منية قارة بيبان.. ورواية القمع في تونس 

الكاتبة التونسية تناقش بعض الأعمال الروائية التي تعرضت لقضية القمع الجماعية التي تخص المرأة وما تعانيه.
الشعراء والروائيون والمفكرون ليسوا أنبياء ولا يعرفون صورة المستقبل، ولكن الكثير منهم قد غاصوا إلى أعماق الإنسان
معالجة قضية القمع في مختلف أبعادها

بقلم: مصطفى عبدالله

ليس وليد اليوم ولا أمس ولكنه قبل ذلك بستين سنة، حينما ظهر أول جيل من كاتبات الرواية العربية في أواخر الخمسينيات من القرن العشرين يتبنين قضية "المرأة: وضعيتها الاجتماعية.. حقوقها الإنسانية.. ومشكلة الحرية". كان الجيل الأول لهؤلاء الكاتبات قد ظهر في مصر والشام؛ سوريا ولبنان، عند كاتبات مثل: لطيفة الزيات، كوليت سهيل، ليلى بعلبكي، إيميلي نصر الله، غادة السمان. وبظهور هؤلاء الكاتبات أثيرت قضية جديدة في النقد الأدبي حول كتابة المرأة ورواية المرأة من جميع زوايا النظر، وهو ما أصبح يعرف بقضية المرأة، فهل للمرأة قضية؟ 
من خلال عرض ما تناولته هؤلاء الرائدات في أعمالهن الروائية نلاحظ أن الحديث عن المرأة انطلق من زاويتين مختلفتين؛ الأولى تتكلم عن المرأة وحريتها كجزء من التعبير عن قضية الحرية عند الإنسان التي ارتبطت بحق الإنسان رجلًا كان أو امرأة في الاختيار الحر، وهو أحد المبادئ المهمة التي قامت عليها الفلسفة الوجودية، أما الاتجاه الثاني في الكتابة عن المرأة، فهو ذلك الاتجاه الذي ربط بين قضية المرأة وقضية المجتمع وحرية المرأة وحرية المجتمع وحقوق المرأة وحقوق المجتمع، فجعل من قضية المرأة معادلًا رمزيًا لوضعية المجتمع سواء كان خاضعًا لسيطرة أبوية داخلية أو لسيطرة كولونيالية قمعية من الخارج، فكانت الدعوة إلى حرية المرأة هي دعوة إلى حرية المجتمع وتحريره من الاستبداد المسيطر عليه سواء في الحكم أو الأسرة، وهذا هو الاتجاه الذي سار عليه الكتاب الذين نادوا بفكرة الحرية الاجتماعية والإنسانية، وكانت المرأة جزءًا من هذه القضية، وقد كانت لطيفة الزيات، وهي رائدة في هذا الاتجاه، في روايتها الرائدة "الباب المفتوح" إلى أن كتبت مجموعة "الشيخوخة". وقد ارتبط الحديث عن الحرية الإنسانية.. حرية الوطن.. حرية الإنسان.. حرية المرأة في تيار ارتبط أيضًا بالفلسفة الوجودية، ولكن من زاوية أخرى هي "الالتزام" وهو ما عبر عنه كثير من الكتاب الرجال في قضايا مشابهة، لعل من أهمها رواية "في بيتنا رجل" لإحسان عبد القدوس، و"شرق المتوسط" و"مدن الملح" لعبدالرحمن منيف، وفي هذا السياق يمكن أن تندرج أعمال جميل عطية إبراهيم في رواياته، ومنها "1952".

