'مهد كيميت' يرافق التاريخ عندما كان طفلًا

كاتب د. محمد خميس يفتح أبواب فكرية كثيرة ويقدم تفسيرات جادة تحترم العقل ومختلفة لعدد من الأشياء الغامضة في تاريخ البشرية وتاريخ مصر على وجه الخصوص.
هبة فاروق
القاهرة

الجميع يكره الظلام، لا اختلاف على ذلك؛ ولكن أن تشل الحياة تمامًا في فترة انقطاع التيار الكهربائي؛ فيكاد يجن من ينفد شحن تليفونه المحمول في نفس توقيت انقطاع الكهرباء.

جعلني هذا أفكر فيما كان يفعل القدماء بدون كهرباء وبدون تكنولوجيا.

فلنعود إلي البدايات علنا نصل إلى إجابة شافية...

كتاب "مهد كيميت" لكاتبه د. محمد خميس الشاعر والممثل وعضو اتحاد الأثريين المصريين؛ والذي انهيته في وقت قصير، فهو كتاب ممتع ويفتح أبواب فكرية كثيرة، وجاء به تفسيرات مختلفة لعدد من الأشياء الغامضة في تاريخ البشرية وتاريخ مصر على وجه الخصوص؛ وهي تفسيرات جادة تحترم العقل، وحقيقة استمتعت بالقراءة، وسيل الأفكار المتنوعة.

الكتاب جاء خليط ما بين البحث الجاد، والحس الروائي المتدفق، فعرض سيل من المعلومات عن بدء الحضارة وتطورها على الأرض بأسلوب بسيط، سهل الفهم، في مساحة صغيرة من الأوراق.

ولنبدأ من العنوان "مهد كيميت – عندما كان التاريخ طفلًا – دراسة" – دار كتوبيا.

أظن أنه كان الأفضل من وضع كلمة "دراسة" على الغلاف؛ أن توضع كلمة "رسالة في التاريخ"؛ حيث ذكرني الكتاب وأسلوبه الأدبي برواية "عالم صوفي – لجوستاين جاردر"، حيث جاءت في شكل مجموعة رسائل، تصل لبطلة الرواية عن تاريخ الفلسفة...

 وقد ظهر في آخر الكتاب تنويه عن تكملة في جزء لاحق؛ فلو هناك مشروع لجزء ثاني، ومع  النفس الحكائي لكاتبنا د. خميس؛ فيمكن أن يستغل، ويكون الجزء التالي رواية أو مجموعة رسائل.

ولنبدأ معا في قراءة الكتاب، بداية من المقدمة...

لا أحب مقدمات الكتب؛ التي تحرق مادة الكتاب؛ فتقتل التشويق، أو التي تسهب في شرح غير متعلق بالمادة المقدمة، وأفضل أن تكون المقدمة مختصرة ومتعلقة بالمادة البحثية –في حالة الكتب البحثية-؛ وبناء على ذلك لم أر فائدة من مقدمة الواو التي كانت أول ما يواجه القارئ لكتاب مهد كيميت؛ وكان يكفيني أن ألاحظ أثناء القراءة، انفصال الواو عن الكلمة التالية فقط، من غير مقدمة؛ كانت من الممكن أن تنفرني من إكمال قراءة الكتاب، وأحمد الله أن نفسي طويل مع القراءة؛ فلا أتوقف عن كتاب بدأته مهما كان ما يحويه...

والحقيقة لو طبقت فكرة الواو المنفصلة؛ قد تحل أزمة، أو تسبب أزمة في عدد كلمات الملف؛ بمعنى أن الواو حرف؛ ولكن بطريقة د. خميس ستحسب كلمة، وذلك في حالة العد على برنامج الوورد؛ وهو أمر -لو تعلمون- عظيم في حالة النشر.

ويظهر من الشكر الطويل أنه الكتاب الأول لصاحبه؛ فغالبًا في الكتاب الأول لأي كاتب يظهر امتنانه وشكره العميق لكل من كان بجانبه في صناعة كتابه الأول.

أما عن محتوى الكتاب؛ فهناك تطرقات كثيرة وبعيدة عن الموضوع الأساسي، مع وجود معلومات كثيرة في الكتاب؛ قيلت بطريقة بسيطة، وذلك يحسب للكاتب؛ الذي – ما شاء الله- عنده طاقة سردية عالية جدًا...

والكتابة الجيدة تجعل عدد من الأسئلة يتردد داخل القارئ؛ وهذا هدف الكاتب الذي يقدم شيئًا جديدًا، أو يقدم شيئًا موجودًا؛ ولكن بطريقة مختلفة...

