مناقشات.. حول مستقبل التدين الإسلامي

الأصولية تُشير إلى موقف نقدي مناهض للحداثة فهي تطرح نفسها على الدوام كممثل وحيد للدين في صورته المثالية كما يجسدها عصر التأسيس.

بقلم: عبد الجواد يسن

ظهرت الأصولية الإسلامية في نسختها المعاصرة في أوائل القرن العشرين وتفاقم حضورها بامتداد هذا القرن، أي في غضون الفترة التي أخذت تشهد نتائج الاحتكاك بالحداثة الغربية بعد حوالي قرن من بدايته. أسفرت هذه النتائج عن تحولات اقتصادية وسياسية واجتماعية ظاهرة، لكنها ظلت جزئية وسطحية غالبًا، وعبرت عن نفسها بوجه خاص على المستوى الثقافي النخبوي. ومع ذلك فقد مثلت استفزازًا مباشرًا لحساسية النظام الديني الحصرية ذات التكوين السلفي والمشدود برباط وثيق إلى الدولة، ومن هذه الزاوية يمكن النظر إلى انبثاق تيار أصولي في هذا التوقيت كرد فعل مبكر من قبل النظام الديني على ضغوط الحداثة، التي جرى استقبالها، لا كحركة طبيعية تترجم قانون التطور العام، بل كفعل هجومي من قبل الغرب “المسيحي” يستهدف الإسلام بالذات.

كالحركة البروتستانتية في القرن السادس عشر، كانت الأصولية الإسلامية المعاصرة تمثل نوعًا من الاستجابة “الدينية” للمثير الاجتماعي الحداثي، لكنها –خلافًا للبروتستانتية- لم تنشأ كحركة “تجديدية” بالمعنى الإصلاحي. أعني لم تكن موجهة إلى النظام الديني، ولا متوافقة مع التوجه الحداثي وفكرة المجتمع المدني. كان النشاط الاحتجاجي للبروتستانتية المبكرة يستهدف بالأساس سلطة الكنيسة وأداءها الديني والاجتماعي، بما في ذلك تغولها الواسع على صلاحيات الدولة والأفراد. انتصرت البروتستانتية صراحة وضمنًا لسلطة الدولة على حساب الكهنوت في المجال العام (ونسبيًا في الخاص)، ولم تضع نفسها في صدام أصلي مع الدولة والنظام الاجتماعي عمومًا بتوجهاته الحداثية المتصاعدة. وبحساب النتائج صب الموقف الاحتجاجي البروتستانتي في مصلحة التيار التجديدي العام، وساهم في تكريس العلمانية.

في المقابل نشأت الأصولية الإسلامية المعاصرة كرد فعل مناهض للتيار التجديدي الذي تشكل منذ أواخر القرن التاسع عشر فيما صار يعرف بمشروع “النهضة” وطرحت نفسها كنقيض مقابل لهذا التيار، عبر نقل الصدام معه من مستوى الجدل الثقافي النظري إلى مستوى الفعل الاجتماعي السياسي. في السياق الإسلامي عمومًا –حيث تحتل الدولة/ الشريعة موقعًا مركزيًا في بنية النظام الديني- تتحول الأصولية –غالبًا- إلى ظاهرة سياسية صريحة، أعني إلى حركة احتجاجية موجهة إلى الأداء الديني للدولة والمجتمع، وبشكل ثانوي لأداء الأفراد.

مع التصاعد النسبي في أواخر القرن العشرين وتطور الأداء الأصولي على مستوى الحركة والخطاب، تفاقمت مساحة الاشتباك مع الدولة (الوطنية) التي ظلت، على الرغم من توجهاتها العلمانية، تتقمص دور الحراسة التقليدي للدين.

 (سيشرح ذلك شيوع مصطلح “الإسلام السياسي” كمرادف بديل لمجمل الحركة الأصولية، التي تتسع لأشكال تدين سلفية لا تعبر عن نفسها بشكل سياسي مباشر، وتصب اهتمامها الرئيس على جوانب طقوسية أو تعليمية أو روحية فردية. لكن يظل التيار السياسي هو التيار الأصولي العام، والذي تصب فيه جميع أشكال التدين السلفي المعاصر).

تشير الأصولية عمومًا إلى موقف نقدي مناهض للحداثة، فهي تطرح نفسها على الدوام كممثل وحيد للدين في صورته المثالية كما يجسدها عصر التأسيس، أي كما هي عند نقطة بعينها في الماضي. ومع توجهها السياسي الغالب يظل هذا المعنى السلفي الماضوي جوهر الأصولية الإسلامية الذي يختزل جميع خصائصها حيث “كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار”. أما الأصولية البروتستانتية، فكانت بموقفها المناهض للكنيسة، توجه طاقتها النقدية إلى سلطة النظام الديني، أي كانت تمضي في اتجاه حركة التجديد الاجتماعي ذاته، خلافًا للأصولية الإسلامية التي لم تقدم نفسها كجناح إصلاحي داخل النظام الديني، بل كممثل له في صيغته الأكثر سلفية. تحمل البروتستانتية، بالطبع، خصائصها السلفية المستمدة من طبيعة التدين التاريخي، لكن هذه الخصائص تبدو أقل تعارضًا مع أهداف التجديد الاجتماعي من خصائص السلفية الإسلامية، بسبب اختلاف الموقف من الدولة وفكرة الشريعة.