الكتابة الروائية تمارس حريتها في مواجهة الاستبداد وتتحدى القمع المفروض على الإبداع، وتراوغ بمكر الساسة والطغاة، فتعمد إلى استراتيجيات عديدة لكي تنهض بوظيفتها النقدية دون تغييب الجمالي

ومن العوامل التي أدت إلى ازدهار هذه الموجة من الحديث عن الحرية في الأدب، ازدهار الفكر المستنير التقدمي في الخمسينيات والستينييات في العالم العربي بريادة مصر قبل أن ينحسر هذا المد بعد هزيمة يونيو/حزيران 1967 وخروج التيارات المعارضة الدينية التكفيرية التي أرادت أن تسحب العالم العربي إلى نقطة البداية قبل أن يتخلص من عباءة الحكم الديني تحت راية السلطان العثماني، فكان التيار الديني في مصر ظاهرة السبعينيات التي غيرت وجه المجتمع وجعلت النساء يكفرن بالجيل الذي سبقهن وما حصل عليه من منجز في الحرية وتلقي العلوم والمعارف والمساهمة في بناء الدولة الحديثة. 
وللأسف أن هذه الظاهر أيضًا انتقلت إلى المغرب العربي الكبير بتشجيع أمراء الثروة الجدد الذين أفاء الله عليهم بنعمة الثروة فترجموا ذلك بأنه لتمسكهم بما يختزنونه من تقاليد وأعراف، وصدروا هذه الأفكار إلى دول المعاناة الذين اختاروا السير في العصر الحديث وضربت تجربتهم فاضطروا إلى التراجع ومسايرة الواقع الجديد في بقية الدول الغنية بمواردها الطبيعية، وكان نتيجة لذلك هو ظهور الأصولية في الجزائر وفي المغرب وفي تونس، بل وفي ليبيا ذاتها، مع اختلاف في الدرجة والإحساس بالتوتر الاجتماعي، وهو ما عرف في الجزائر مثلًا بـ "العشرية السوداء"، وما عرف في تونس بظهور مجموعة حزب النهضة، وما عرف في بلاد أخرى باسم الجماعات الإسلامية أو السلفية أو الأصولية، وباختصار هو الاتجاه الذي وقف في وجه التطور والحداثة محاولًا إعادة إنتاج عصر الخلافة من جديد.
في هذه الأجواء ظهرت مرة أخرى الرواية النسائية التي تتحدث عن قضية قمع المرأة في دول شمال إفريقيا "المغرب الكبير"، كما ظهرت أيضًا في دول المشرق العربي في الخليج. 

