'موت الفلسفة' يحيي أدوارها من وجهات نظر مفكرين

كتاب هويدا صالح يطرح تساؤلات عن ارتباط الفلسفة بمختلف مسارات الحياة تبدأ من: كيف نقرأ الفلسفة؟ وتنطلق إلى اسئلة مثل هل تساعدنا الفلسفة على مقاومة الأمراض النفسية؟ لماذا نحتاج لممارسة الفلسفة في حياتنا اليومية؟ كيف تساعد الفلسفة على إجراء محادثات عمل ناجحة؟.

يحمل كتاب "موت الفلسفة" الذي أعدته وقدمت له الناقد والروائية د.هويدا صالح رؤى عدد من كبار المفكرين الغربيين من بينهم تشارلي هوينمان، أليكس سونجنج كيم بانك، ستيفاني روس، روزا ريتونانانوي، قاسم قريشي، ربيكا روتشي، جوردان لايت، مارتن فرانسين،غيرت جان لوخرست، وآيبو فان بول.

هذه الرؤى تنطلق جميعها من تساؤلات حول علاقة الفلسفة بالواقع الحياتي ودورها في الفكر الإنساني، وقدرتها على التعاطي مع القضايا الإبداعية والاجتماعية والنفسية،وذلك في ظل واقع ممتلئ بالصراعات والنزاعات والتوترات التي انعكست قدرة الإنسان على التفكير والابداع والابتكار سواء كان مواطنا عاديا أو مبدعا أو باحثا ومفكرا ومثقفا.

الكتاب الذي صدر عن منشورات الربيع تتمحوردراساته جميعها حول تساؤلات ارتباط الفلسفة بمختلف مسارات الحياة، تبدأ من: كيف نقرأ الفلسفة؟ وتنطلق إلى:هل تساعدنا الفلسفة على مقاومة الأمراض النفسية؟ لماذا نحتاج لممارسة الفلسفة في حياتنا اليومية؟ كيف تساعد الفلسفة على إجراء محادثات عمل ناجحة؟ ما مدى حاجتنا إلى الفلسفة في عصر التكنولوجيا؟ هل تلعب الفلسفة دورا في تغيير المعتقدات المقيدة للذات؟ كيف يجب أن نفهم المعتقدات التي تعيقنا بشكل أوضح؛ مما يساعدنا على تحديها؟ وكيف يمكن التعامل بشكل أفضل من خلال الفلسفة مع المريض النفسي، عندما يبدو أن معتقداته تختلف اختلافًا جذريًا عن معتقدات الآخر؟ وماذا لو كانت هذه المعتقدات تختلف كليةً عن تصورات الآخر عن الواقع؟.

في مقدمتها للكتاب الصادر عن منشورات الربيع تقول صالح "قبل سنوات، أعلن الفيزيائي البريطاني الشهير ستيفين هوكينج في مُفتتح كتابه "التصميم العظيم"، موت الفلسفة، وقد ردّد الباحثون والأكاديميون تلك المقولة بين مؤيدٍ ومعارض، واعتقد كثيرون أنّ واقع الفلسفة الآن يعارض تمامًا تلك المقولة، وأنّ ما يقصده هوكينغ هو موت دور الفلسفة في تفسير الكون المادي والظواهر الطبيعية بعد أن قام العلم بذلك، فقديمًا حملت الفلسفة على عاتقها مهمة البحث عن الحقيقة والخوض في شتَّى مباحث المعرفة؛ حتى أطلقوا عليها "أم العلوم"، وكان الفيلسوف يقوم بدور العالِم، من يمتلك المعرفة والحكمة.

لكن مع الثورة العلمية التي بدأت تأخذ منحى جديدًا وتتسارع وتيرة اكتشافاتها بشكلٍ غير مسبوق، بداية من نظرية داروين في علم الأحياء، مرورًا بسيجموند فرويد وتأسيسه لعلم النفس التحليلي، وصولًا إلى فيزياء أينشتاين ثم ميكانيكا الكم، وليس انتهاء بالذكاء الاصطناعي. بدأت الفلسفة تتراجع وتحل محلها الإبيستيمولوجيا باعتبارها منهجًا نقديًّا يتيح لها مقاربة كل ما ينتجه العقل البشري من علوم إنسانية وعلوم بحتة، وأصبح العلم التجريبي من خلال التطور التقني والتكنولوجي قادرًا على سبر أغوار الكون بفاعلية كبيرة، ويُستدل على الكثير من أسراره بشكلٍ دقيق، وذلك ما كان مستحيلًا على الفلسفة في ظل أدواتها المحدودة سابقًا المتمثلة في مناهج الملاحظة والتأمل ومحاولات التفسير، لذا نتساءل ما الحاجة إلى استعادة الفلسفة؟ لماذا يجب أن نعاود طرح الأسئلة الفلسفية الكبرى في ظل اتجاه ما بعد الحداثة الذي يرفض طرحها، خصوصًا بعد إعلان ليوتار أحد أبرز منظري هذا الاتجاه "سقوط السرديات الكبرى".

