موفق أحمد ومقارباته اللونية لقصائد ملاي جزيري

محاكاة الفنان التشكيلي بين ألوانه وقصائد أحد أشهر الشعراء الكرد قاطبة هي محاكاة اللون مع الخيال، بالاعتماد على الحركة والفضاء غير المغلق.

العلاقة ما بين الكلمة واللون، بين الأدب والتشكيل هي علاقة عشق بنكهة قوس وقزح، وبطعم أبجدية مشبعة بالأحاسيس والوقائع، مشبعة بالسحر والخيال والجمال، وممتدة لمعالم لا نهاية لها، فكيف إذا كانت الكلمة لشاعرنا الأكبر أحمد ملايي جزيري ( 1570- 1640 ) أحد أشهر الشعراء الكرد قاطبة، والذي تعتبر نصوصه قصائد تشكيلية بكل مفرداتها وصورها، واللون هو الفنان موفق أحمد، الذي وفق بحق حين إستلهم بعض لوحاته من قصائد ملا جزيري، أو حين ترجم قصائد جزيري التشكيلية إلى مشاهد بصرية، فالمحاكاة التي أجراها موفق بين ألوانه وقصائد الجزيري هي محاكاة اللون مع الخيال، بالإعتماد على الحركة والفضاء غير المغلق، فنكون أمام حركة فنية فيها من التحولات ما يجعل موفق ممسكاً بتقاليد العلاقة على نحو ما يرى من إفتنان بتلك القيم التعبيرية التي تلد من معالجاته اللونية بالقصيدة، فهو هنا يجعل من رؤيته الحدسية ترتبط بذهول ما تعكسه الأطر العامة لتكويناته، وما يتجلى في إضاءاته وإشراقاته، فما يلف عمله من أشكال تعبيرية يضاعف من قوة مشهده البصري، وبالتالي من تجربته في توزيع قصائد الجزيري بألوانه على سطوحاته، وداخل صيغه، معبراً عن العشق الغريب والغني بآفاق خيالية، وذي الحس الصوفي الذي يقترب إلى أقصى حدود اللاوصول، ومن خلال مساحة لونية مزخرفة بقصائد العشق الجزيري يجسد موفق قيم بصرية متلاصقة لروح الناظر قبل عينه، فنتوءات النور وعلى إختلاف إختراقاها تتألق كمرآة على أشيائه، لا كإستطرادات متفرقة لإرتكاز بعض سردياته، بل لإبراز مجالات فيها يلوح بمصادر إلهامه، وقد يوحي له ذلك بتصورات واسعة لعالم لا متناه، ينسجها وينسج علاقاتها بوحداته التعبيرية التي يفترض بها حاملة لمجل تناظراته من وجهها الإستدلالي.

موفق يلتهم قصائد الجزري، ويتأمل ما وراءها كظاهرة عشقية، وبتعبير أدق كروحانيات تجذب المتلقي دون تعقيد، بل وبالتسامي في الإنشاد معه، أي القيام معه بفعل الإنتقال من الواقع إلى الكمال، فهي مدلولات فنية ذات مضامين جمالية، تتفرد ببعدها الصوفي الروحاني عن سائر مجايليه، ومن هذه الأوجه حيث الغرام في أشده، والعشق الروحي منجذب للرب في رؤيا لا تكتفي بتاتاً بالتعرف بل بالتواصل، هنا ينكشف له أقصد لموفق ما كان محجوباً من تفاصيل ورغبات، فبلوغ الحقيقة التي سعى إليها الجزيري والتي كانت غايته يسعى إليها أيضاً موفق، فيتعاطى الحالة بنقاء لوني وروحي وستبدو له مقارباته مع النص الجزري عبارة عن تفاعلات الحالة بحالة أخرى متخيلة، عبارة عن تفاعلات اللون بالكلام فنحتار أحياناً أيهما حامل للآخر وفاعل فيه، أم أن الموضوع هو خيار آخر يمكن للعين الحالمة أن تردد إيقاعها بصمت ملائكي وعلى ضوء شموع الروح وهي تشق نورها كمعادلات فنية في تقييم العلاج الداخلي بينهما.

 وهنا يشرع موفق بتعبيريته المائلة للتجريد رسم حدائقه بسماع النغمات الصامتة على نحو إزاحة الستار عن مشهد اللقاء بين عشق اللون للكلمة أو عشق الكلمة للون والسماح لهما بالإحتفال معاً في حمام اللوحة، وهذا ما يجعل موفق يترفع داخل اللوحة على الأقل عن سرد الإغراء بينهما، أو عن تلك الغواية التي يعومان في حكايتها، فأجواء اللوحة عنده حكاية عشق بلغة أو بأخرى، بين عصافير الجزري وعصافيره هو، وتجانسهما جعلا العمل داخل السرب الضمني يعلن علاماته المستنبطة من تصنيفاته المعرفية على نحو إمتدادات جديدة لرؤية جديدة يتعاطاها موفق في تخوم صياغاته، في تخوم الإلتقاء ما بين حقل الجزري وحيزه وحقل الإنفعال الذي يدفعه بالإمساك بخيوط تجربته هذه، فالتداخل المنسجم ما بين اللون والكلمة مع وجود تلك الشبكة العلائقية بينهما يذهب موفق نحو بناء نمط ما من سلسلة إحالات تحمل نسقها من العلامات والرموز وفق سيرورة تجربته التي تقوده إلى التجريد في جانبه التعبيري.

فمموفق يوزع بهدوء رذاذات من روحانيات الجزيري مع سنابل دفء شرقي من أمطار يقظته على بؤر سطوحه تاركاً الحواف تنتحر في بياضها، فالحركة التي يرمي بها موفق من الوهلة الأولى في حقله مشبعة بالحس والعشق، ويرافقه سكينة واسعة من مساحات حيويته، دون أي إفراط في اللون، فاللوحة محاطة بفراغ مفتوح فيه يعوم الجزيري بعشقه الحامل لبوصلته نحو الحقيقة المطلقة، وموفق بغيومه الحاملة لأمطاره نحو المسافات الممتدة في اللا زمن، ليعزفاً معاً نشيد القصيدة التشكيلية، ونشيد اللوحة الشعرية.