توظيف الإعلام للقمع
أصداء واسعة 

ومن هذه الكتابات ذلك الكتاب الذي قدمته الكاتبة التونسية منية قارة بيبان بعنوان "رواية القمع في تونس"، وفيه ناقشت بعض الأعمال الروائية التي تعرضت لهذه القضية الجماعية التي تخص المرأة وما تعانيه من معاناة، وقد صدرت كتابها بمقولتين إحداهما لإدوار الخراط يقول فيها: "هناك في مقابل القمع دائمًا صرخة الحرية المحرقة تخفت أحيانًا وتجلجل أحيانًا، ولكنها لا تموت ولا تنطفئ". والكلمة الثانية لأوكتافيو باث، تقول: "إن الشعراء والروائيين والمفكرين ليسوا أنبياء ولا يعرفون صورة المستقبل، ولكن الكثير منهم قد غاصوا إلى أعماق الإنسان وهناك في تلك الأعماق يكمن سر البعث الذي يجب التنقيب عنه".
وجعلت منية قارة بيبان من هذين المقتبسين مدخلًا لدراسة بعض الأعمال الروائية التي صدرت مع بداية الألفية الثالثة، فناقشت رواية "آخر الرعية" لأبي بكر العيادي، و"دروب الفرار" لحفيظة قارة بيبان (بنت البحر)، و"عيد المساعيد" لرضوان الكومي، و"رجل الأعاصير" للناصر التومي، و"أبناء السحاب" لمحمد الجابلي، و"برج الرومي أبواب الموت" لسمير ساسي؛ وهذه الرواية نفسها صدرت في لندن تحت عنوان آخر هو "البرزخ"، ثم "تراتيل لآلامها لشريدة الشارني.
والقاسم المشترك بين هذه الروايات هو طرحها قضية القمع في مختلف أبعادها، فهناك قمع السلطة، وهناك قمع تفتيت الوعي، وهناك توظيف الإعلام للقمع وإغواء المعارضة وتحريف التاريخ وتزييف القيم وتدجين المثقف، وهي آلات جهنمية بيد السلطة سواء كانت سلطة الحكم في الدولة أو سلطة شيخ القبيلة أو رب الأسرة أو السلطة الكبرى وهي "الكهنة ورجال الدين".
وقد تعرضت الدراسة لإظهار خطورة الديكتاتورية والأساليب المراوغة التي تتبعها للسيطرة بكل الطرق الممكنة، وليس العنف هو الأسلوب الوحيد للسيطرة، فقد استخدم أصحاب السلطان كل الوسائل المتاحة لهم من دينية واجتماعية ونفسية لتضئيل معارضيهم وتعظيم قدراتهم، وهو ما يعرف في السياسة في بعض الأحيان بمسمى الحرب النفسية، وبالنسبة للمرأة يكون القمع الاجتماعي في هيئة ما يطلقون عليه "المجتمع الذكوري" أي المجتمع الذي يكون الرجال فيه هم أصحاب العقد والقول في المنزل وفي الحياة العامة، فيكون الأب في المنزل صورة للحاكم في الوطن، بالإضافة إلى تسييد أصحاب الفكر الظلامي الذين يقبلون القيام بدور المؤازر للديكتاتور في مقابل الحصول على مكتسبات اجتماعية تضعهم في درجة أعلى من بقية أبناء المجتمع.
وبطبيعة الحال فإن الأعمال الروائية التي ناقشتها المؤلفة تختلف مقاربتها لهذا الموضوع باختلاف زاوية رؤية المؤلف الكاتب، ولكنها تتفق مجتمعة على هجاء تلك الصورة السلبية التي ترفض أن يحصل البشر مجتمعين على حقوق البشر مجتمعين وأن يحصل الإنسان الفرد على حق الإنسان الفرد في التعبير والحرية والأمان.
ويبدو أن هذه القضية قد لاقت أصداء واسعة في مجمل أركان العالم الناطق بالضاد مع اختلاف أسباب الاحتجاج والتمرد بين مجتمع وآخر لأنها ظهرت مع مطلع الألفية الثالثة في كثير من الدول العربي الخليجية التي استفادت من الطفرة الاجتماعية التي مرت بها هذه المجتمعات في العقدين الأخيرين من القرن العشرين وما نتج عن تلك القفزة الاجتماعية من انتشار للتعليم وإتاحة الفرصة لأبناء هذه البلاد للخروج من مجتمعاتهم الضيقة إلى العالم الغربي المتقدم، فظهر كذلك ما يعرف بأدب المرأة والدعوة إلى الحرية.
تقول منية:
"أثبتت هذه الكتابات الروائية بانفلاتها من مفهوم القيد وتعدد صيغ الخطاب قدرتها على مواجهة ضروب الاستبداد والقهر والتمرد على المواضعات بصيغ مباشرة أحيانًا ومتلفعة بحيل السرد والمكر الروائي أخرى، فشفّت عن وعي قائم ومتخيل قادر على تجاوز محاكاة الواقع إلى هدمه والاحتجاج عليه، وبناء عالم تخييلي يتوق إلى البدائل ويطرح أسئلة قد تربك القارئ.

وتفاعلت الكتابة الروائية مع واقعها فجلت صورة الحاكم العربي المستبدّ، وكشفت آليات الاستبداد وانعكاساته على الحياة الفردية وعلى وعي الفرد ومخيلته ولا وعيه، وعلى ممارساته الاجتماعية والفكرية، لكنها مثلت أيضًا إرهاصًا بواقع جديد، فحلمت بآفاق مغايرة ورسمت بعض ملامح الآتي".
وهي تقول إن رواية أبي بكر العيادي "آخر الرعية" من الروايات العربية القليلة التي حاولت نزع القدسية عن تاريخ الاستبداد والاستعباد، إذ واجهت حاضرها بشجاعة وصاغت بأدواتها الخاصة سبيلًا مغايرة لقول ما لا يقال.
يواجه القارئ في أولى عتبات الرواية بقتامة العنوان، تحيل على النهاية قبل البداية، وتعترضه إثر ذلك معاجم ومفاهيم تعود به إلى قرون خلت، تكاد تقول إننا مازلنا نعيش الماضي السحيق وإننا لم نغيره بعد، رغم حداثة مزعومة. 