 فمثلًا في كتابنا هناك فواصل إبداعية تحت عنوان "فلنتحدث" عبارة عن تدفق مشاعر؛ وهو ما جعل طابع الرسالة يغلب على شكل الكتاب، وبالطبع الطابع الأدبي، أكثر من الطابع الأكاديمي البحثي...

فالدراسة البحثية تُقدم بشكل مختلف تمامًا، مع تأكدي من صحة كل المعلومات، حيث ردها الكاتب لمصادرها؛ إلا أن الاعتماد عليها كمادة بحثية؛ قد يكون عليه اختلاف بين الباحثين، فالعمل مزج جميل بين البحث وبين السرد الأدبي؛ ولكن إحساسي أن المحتوى رسائل تعليمية أعلى بكثير من فكرة سيطرة اللغة البحثية عليه.

أما عن أفكاري التي تخرج من قارئ متمعن في القراءات الأدبية؛ فهي عن عالم المشاعر الموجودة بكثرة في أعمالنا الإبداعية، والحقيقة أن الكاتب يكتب نفسه، أو يكتب رؤيته عن الآخر، والتي تخرج من داخله أيضًا. ويكون السؤال: هل الكاتب مستباح مناقشته في مشاعره، بسبب عرضه لها في أثناء الكتابة، أم يكفي مناقشة الأفكار فقط؛ لأنها عامة جدًا، وبعيدة عن العالم الشخصي للكاتب؟

عامة أميل لفكرة موت الكاتب؛ وهو ما يعني أنه لا يلزم مناقشته في أفكاره، ولا مناقشته في مشاعره؛ ولكن يكفي أن أقول رأي في عمله فقط لا غير...

ومن الأفكار التي أثارتها مراحل تطور التاريخ المذكورة في الكتاب، ومراحل ظهور اللغة المكتوبة على حوائط الأجداد؛ جاتني فكرة قد تكون جادة وقد تكون مجرد فكرة لا أساس لها؛ فأنا أرى أن اللغة تكاد تكون أسبق في الظهور من الإنسان نفسه -بغض النظر عن تفسير الكاتب- إلا أن اللغة هي كلمة البدء (كن) ربما قوة تلك الكلمة هي التي صنعت الكون وما حوى.

ومن المضحك أنه عندما وصلت للجزء الذي يتكلم عن خوف الإنسان من الظلام؛ كان التيار الكهربائي قد أنقطع فعلا؛ يا محاسن الصدف.

أما عن تطور البشرية؛ والتي ذكرت بالكتاب بتفاصيل وأنواع البشر منذ البدء حتى الوصول للإنسان العاقل؛ فلا يجوز -بالطبع- فرض نظريات وهمية؛ ولكنها مجرد أفكار مرتبة داخل عقلي؛ تعود لخلفيتي الثقافية، والتي لا ألزم أحدًا بالأخذ بها.

فرؤيتي الخاصة أن ما قبل الإنسان العاقل، هو ما أشارت إليه الملائكة في قولهم "أتخلق فيها من يفسد فيها..."، وأن آدم –عليه السلام- هو بداية الإنسان العاقل على الأرض، والله أعلم؛ فكلها غيبيات، حتى التاريخ غيب من الغيبيات؛ ولكنه ممتع لأنه حكاية الكون.

شكرا د. محمد خميس على الكتاب، وعلى الأفكار، وعلى جنون النصوص التي تتبع الأفكار، ومنها هذا النص، من وحي كيميت العظيمة وتاريخها:

ما أغرب أن تنساني يا صديق

وأن تمر جواري ولا تعرفني

أنا ذاك العمود الذي تتكأ عليه حين تصلي

لا... لا...

أنا عمود في كنيسة عُلق علي صليب

يحيّني الداخل بتحية المسيح

لا....

بل أنا عمود في معبد

صُلب عليه محب قديم

لامرأة كانت من بيت الملك

وما أصعب ذاك الحب يا صديق

سيتدلى قلبه من جسده حيًا وميتًا

ولن يصل إليها أبدًا

الماضي يحرقني يا صديق برموزه وأسراره

أتعرف سري المخيف؟

لا تعرفه بالطبع

سأفشيه لك...

الأماكن تكلمني

ترسل لي رسائل في أشكال شتى

حياوات تعاد في عقلي

أشخاص يتألمون

الجميع يتألم

دائمًا يتألمون

وأنا لا أحتمل أن أحمل كل هذه الآلام وحدي

أتشاركني؟

لن تفعل

ولن أتركك تفعل

فلا يحمل رأسي غير جسدي

ولن يحمل قلبي سواي