من ينقذ لبنان؟

الأداء السياسي في لبنان يؤدي إلى كل شيء إلا إلى وحدة لبنان.
ديمقراطية لبنان اشهرت عجزها في الدفاع عن الشعب وعن نفسها وعن الشرعية
لو لم يأت نابوليون ويؤسس الدولة الجديدة لاستمرت الثورة الفرنسية على مدى عقود
مأساة لبنان أن مفهوم الزعامة محلي ينحصر داخل الطوائف وقلما خرج زعيم يمثل الوطن

من ينقذ لبنان؟ لبنان في حاجة إلى منقذ. ما يجري اليوم تحت شعار الإنقاذ، يرسخ منحى الانهيار خصوصا أن الـمـولجين به هم سبب البلاء. كشفت تجارب الشعوب والدول أن حين تدخل دولة أو مملكة أو إمبراطورية طور الانهيار والتفكك، قلما تنقذها برامج وخطط ومساعدات ومؤتمرات ومبادرات. المشاريع الإصلاحية موجودة أصلا في إدارات جميع الدول ودساتيرها ومؤسساتها، لاسيما في لبنان. لكن، ما لم يبرز رجل عظيم (أو امرأة عظيمة) ـــ وليس بالضرورة أن يكون زعيما بالولادة وبالسيرة الذاتية وبالقوة التمثيلية ـــ ويأخذ على عاتقه إنقاذ الأمة بحزم وتجرد وبعد رؤية، تواصل الدول مسارها المنحدر حتى السقوط العظيم. يكاد يكون هذا الاستنتاج قاعدة عبر التاريخ القديم والحديث.

وتظن شعوب أن فشل الدولة يستعاض عنه بثورة تحقق الإنقاذ بمجرد اندلاعها. لكن سها عن البال أن الثورة تبقى ثورة تدور حول ذاتها في الشوارع ما لم يبرز من خلف غبارها قائد يشكر حماستها ويوظف طاقاتها الثورية في مشروع إنقاذي ويبني دولة مستقرة. لكانت الثورة الفرنسية سنة 1789 استمرت عقودا لو لم يأت نابوليون بونابرت ويقوم بالتغيير ويسن التشريعات ويجري الإصلاحات ويؤسس الدولة الجديدة. ولكانت الجمهورية الفرنسية بعد التحرير (1945) لا تزال مضطربة سياسيا حتى اليوم لو لم تسلم مقاليد الحكم إلى الجنرال شارل ديغول، فأرسى دستور الجمهورية الخامسة الذي ثبت استقرار فرنسا واستقلالها.

لا يعتقدن القارئ أني أنتظر نابوليون وديغول. العقل زينة الكتاب مبدئيا. ومع ذلك، لا يوجد حاليا مؤشر إلى بروز شخصية لبنانية واعدة. المواسم كساد والمجتمع بوار والنسل آسن. ومن وضعتهم مواقعهم ومناصبهم في عين الزعامة المنقذة أضاعوا، بغالبيتهم، قدرهم ودورهم في العبث واللهو والانتقام والتردد والأنانية، في الحسابات الخاطئة والتحالفات الباطلة، وفي الطموحات الصغيرة والأحلام الخيالية. مأساة لبنان أن مفهوم الزعامة محلي ينحصر داخل الطوائف، وقلما خرج زعيم يمثل الوطن بكل مساحته والشعب بكل تلاوينه. وإن خرج يقتل كأنما مكتوب على اللبنانيين أن يظلوا دويلات ويحلموا بدولة. 

من هنا، لا أدري إذا كان سبب انهيار لبنان الطبقة السياسية فقط أم انهيار تجربة الدولة ـــ الأمة التي تسقط تدريجا في العالم في أحضان كيانات أضيق (الاتحاد السوفياتي والبلقان والشرق الأوسط) أو اتحادات أوسع (أوروبا، آلينا وبريكست)؟ الشعوب الواثقة من نفسها واستقلالـها انفتحت كياناتها على اتحادات إقليمية، والشعوب الخائفة على خصوصياتها فضلت تقرير مصيرها في كيانات جديدة تضمن استقلالها الذاتي وحضارتها ونمط حياتها. إذا كان واقع الشرق الأوسط الـمتفتت لا يسمح للبنان حاليا الانخراط باتحادات إقليمية، رهاننا ألا نسمح لواقع لبنان الـمتفتت بالقضاء على الوحدة الكيانية. لذلك لا بد من منقذ يوقف اندفاع اللبنانيين نحو الخيارات الصعبة.