 

هناك في تلك الأعماق يكمن سر البعث الذي يجب التنقيب عنه
الكاتب والمؤلفة

وعناوين الفصول الثلاثة لكتابها الذي نحن بصدد عرضه، تنتح من الكتابة التراثية، وتشكك المتلقي في عقده القرائي؛ هل هو إزاء رواية كما تعلن الصفحة الخارجية أم إزاء  كتابة تحليلية تاريخية؟ فالباب في الكتب التراثية عادة هو ما يسمُ موضوع بحث أو يختزله، وهو في رواية "آخر الرعية" معقود على شخصيات ثلاث هي "الباش كاتب" في الباب الأول و"الحاكم الكبير" في الثاني و"الرعية" في الثالث، غير أن بنية الرواية الحدثية تدحض الوهم الأول لتجلو تعددًا في الأصوات من جهة، وهيمنة لشخصية الكبير في كامل الرواية، وإذا كانت الشخصيات الأخرى عابرة، أو هي مجرد أصوات ورؤى تسهم في رسم صورة الكبير الحاكم وبلورة حقيقته، فالكبير أو الديكتاتور هو الشخصية الحدث في كامل الرواية، تهيمن في فصولها كما تهيمن في مستوى الوقائع، فتتحكم في العقول والأرواح، وتحدد مصائر البلاد والعباد، وتتلون معها آليات الاستبداد.
كما تمثل العتبة الثانية، أو مقولة ابن خلدون التي تصدرت الباب الأول، إشارة لأولى آليات القمع وعميات التحويل التي تعتمدها السلطة ضمانًا لبقائها، فالسيف والقلم وإن كانا حسب ابن خلدون "آلة لصاحب الدولة يستعين بهما على أمره"، إلا أنهما لم ينهضا عبر التاريخ القديم بوظيفة تسيير شؤون الحكم على النحو الذي صنعا من أجله، بل طالتهما انحرافات جعلتهما يتحولان أداتي قهر وتسلط في يد الحكام.
وتقول منية عن "آخر الرعية": "ينهض الهزلي في رواية "آخر الرعية" بوظيفة هجاء العالم وتحقير المقدس، أو نزع القدسية عما اتخذ شكل المقدس. ونزع القداسة يعني معالجة القضايا الخطيرة والجادة بمنظور وقح. تمارس الكتابة الروائية حريتها في مواجهة الاستبداد وتتحدى القمع المفروض على الإبداع، وتراوغ بمكر الساسة والطغاة، فتعمد إلى استراتيجيات عديدة لكي تنهض بوظيفتها النقدية دون تغييب الجمالي.
 إنها لتدعو القارئ إلى إعادة النظر وطرح السؤال حول علاقته بالعالم، بل هي تثبت قدرتها على أن تستشرف الآتي وتصوغ له بعض ما به يكون الإنسان إنسانًا".
يذكر أن منية قارة بيبان حاصلة على الأستاذية في اللغة والحضارة العربية، وقد عملت في سلك التربية أستاذة ومتفقدة، وشاركت في تأليف عدد من الكتب المدرسية والبحوث البيداجوجية، ونشرت عددًا من المقالات النقدية في مجلتي: "المسار" و"الحياة الثقافية" في تونس، وصدر لها "مغامرة الكتابة في مغامرة رأس المملوك جابر لسعد الله ونوس" عن دار الأطلسية للنشر عام 2009، وحصلت على جائزة النقد الأدبي من رابطة الكتاب التونسيين الأحرار سنة 2015 عن كتابها "رواية القمع في تونس".