من حرف الميم إلى الأنوثة

محاولة تحرير الذكرى المتجددة لـ "عيد الأم" من براثن ملابسات المرحلة، وتهويم سحابات الكورونا في سماء الذاكرة.
الشيطان تسلل إلى الجنة في جوف حية، حدثت حواء فأغرتها بالأكل من الشجرة
طعام البحر يحلو فيه طعم الأنثى

- 1 -
أحاول أن أحرر الذكرى المتجددة لـ "عيد الأم" من براثن ملابسات المرحلة، وتهويم سحابات الكورونا في سماء الذاكرة. لا أجد في خاطري أقرب من صورة طائر أبيض مغرد، وبرئ، يرف بجناحين مسالمين، يجد نفسه فجأة وقد أحاطت به عاصفة هوجاء أفسدت تجليه، وغيبت جماله! مع هذا تلوذ الذاكرة بالأم، كما كان يلوذ الرضيع بصدرها الحاني، فيستمد أسباب الحياة والأمن في رشفة واحدة! 
يتصدر صوت (الميم) حروف النطق الممكنة للرضيع، فيسبق صوت (الباء)، مع أن الصوت الأخير ينتج من افتراق الشفتين، في حين ينتمي صوت الميم (أم) إلى الأصوات الأنفمية، مع ه فإنه الصوت السابق عند الطفل أول نطقه، وهذه إمكانية رامزة وراكزة في الفطرة الإنسانية.

من أشهر الأمهات في التاريخ: الأمان اللتان تزوج بهما إبراهيم (الخليل = أبو الأنبياء)؛ إذ أنجب أولاً من جاريته المصرية (هاجر) ابنه الأكبر (إسماعيل)، فتحولت الزوجة العقيم العجوز (سارة) بعدها إلى أم

- 2 -
في قصة الخلق، كما جاءت في "سفر التكوين": خلق الله آدم من تراب، وخلق حواء من ضلع آدم، وأباح لهما كل ما في الجنة إلا تلك الشجرة (شجرة المعرفة) غير أن الشيطان تسلل إلى الجنة في جوف حية، حدثت حواء فأغرتها بالأكل من الشجرة، فأكلت، وأغرت آدم فتابعها. وبهذا العصيان أُخرِجا من الجنة بوعد إلهي: [فقال الرب الإله للحية: لأنك فعلت هذا، ملعونة أنت من جميع البهائم، ومن جميع وحوش البرية. على بطنك تسعين، وتراباً تأكلين كل حياتك. وأضع عداوة بينك وبين المرأة، وبين نسلك ونسلها. هو يسحق رأسك، وأنت تسحقين عقبه. وقال للمرأة: تكثيراً أكثّر أتعاب حبلك، بالوجع تلدين أولاداً، وإلى رجلك يكون اشتياقك وهو يسود عليك. وقال لآدم: لأنك سمعت لقول امرأتك وأكلت من الشجرة التي أوصيتك قائلا: لا تأكل منها، ملعونة الأرض بسببك. بالتعب تأكل منها كل أيام حياتك، وشوكاً وحسكاً تنبت لك، وتأكل عشب الحقل. بعرق وجهك تأكل خبزاً حتى تعود إلى الأرض التي أخذت منها، لأنك تراب وإلى التراب تعود]. 
(العهد القديم - سفر التكوين – الإصحاح الثالث).
في التوراة تحمل (الأنثى الأولى) وزر الخطيئة، وصناعة غواية الرجل، كما لُعنت الأرض – في جملتها.
في القرآن الكريم يختلف الأمر، فالخطاب في آياته موجه إلى آدم وحواء – على السواء – فالتحذير الإلهي مشترك، والخطأ مشترك، والعقوبة مشتركة، والمصير هو نفسه. فكان هذا الحكم الإلهي أول حكم بالبراءة تناله المرأة أمام (العدل الإلهي). 
- 3-
في القرآن الكريم ترددت كلمة (أم) بتقلباتها [أم، أمك، أمها، أمهات.. إلخ] (35 مرة) – و[أمة] – بمعنى جماعة (50 مرة)، و[أمتكم] (مرتان)، و[أمم] (13 مرة)، فالمجموع (100 مرة) ورد فيها ذكر الأم، وغلب فيه وصف الجماعة: أمة = 50 مرة على وصف المفرد: أم =35 مرة. وفي هذا إيماء معجز إلى أن الأم هي العنصر الفاعل المؤثر والموحد للأمة عبر علاقات الرعاية، والتكامل الإنساني.
أما (الأب) فقد جاءت صيغته بتقلباتها [أباكم، أبانا، أبوهم، أبويكم، آباؤكم ..إلخ] (117 مرة)، غير أن دلالتها لم تخرج عن (الآباء، والأعمام، والأجداد) في حين اتسعت (الأمة) لتشمل الجماعة.    
- 4 -
تصدر لفظ (الأم) عدداً من المؤلفات المهمة في موضوعها، ولعل الأسبق كتاب الإمام الشافعي، وعنوانه: "الأم" وهو في (15 مجلداً) يبحث فيه توصيف الأحكام وتعليلها على أسس فقهية، ألّفه الإمام الشافعي بعد أن عاش زمناً في مصر، ولاحظ من اختلاف أنساق الحياة فيها ما يحمل الناس على الاجتهاد أو الاختلاف في فهم بعض الأحكام؛ فرأى ذلك الفقيه العظيم أن يؤسس مبدأ (إمكان اختلاف الأحكام باختلاف ممارسات الواقع، ومأثور البيئة) فكان هذا الكتاب المؤسس لعلم (أصول التشريع). 
وفي مجال الرواية، تعد رواية أديب روسيا مكسيم جوركي "الأم" من أهم ما كُتب في مجال التبشير بالثورة البلشفية، ألف جوركي روايته سنة 1906 - أعقاب هزيمة روسيا أمام اليابان (1905) مما ساعد في حشد أعداء النظام القيصري إلى أن قامت الثورة (اللينينية) عام (1917) فأنهت عصر القياصرة ، وأقرت النظام الاشتراكي. 

