من دفتر رموز الوطن المنسية

هل فكرت يوما في أن تكون فاشلا؟ بالقطع لم ولن تفكر في هذا، ببساطة لأن كل واحد منا قد تعرض لتجربة أو محاولة فاشلة في حياته، سواء الدراسية أو المهنية أو حتى العاطفية، لكننا دائما اعتدنا إخفاء هزائمنا المتواترة في هزائم الآخرين، وهي سمة متأصلة لدى المصريين.

لكن هل فكرت يوما أن تصير عبقريا؟ نعم فلا تظن أن العبقرية وراثة فطرية، بل هي تكوين وصناعة وإعداد، ولأنك ضحية سياسات تعليمية جاهزة تفتقر التخطيط والمنطق والمنهج والرؤية الاستشرافية، فلا أعتقد أنك فكرت يوما في هذا. كما أنك في ظل ثقافة يتربع على عرشها الوزير الفنان فاروق حسني منذ أمد طويل لا أعرف عدد سنواته لكثرتها وكثرة حوادثها ويومياتها لا يمكن أن تلتقط بعض الأسماء الزاهرة المنسية في تاريخ حضارة مصر.

بالإضافة إلى ما تمارسه بعض وسائل الإعلام الفضائي الفراغي من هوس بكل ما يدغدغ المشاعر ويلعب على العواطف الرخيصة، ويثير مشكلات مثل البالوعات، وحرق الأعلام، واستقبال المنتخبات الرياضية بالورود. فكل ما سبق يجعلنا مضطرين إلى الجهل بقامات وهامات فكرية وحضارية في مصر المحروسة.

ومن بين هذه القامات ما أردت الحديث عنه في عجالة وهو الدكتور أحمد قدري أحد الضباط الأحرار في حركة 23 يوليو 1952 وعالم المصريات المشهور فيما بعد ورئيس هيئة الآثار المصرية الأسبق. ولأننا دولة تتمتع بتناقض شديد في الاحتفاء بشخصياتها، على سبيل المثال الاحتفاء والاحتفال بالشخصيات الرياضية، نجد إهمالا وتجاهلا مقصودا تجاه بعض الشخصيات مثل هذا العالم الجليل، الذي أثرى الحياة الثقافية والأثرية بأعماله ومؤلفاته الأكاديمية.

وفي الوقت الذي يتمتع به كثيرون الآن بالنرجسية تميز هذا الرجل بالتواضع الشديد وهو يشرف على مشروعات إنقاذ معابد فيلة والنوبة في المدة من 1970 إلى 1977 في إطار الحملة الدولية لإنقاذ آثار النوبة مع اليونسكو. دون التفكير في نقل تمثال رمسيس الثاني من مكانه، أو إقامة فنادق ربحية تحجب علاماتنا التاريخية كقلعة صلاح الدين، وكأنها مؤامرة لطمس هويتنا التاريخية والحضارية، لاسيما أننا منذ وقت طويل لم نشيد صرحا عملاقا يكون شاهدا على تاريخية مصر حتى الآن. والأغرب في سيرة الدكتور أحمد قدري أن منظمة اليونسكو والتي فشلت من قبل شخصيات عربية في الفوز بمنصب مديرها، لجأت إليه بشأن الإشراف على إدارة التراث العالمي لمشروعي إنقاذ آثار مدينتي صنعاء باليمن الشمالية وفاس بالمملكة المغربية.

وفي نفس الوقت الذي نكتفي فيه بمشاهدة آثارنا الهاربة والمهربة إلى متاحف العالم، أسهم هذا الرجل في تسوير وتبويب وإغلاق شارع الرفاعي المحصور بين مسجدي الرفاعي والسلطان حسن حيث كان شارعا مسفلتا تمر منه السيارات والمواصلات العامة فتم جعله للمشاة فقط وتم تسويره بأسوار معدنية حديدية سوداء وتبليطه للمشاة كدرجات بالحجر الجيري الأبيض الضخم.