دعونا من تحولات الشرق الأوسط. إن الأداء السياسي في لبنان، بحد ذاته، يؤدي إلى كل شيء إلا إلى وحدة لبنان. إلى ما يؤدي تعطيل الاستحقاقات الدستورية وتنحية الدولة ومنع تأليف الحكومات؟ إلى ما يؤدي وجود جيش حزب الله وزعزعة دور المؤسسات العسكرية والأمنية وانتهاك الحدود الدولية؟ إلى ما يؤدي تطور المجتمع السني وتبدل البيئة الشيعية وهجرة المسيحيين؟ إلى ما يؤدي ضرب مقومات الاقتصاد الوطني والنقد اللبناني ونظام المصارف؟ إلى ما يؤدي عطب مؤسسات الإشعاع اللبناني كالمدارس والجامعات والـمستشفيات والإعلام؟ إلى ما يؤدي بروز ثقافات وأنماط حياة، بل مجتمعات مكتملة البنى التحتية، غريبة عن تراث اللبنانيين مسيحيين ومسلمين ودروزا؟ إلى ما يؤدي تفجير المرفأ وهدم بيروت وإعاقة انطلاق وسطها وإفقار الناس وتجويعها؟ إلى ما يؤدي توطين اللاجئين الفلسطينيين وبقاء النازحين السوريين ومراسيم التجنيس؟ إلى ما يؤدي مخطط دفع اللبنانيين إلى القرف واليأس وقد أصبحا حالة "وطنية" لا نفسانية فقط؟ وأخيرا، لا آخرا، إلى ما يؤدي إجهاض جميع برامج الإصلاح والإنقاذ اللبنانية والدولية؟ 

مجموع هذه الأداءات يهدف إلى أن يكفر الشعب بلبنان الكبير، وأن يسلم بمنطق عبثية العيش المشترك في دولة واحدة مركزية، وأن يستسهل الخيارات الأخرى المخالفة الخيار الوطني الأصيل، وهو خيارنا الأساسي منذ عهد الخلافة والإمارة فالجمهورية. وليكن واضحا أن الوقوع في تجربة الخيارات البديلة هو مسؤولية الـمسبب بها، لا مسؤولية من يتقبلها من منطق "لا حول ولا قوة".

قاومنا عسكريا المس بالكيان اللبناني والدولة والنظام حين كان المعتدون غرباء وأعداء. واجهنا احتلال المنظمات العسكرية الفلسطينية والجيش السوري والقوات الإسرائيلية. نجحنا جميعا في جميع المواجهات ـــ ولو عبر مقاومتين مختلفتين ـــ أما اليوم، فنحن أعداء أنفسنا وغرباء عن بعضنا البعض. نحن شعب يحتل دولته ويعتدي على نظامه ويقتسم أرضه ويضرب سيادته بنفسه، فمن يقاوم من؟ أيتقاتل المقاومون السابقون فنمسي في حرب أهلية يسعى إليها الأعداء الجدد والقدامى؟ مواجهة اللبناني الآخر ليست مقاومة، بل حرب أهلية يتحاشى الجميع اندلاعها رغم أن البعض يدفع باتجاهها.

من ينقذ لبنان؟ لبنان في حاجة إلى منقذ. في ظل الصيغة اللبنانية، يفترض أن يطل المنقذ من خلال النظام ومن إحدى المؤسسات عبر الآليات الدستورية والأعراف الميثاقية. لكن، ما كنا في حاجة إلى منقذ لو كان النظام والمؤسسات الشرعية والحزبية تعمل بانتظام.

كشف التاريخ الحديث، أن الديمقراطية ليست حلا دائما لكل الحالات والمجتمعات والدول. وإذا كانت الديمقراطية أفضل نظام دستوري لتمثيل الشعب وتوفير الحريات، فليست كذلك لضمان الوحدة والأمن وانتظام عمل المؤسسات وإنقاذ الشعوب رغما عنها، وهذه حال لبنان. الديمقراطية تستطيع إنقاذ شعب من أزمة عميقة إذا كانت مكونات الشعب تعيش في كنف الشرعية وتحتكم إلى الدستور، أما في وضع لبنان، فالديمقراطية شهرت عجزها لا في الدفاع عن الشعب، بل حتى في الدفاع عن نفسها وعن الشرعية. فمن ينقذ لبنان

طرحت السؤال ولا جواب لدي عنه. لكن لا مفر من طرحه لأن لا خلاص من دونه. حتمية السؤال يفرضها دنو سقوط الدولة المركزية، وفقدان الجواب ناتج عن غياب الاسم وجهل المؤسسة التي يخرج منها الـمنقذ. هل يخرج من المجلس النيابي؟ من الأحزاب؟ من الثكنات؟ من النقابات؟ من المجتمع المتمدن؟ من مرجعية دينية؟ من بلاد الانتشار؟ من القضاء؟ من الشارع؟ هل يكون المنقذ فردا أم مجموعة؟ فليخرج من أي مكان، الـمهم أن ننقذ لبنان.