وتضيف "لعل السؤال البديهي الذي يطرح نفسه عند حديثنا عن أهمية استعادة الفلسفة، لماذا الآن وقد وصل الإنسان إلى هذا التقدم العلمي الذي أوصله إلى أن يكتشف كلّ أسرار الفضاء والكون والمجرات وغيرها يريد أن يطرح أسئلة الفلسفة؟ إنه سؤال الغاية و الجدوى، وذلك بغية تصحيح التمثلات التييتمثلها قارئ الفلسفة في الألفية الثالثة، و في ظل هذا المناخ لهيمنة التقنية على كل شيء صارت الفلسفة أو التفلسف والتأمل ترفًا لا يحتاجه مجموعة التقنيين الذين يقودون العالم، بل وصل الأمر في ظل هيمنة وسائل التواصل الاجتماعي (السوشيال ميديا) أن يتحدث الجميع حتى الحمقى، ويبدون الرأي في كل شيء مثلما صرح الروائي والمفكر الإيطالي أمبرتو إيكو، أولئك الذين لا يمتلكون أي معرفة أو وعي بالمفاهيم والقيم المعرفية ومع ذلك يمكنهم أن يقودوا تأثيرات كبرى في العالم. وقد ظهر الآن ما يُسمّى بالـ "المؤثرين" الذي يقدمون رسائل للعامة ينساق وراءها حتى النخبة المثقفة. لقد بدا أن أولئك المؤثرين بإمكانهم أن يقودوا العامة إلى كثيرٍ من الأنساق الجديدة التي تخلقها التكنولوجيا، لكن.. هل بإمكانهم أن يبدعوا أنساقًا جديدة في العلم مثلا، أو أن يقترحوا نظامًا أخلاقيًّا واجتماعيًّا وسياسيًّا يحقق رغائب الإنسان المعاصر ومقاصده، ويحل أزماته النفسية العميقة؟".

وتؤكد صالح أن العقل التقني يتلقى المعرفة دون أن يتوقف أمامها ليُسائلها أو يشك في جدواها، لأنه عقلٌ واثق من معطيات العلم، لقد أسلم نفسه للآلة مثل التلميذ الصغير الذي تعوّد على إجراء عملياته الحسابية بالآلة الحاسبة لدرجة أنه ألغى عقله، فلا يتمكن أن يجمع عددًا من الأرقام البسيطة دون اللجوء إلى تلك الآلة الحاسبة.لذا فنحن نحتاج إلى الفلسفة، أكثر من أي وقتٍ مضى، باعتبارها نشاطًا للتفكير و التأمل، فتاريخ الفلسفة هو تاريخ العقل كما قال هيجل؛ أي تاريخ المفاهيم المعرفية عبر مسيرة الحضارات الانسانية، وبالفلسفة استطاع العقل الإنساني أن يفكر في الذات والعالم،. قارب العقل قضايا الوجود والزمان والكينونة والمعنى.

وترى أن عودة الاهتمام بالفلسفة هو عودة للاهتمام بالعقل ومهارات التفكير، وعودة للاهتمام بحق طرح الأسئلة، العقل النقدي، والفلسفة هي وحدها تمنحنا هذا الحق بل إنها تدافع عنه بإصرار، بهذا يكون الدفاع عن الفلسفة دفاعًا عن الإنسان كذات واعية. بل إنه دفاعٌ عن العقل الإنساني نفسه الذي من المهم له أن يكون عقلا ناقدا يُسائل مفاهيم اليقين والوثوقية، ويفكك ما هو قار ويخلخل بنياته المركزية؛ ليقيم بنى معرفية تقوم على مفاهيم عصرية تنتصر للتصالح مع النفس والعالم؛ مما يسهم في خلق وعي جمعيّ بما هو اجتماعي وما هو سياسي؛ ومن ثمّ إصلاح المجتمع من خلال تطوير الحياة فيه. فاللحظة الراهنة المرتبكة ما بين هيمنة التقنية من ناحية وهيمنة أفكار الخرافة والميتافيزيقا من ناحيةٍ أخرى بحاجة إلى عقل فلسفي تأملي يفسر كيف لعقل درس العلوم البحتة والفيزياء والكيمياء ولديه تفسير علمي عن نشأة الكون يجنح للأفكار الماورائية في تفسير نشأة الكون.

