أسلوباً غير مباشر لإيصال دلالات عميقة مثل مقاضاة الحمامة بمسدس كولت.
تنتهي الرواية بحضور رسول في مكان عام لتنفيذ الحكم بالإعدام عليه. ولا تنفع توسلات قريبه رازمودين بأنَّ رسول ليس قاتلاً إلا في تهويماته .