وفي مجال المسرح يبدع الشاعر الكاتب المخرج الألماني برتولت برشت [بريخت] مسرحيتين، تتخذان من شخصية الأم، ومن معنى الأمومة أساساً لبناء المسرحية في فكرتها وفي أسباب الصراع فيها، في المسرحية الأولى: "الأم شجاعة" (1939) يصم الحرب بأنها ملعونة مخربة تحرق كافة أطرافها، بمن فيهم البعيدين عن المشاركة فيها، إذا ما حاولوا التكسب منها. أما المسرحية الثانية: "دائرة الطباشير القوقازية" (1949) فتصنع حكاية صراع حول معنى (الأمومة): فهل "الأم" هي التي تلد، أو أنها التي تربي وتحمي وترعى؟! وقد انتصر برشت في مسرحيته للمعنى الثاني، إذ حكم القاضي (أزبك) بالطفل لمن رعته وسهرت على تربيته، وتعرضت للخطر بسببه، ولم يعطه لأمه (البيولوجية) التي هربت ونسيته عندما حاق بها الخطر!
- 5 -
في تاريخ البشرية، في أزمنتها البدائية إشارة إلى عصر سيادة المرأة (الأم = المطريركية)، وفيه كانت المرأة تخرج للصيد، وتدبير المعاش، وتترك الرجل = الزوج في الكهف يرعى الأطفال، وفي ذلك الزمن استباحت المرأة تعدد الأزواج. حدث الانقلاب من (المطريركية إلى البطريركية) أي عصر سيطرة الرجل حين عرف الرجل (الزراعة) فخرج الزوج لغرس الزرع وتعهده بالرعاية، وتعلم الكسل جالساً إلى جوار (الغيط) ينتظر نضوج المحصول، وزوجته أو زوجاته هناك في الكهف.
- 6 -
من أشهر الأمهات في التاريخ: الأمان اللتان تزوج بهما إبراهيم (الخليل = أبو الأنبياء)؛ إذ أنجب أولاً من جاريته المصرية (هاجر) ابنه الأكبر (إسماعيل)، فتحولت الزوجة العقيم العجوز (سارة) بعدها إلى أم، فأنجبت (إسحاق، وهو إسرائيل = عبدالله) ومنه ولد يعقوب، الذي أنجب الأسباط الاثني عشر. فمع قرابة الأمومة بين فريق (سارة) وفريق (هاجر) بانتمائهما إلى الزوج نفسه (إبراهيم) فإن مشاعر الجفاء وسوء الظن كانت ولا تزال، وربما ستبقى غالبة!
- 7 -
بوجه عام تغلب الأنوثة على مظاهر الطبيعة: السماء، الأرض، الشمس، النجوم، الريح، المدينة .. كلها مؤنثة تنتمي إلى الأمومة.
ومن الطريف أن (الحرب) مؤنثة، و(السلام) مذكر!
ومن الطريف – كذلك – أن طعام البحر يحلو فيه طعم الأنثى، كما في: السمك بأنواعه، والكابوريا، حيث نحرص على تناول البطارخ. أما طعام البر فالمميز فيه (المذكر)، وهنا نستدعي لحم الخروف، ولحم العجل، وصدر الديك.
[كل عام وكل الأمهات، ومعاني الأنوثة، ولطفها ورقتها .. بألف خير].