قياسًا إلى البروتستانتية، تملك الأصولية الإسلامية روحًا سلفيًا أعمق، من جهة استناده إلى المدونة التأسيسية بشقيها النصي والتاريخي: في السياق المسيحي الغربي يمكن تأسيس العلمانية على نصوص أصلية فضلًا عن التاريخ السياسي الذي كرس حضورًا مستقلًا متواصلًا للدولة “المدنية” مقابل الكنيسة على الرغم من هيمنتها الواسعة بامتداد العصور الوسطى، الأمر الذي سيسهل على النظام الديني عملية الاندماج من جديد في أطر الدولة الحديثة. لكن هذا التأسيس العلماني يواجه صعوبات جادة في السياق الإسلامي، حيث تحظى الدولة تاريخيًا بحضور أحادي جامع (للسلطتين الزمنية والدينية) ومدعم فقهيًا، وتحظى “الشريعة” بإسناد نصي وفقهي راسخ. في عبارة موجزة لا تبدو المسافة واسعة بين الأصولية الإسلامية ومدونتها التأسيسية الحاملة للنظام الديني. صحيح أن الخطاب الأصولي لا يتطابق حرفيًا مع المتن الكلي للمدونة، لكنه يستطيع دائمًا تأسيس نفسه على مفردات مختارة من هذا المتن الواسع. وهذا ما يسبب الخلط الشائع بين الخطاب الأصولي الإسلامي والإسلام كديانة، أو بينه وبين الفكرة الكلية للدين في ذاته.

في هذا الخلط يشترك جميع الأصوليين مع قطاعات من الفكر الوضعي المعاصر، خصوصًا تيارات اليمين المحافظ، التي تلتقي مع نموذج هانتنجتون في صراع الحضارات، والتي يثيرها الأداء العنيف للأصولية الإسلامية وتمددها في إلى الغرب. بالنسبة إلى هذه التيارات ليس ثمة أصولية متطرفة وأخرى معتدلة، فجميعها يعكس الطبيعة المتشددة للإسلام كدين راديكالي عنيف ومناقض جوهريًا للحداثة.

تعزز الأصولية بالطبع مقاومة النظام الديني لضغوط التطور، أي تلعب دورًا “تأخيريًا” في مسار التغير الضروري المفترض لهذا النظام على المدى البعيد. لكن كيف يمكن رصد هذه الحالة الأصولية في اللحظة الحاضرة، وتداعياتها المتوقعة في المستقبل القريب؟

واقعيًا، تبدو الصورة مركبة؛ إذ يمكن ملاحظة التحول الأصولي في العقود الثلاثة الأخيرة على المستويين الكمي والنوعي: كميًا، أحرزت الظاهرة الأصولية تمددًا نسبيًا ملحوظًا داخل أرضية التدين الشعبي الاعتيادي، وبوجه خاص داخل الأوساط الأدنى اقتصاديًا والأقل احتكاكًا بنتائج الحداثة. يشير مصطلح التدين الشعبي الاعتيادي –هنا- إلى تيار التدين العام السائد في الشارع كنمط تدين مقابل لنمط التدين الرسمي المدرسي، ولأنماط أخرى من التدين غير الرسمي كالنمط الصوفي، وصور التدين العقلي القريب من التفلسف.

التمدد الأصولي الذي تم –غالبًا- على حساب التيار العام، ظهر في شكل تغيرات مظهرية وسلوكية ذات طابع شكلي، صارت تكتسب معنى رمزيًا. وبوجه عام، يمكن الحديث عن هذا التمدد الكمي كأحد الملامح المميزة للأصولية المعاصرة. التي تشتغل بوعي أيديولوجي مكتسب على فكرة الانتشار الشعبي، وهي فكرة لم تكن حاضرة بمعناها الراهن في ثقافة الأصوليات التقليدية، التي ظلت تظهر عبر التاريخ الإسلامي الطويل كفرق منعزلة أو معزولة عن التيار العام. (وفي هذا السياق يظهر الدور المحوري للوسائل الإلكترونية وميديا التواصل الاجتماعي).

ومع ذلك، لا يمكن الحديث –هنا- عن استغراق أصولي، ولا حتى عن اكتساح واسع النطاق لمساحة التدين الشعبي، بل عن تفاقم نسبي قياسًا إلى نقطة البداية. فبالرغم من ظهور شواهد أصولية متنامية خلال العقدين الأخيرين (وأنا أشير هنا إلى كتلة التدين في الشارع المصري كنموذج كلاسيكي) لا يزال التيار العام يمثل كتلة التدين الاجتماعي الأوسع بخصائصه التقليدية: تيار مرن/ معتدل إجمالًا/ لا يتطابق مع المدونة تمامًا/ على مسافة واعية من الأصولية.

وهي خصائص دائمة تصدر عن قوانين الاجتماع الطبيعي، الأمر الذي يجعل منها قوة توازن قادرة نسبيا وبشكل عملي، على ضبط إيقاع التدين على حركة التطور الاجتماعي.

نُشر في مركز المسبار للدراسات والبحوث