من خلف الكاميرا

طفحت الدراما المصرية في موسم رمضان الحالي بأسوأ ما لديها. منتجو الدراما العرب يقدمون أعمالا مختلفة.

تظل الدراما العربية غير المصرية تحتل الريادة والتميز منذ أكثر من عقد كامل، لاسيما وأن المواطن المصري مشدوه ومشدود إلى الدراما التي تدغدغ ابتساماته البليدة وتعمل جاهدة على اجترار الضحك الذي لا ينبع من القلب بالضرورة، ولأن شهر رمضان الذي خصص سماويا من أجل التعبد وإقامة الشعائر إلا أنه في ذات الوقت يضمن جرعة طويلة من الدراما والبرامج المكرورة التي لا وربما لن تقدم جديدا في الأعوام القادمة. والحقيقة أن دراما مصر الرمضانية هذا العام خلت من العمق وأحيانا كثيرة من التنوير رغم أن مصر في معركتها ضد الإرهاب والتطرف بحاجة ماسة وجراحة سريعة وعميقة من أجل التعافي الذي سببته بعض التيارات الظلامية التي سادت المشهد المجتمعي منذ عقود بعيدة.

وأعتقد أن القارئ العزيز ليس بحاجة إلى رصد المشهد الدرامي المصري الذي ساده الضحك وامتداد الكوميديا بوجهها المباشر والسطحي، رغم أنني أعود مجددا لما ذكرته منذ أربع سنوات على وجه التحديد من حيث إن كثيرين من رجال الفن نفسه أو المحسوبين عليه أقروا بأن دورهم اقتصر على اللحظة السريعة المنتهية ولا يريدون أن يصنعوا مدا ومجدا استثنائيا لأنفسهم وأنهم بحق أصبحوا أكثر استسلاما لمنطق السبوبة أو اقتناعا بأن الجمهور لا يريدهم إلى في صور معينة كضابط متهور، أو تاجر مخدرات، أو أحد الحرافيش الذين صعدوا إلى قمة المجتمع الزائف، أو راقصة معتزلة تمكنت من فرضت سطوتها الجسدية على رموز مجتمعها من خلال احتفاظها بذاكرة سمعية وبصرية مسجلة، وهم لا يدركون أنهم يرتكبون جريمتين كبيرتين؛ واحدة في حق انفسهم بتخليهم عن فرصة فنية يصنعون بها مجدا شخصيا، وواحدة أخيرة بمشاركتهم في سحق التاريخ ونسيانه لدى قطاع الشباب الذي صار فريسة لشبكات التواصل الاجتماعي من ناحية، ومن ناحية أخرى أصبح فريسة سائغة الاقتناص والمضغ والبلع لهوس المنتجين أصحاب الأعمال الفنية الهابطة.

لذلك فنحن نعاصر خيبة فنية درامية سيطرت عليها قصص الراقصات والساقطات ومحترفي الإجرام والبلطجة، وحكايات المهمشين الذين صعدوا إلى قمة السلم الاجتماعي بفضل ضربة حظ أو سرقة سريعة أو ارتكاب جريمة أو غير ذلك من الملامح الدرامية التي لا تنقضي بانتهاء مشاهدها بل تظل قائمة في أذهان المشاهدين فسرعان ما يستمرأوا حياة الفهلوة.

هذا بالفعل ما كتبته منذ سنوات وأنا أقيم التجربة الدرامية المصرية وسط حسرة لتاريخ ضارب في العمق من أجل التجديد والتنوير وتثوير العقل وإعماله. لذا فمن العبث حتى ذكر هذه الأعمال الضعيفة التي لم تخرج عن فلك استهلاك الضحك. ولعلني أصبت حينما أرجعت هذا الخلل إلى شيوع الظاهرة الثقافية السائدة وهي انتشار الفقر الثقافي والذي يمكن إرجاعه بالحتمية إلى المؤسسات التعليمية التي فقدت بريقها وإحداثيات العجب التي يرتكبها وزير التربية والتعليم المصري منذ شهور. لكن هناك دراما عربية جديرة بالاحترام والتقدير ليس فقط كونها دراما تاريخية تستهدف العقل وتثير الذهن فحسب، بل لأنها تتناول قضايا فكرية ارتبطت بالعصور الذهبية للحضارة العربية. وهذا الغياب المصري المقصود فنيا للدراما التاريخية المرتبطة بقضايا فكرية رصينة يفتح بابا جديدا للجدل والسجال الفكري، مفاده أن الثقافة في خطر دائم، وأن الرصيد الثقافي المرئي لدينا ولدى حضارتنا الراهنة في طريقها إلى زوال، لاسيما وأننا أصبحنا في هوس دائم بالأعمال الدرامية التي تتناول قصص الساقطات أخلاقيا أو جنائيا وحياة صعود المطرب أو المطربة أو كيفية هروب رجال المخدرات من أيدي رجال الأمن وهكذا وتلك أمور تهدد الثقافة بوجه عام.

ولعل الناقدة الدكتورة وفاء كمالو أجادت حينما قامت بتوصيف دراما رمضان هذا العام بأنها الظاهرة الأسوأ في تاريخ الدراما المصرية بعد أن اختلت المعايير الفكرية والفنية واتخذت مسارا مفزعا نحو القبح والتزييف واستلاب الوعي وتدمير المعنى. وأصابت الهدف في مقالها المتميز بجريدة القاهرة حينما أشارت أن الثقافة تحتضر والوعي يموت والفن يغيب، وأن كل ما نشاهده الآن على الشاشات يأتي كنتاج شرعي لثقافة التخلف.

ثم ماذا بعد؟ أتحدث على وجه القصد عن عملين فنيين هما "العاشق صراع الجواري"، والآخر هو "مقامات العشق"، وكلاهما يتناولان عصرين ذهبيين من عصور الثقافة العربية التي سادت يوما ما في ظل حضارة أوروبية ظلامية آنذاك. والعملان يتناولان ترجمة درامية لشخصيتين من أقطاب التصوف الإسلامي البديع، الحسين بن منصور الحلاج، والثاني هو الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي، وبالضرورة والحتمية التاريخية أن الذين شاركوا في العملين من الفنانين السوريين الذين أبدعوا بحق، وأوصي القارئ بإعادة مشاهدة العملين لأن ما وراء الكاميرا يشير إلى ما واجهه الفكر المستنير من تحديات ظلامية، وبزوغ تيارات التطرف والعنف والإرهاب المرتبط بالدين.. رمضان كريم.