وما أجمل الدكتور قدري حينما يتحدث عن الوطنية عندما قال إن الوطنية مفهوم ثقافي، من هنا لا يمكن أن نتصور وطنية بدون رؤية ثقافية، وبدون فهم وبدون ارتباط فكرى بالمكان والتاريخ، والوعي التاريخي جزء مهم جدا من الشعور بالوطنية. أما اليوم فالوطنية لا تعني سوى تعليق الأعلام الصينية الصنع فوق شرفاتنا، وعلى زجاج سيارات شباب الفيس بوك، حتى أن أكثر الأشياء التي أضحكتني عند زيارتي مؤخرا لمدرسة سمعت فيها تلميذا صغيرا ينظر إلى العلم القديم والممزق فوق ساريته وهو يقول لزميله: أنا رأيت هذا العلم في مباراة مصر والكونغو في تصفيات كأس العالم.

الله على الوطنية التي نكرسها في نفوس النشء بمدارسنا، فالعلم قديم وممزق، وكل ما يعرفه غير عن منتخب بلاده أنه فريق محمد صلاح والحضري وشيكابالا، مع احترامي الشديد لهؤلاء اللاعبين المصريين الذين منحوا المصريين والعرب الكثير من السعادة والبهجة.

ومن أبرز ما ذكره هذا الرجل العالم هو إن التاريخ هو الذاكرة الجماعية للشعوب، وإننا إذا تصورنا إنسانا بلا ذاكرة فلا نستطيع أن نتصور شعبا بلا ذاكرة جماعية، وإن عدم الوعى بالتاريخ يمثل خللا خطيرا في القوام الوجداني والفكري لأى شعب من الشعوب. إن الأوهام التى تترسب في وجدان شعب غير واع عن تاريخه والأخطاء والمفاهيم الخاطئة التى يتصورها، كل هذا يشكل عبء على ضميره وعبء على وجدانه وعبء على فهمه الصحيح للأشياء، فمن خلال الوعى التاريخي يتطور مفهوم هذا الشعب.

ولأننا اعتدنا أن نقدم كبش فداء لكل كوارثنا طبقا للإرث التاريخي منذ عروس النيل، فكان الدكتور أحمد قدري ضحية سقوط قطعة حجر من كتف تمثال أبي الهول بعد أن أتهم في سقوط هذا الحجر من كتف وقامت الدنيا ولم تقعد إلا على جثة الدكتور قدري. ووفقا لهذا المنطق علينا أن نحاسب نابليون بونابرت وجنوده لأنهم تسببوا في سقوط أنف أبي الهول، وكذلك نحارب عوامل التعرية لأنها أسقطت أجزاء من جسده.

وبقي أن نذكر أن من إنجازات هذا الرجل هو حديقة الخالدين، وحديقة الحوض المرصود، وصدور عدد كبير من السلاسل الثقافية وقت ما كان المصريون يقرأون مثل سلسلة المائة كتاب، وسلسلة الثقافة الأثرية والتاريخية، بالإضافة إلى أعمال الترميم التي أقيمت في عهده مثل قبة المدرسة الجوهرية الملحقة بالجامع الأزهر‏، ومسجد محمد علي وبئر يوسف‏، ومسجد الناصر محمد بن قلاوون بالقلعة، وسور مجري العيون‏، وقلعة قايتباي برشيد، و‏مسجد القاضي يحيي بباب الخلق‏، ومسجد أحمد بن طولون، ومن الآثار القبطية قام بترميم ‏دير ماري جرجس بأرمنت، دير الشهداء بإسنا‏، ودير العذراء بأخميم.

وإنه من الخجل أن نعلن صراحة بأن المبدع في ظل هيمنة تسييس الثقافة صار موظفا، وأن الإبداع الذي كان قديما حالة انفراد وخصوصية وإشراق صار عملا روتينيا قد تحركه الأهواء والمزاعم والغايات الشخصية.

ولقد فاجأني صديق بسؤاله عن رأس الفارس النبيل سليمان الحلبي الموجودة بصندوق زجاجي بمتحف اللوفر وهل من الممكن المطالبة باسترجاعها وعودتها إلى مصر، ودون تفكير عميق أو طويل تذكرت ما قاله الدكتور قدري عن الوطنية، واكتشفت حجم التجاهل والإهمال لرموزنا الحضارية وهم بين أيدينا، فكيف نهتم بشيء منذ قرون مضت؟