وتلاحظ صالح أنه رغم أننا في عصر التكنولوجيا إلا أن ثمّة علاقة نشأت بين الفلسفة والتقنية، فيما يسمى حاليًا بـ "فلسفة التكنولوجيا". ليس هذا فحسب، بل هناك علاقة وثيقة بين الفلاسفة والمشتغلين بالتكنولوجيا حتى أن مديري شركات العالم السيبراني جوجل وأبل ومايكروسوفت وفيسبوك وغيرها يحرصون على وجود مستشارين فنيين واجتماعيين ونفسيين في إدارات هذه الشركات، حيث صارت هذه المؤسسات التقنية الكبرى تتوجه إلى الفلاسفةليس فقط للاستفادة من تحليلاتهم لقراءة الشخصيات الافتراضية التي تستهدفها هذه الشركات، بل بات وجود هؤلاء الفلاسفة في تلك المؤسسات العالمية الكبرى بمثابة المستشارين النفسيين للعاملين فيها.

فَثَمَّة أسماء عديدة معروفة بتخصصها الفلسفي تعمل في تلك المؤسسات؛ منهم: أندرو تاغارت، ودامون هورويتز، ورايد هوفمان، وكارلي فيورينا، وريان هوليداي، وبيتر ثيل، وريان جينكنز؛ مما يطرح سؤال العلاقة بين الفلسفة والتكنولوجيا! وربما يفسر هذا الأسباب التي دفعت جامعة ستنافورد في منتصف الثمانينيات إلى تأسيس برنامج تثقيفي للعاملين بهذه المؤسسات يجمع بين علوم التكنولوجيا وعلم الأعصاب، المنطق، وعلم النفس، والذكاء الاصطناعي، وهذه الفلسفة التي تدمج بين علوم التكنولوجيا والفلسفة بات يُطلق عليها "الفلسفة العملية"، وهي أقرب إلى ما يُسمّى أيضًا بـ "الفلسفة التطبيقية" التي هي حقل من حقول الفلسفة، تنظر في وجود الإنسان اليومي، ومشكلاته وهمومه وتساؤلاته، وأفعاله وإنجازاته، واختياراته وقراراته، شعوره بالحيرة والارتباك أمام ما قطعه العلم من إنجازات كانت تبدو كمعجزات مستحيلة التحقيق في وقتٍ سابق. لذا الفلسفة لم تعد تغرق في التجريد أو تدخل القارئ في متاهة الاصطلاحات والتعقيد، بل صارت تقترب أكثر مما هو يومي ويمسّ حياة الإنسان.

وتوضح أن الإغراق في التجريد يفصل الفلسفةَ عن حياة الإنسان اليومية. لذلك يظنُّ كثيرون أنّفلسفة الأخلاق وفلسفة الفن وفلسفة السياسة وفلسفة التاريخ وفلسفة الاقتصاد، وفلسفة اللغة وغيرها من حقول الفلسفات التطبيقية تراعي متطلّباتحياة الإنسان، إذ إنّها تتناول مسائل الخير والشرّ، والضمير والواجب، وحقوق الإنسان، والحرّية والمسؤولية والعدالة، والرهانات التي تحملها قراراتُ الإنسان الحياتية. من المهم أن يعي الإنسان أنه يقرأ من أجل أن يفهم بنيته الذاتية الجسدية والنفسية والروحية.لذا، دأب الفلاسفة الغربيون على كتابة دراسات ومقالات تُخرِج الفلسفة من داخل الأسوار الأكاديمية المعرفية البحثية، وتُدخلها في معترك الحياة اليومية؛ مما يتيح للأفراد العاديين أن يفيدوا من الطروحات الفلسفية حول ما يهمهم في حياتهم اليومية.

وهذا أدى إلى ظهور مصطلحات "الطب الفلسفي/الفلسفة العيادية/ العلاج بالفلسفة"، ودور الفلسفة في تحقيق الصحة النفسية والعقلية الشاملة. وكذلك ظهور حلقات التفلسف التبسيطي الذي يُشارِك فيه الأطفال منذ نعومة أظفارهم، ومنتديات المناقشات الفلسفية في المعامل والمصانع والمؤسّسات التجارية والمكاتب الإدارية والمرافق العامّة. وكل هذا يؤهل الإنسان الفرد لفهم ذاته وفهم ما يحيط به من مفردات الحياة.

وتقول "باتت الممارسة الفلسفية شكلًا جديدًا لتقديم المشورة للأشخاص، الذين لا يشعرون، أنّ الكهنة أو الأطباء أو المدربين أو المعالجين النفسيين، يمكنهم تقديم المساعدة الكافية لهم فيما يتعلق بأسئلتهم ومشاكلهم الروحية/الوجودية. إنها إمكانية لطلب النصيحة من الفيلسوف. إنها ولادة جديدة لشيء قديم جدًا، ربما قريب من الأصل الأصيل للفلسفة، تعالوا نتخيل أننا يمكن أن نستفيد من الحوارات الفلسفية في ساحة المدينة في أثينا، أو الفلاسفة في الهند القديمة والصين، الذين يمكن للناس العاديين القدوم إليهم والتشاور بشأن حياتهم اليومية. تعالوا نتخيل أن نضع مشاكلنا اليومية، النفسية والاجتماعية على طاولات الفلاسفة؛ ليشرحوا لنا من غمض من تفاصيل حياتنا. ألن يجعلنا ذلك قادرين على مواجهة وساوسنا ومخاوفنا الغامضة وغير المبررة التي تحول حياتنا إلى كوابيس نفسية؟.

وتشير إلى إن اقتراب الفلسفة من الحياة اليومية في شكلها الحالي، جاء في الأصل من الفيلسوف الألماني جيرد ب. آخنباخ. في الأول من مايو 1981، افتتح أول ممارسة للإرشاد الفلسفي. وأسّس بعدها الجمعية الألمانية للممارسة الفلسفية، ومنذ ذلك الحين انتشرت هذه الظاهرة في جميع أنحاء العالم.وبعد ما مرّ به العالم من تغيرات كبرى بداية من العولمة، وطروحات ما بعد الحداثة التي انتصرت لما هو مقصي ومنسي ومهمش سواءً على المستوى الفردي الذاتي أو المستوى الاجتماعي، إضافةً لما حدث في السنوات الماضية من جائحة أدخلت البشر في متاهة كبرى من القلق الوجودي؛ مما جعل كثيرٌ من الناس يلجؤون لقراءة الفلسفة، يستشعرون الحاجة للحديث عنها، يعتبرونها علاجًا لكثير من أمراضهم النفسية، حتى صارت "العيادة الفلسفية" مقصدًا لكثيرٍ من الذين يحاولون فهم أنفسهم، تصوراتهم عن أنفسهم، وتصوراتهم عن العالم.

والسؤال: هل تساعد الفلسفة أولئك الذين يشعرون بفراغ داخليّ؟ ألا يملك علم النفس إجابات عن أسئلتهم؟ هل تلقّى الفلاسفة التدريب الّلازم من أجل العناية بأولئك الناس؟ أم إنّهم، مع اكتساب الفلسفة لدرجة من الشعبيّة، يقدّمون وعودًا بأشياء لا يقدر اختصاصهم على تحمّلها؟ ولم يعد للناس معايير، وهي المعايير التي وضعها الدين، أو حفظتها التقاليد أو فرضها العرف وصار عليهم توجيه أنفسهم بأنفسهم.

ومن الذين بحثوا في تأثيرات الفلسفة على الحياة اليومية هو الفيلسوف الألماني ريتشارد ديفيد بريشت الذي بحث في الأسئلة الكبيرة في الحياة بمساعدة المعرفة العلمية لكن بمرح وترفيه! ودعا إلى التفكير في الحياة وإمكانياتها بطريقة مرحة؛ لماذا يجب أن أكون جيدًا؟، كيف أعرف من أنا؟ إنها فلسفة الاستمتاع بالحياة في رحلة طرح أسئلة الذات، إيجاد الحرية الروحية الداخلية/الرغبة العميقة في فهم "الحياة الواقعية"، والغريب أن بريشت أصر على أن يُصدر كتابه عبر التكنولوجيا الحديثة، فهو كتاب صوتي يمكن أن تستمع إليه عبر السوند كلاود. يطرح بريشت سؤال "من أنا" وهل سأصبح أكثر رصانة كلّما تقدمت في السن؟ لماذا يغدو الحب مستعصيًا، وكيف يتحقق رغم ذلك. كما أن الفيلسوف الألماني فلهليم شميدت سار على درب بريشت، واتخذ من فلسفته منهاجًا هو الآخر.